}

علامات في سنة من المشهد الروائي العربي

نبيل سليمان نبيل سليمان 15 يوليه 2024

منذ أكثر من نصف قرن وأنا أتابع المشهد الروائي العربي. ومن حين إلى حين أحاول أن أقدم باقة من الروايات، من العلامات الفارقة لذلك المشهد. وهذا ما سوف أفعله في ما يلي، ولكن بعد أن أوجز القول في عدد من الروايات التي قرأتها خلال سنة مضت، وأحسب أنها مما هو جدير بالاهتمام، ومن دون أن أنسى أن المشهد الروائي العربي يزخر أيضًا بما هو غث، وقراءته بمثابة العقوبة. ولعل حاجة القارئ بعد أن يفرغ من رواية، أو روايات رديئة، تتضاعف إلى أن يقرأ رواية، أو روايات، تنعم بنعمة الإبداع، فتغسل أدران الرداءة.

دعوة إلى قراءة هذه الروايات


وأبدأ برواية أمين الزاوي "الأصنام ــ قابيل الذي رقّ لأخيه هابيل"، التي تضارع الرواية الأسطورة المؤسسة للأخوة والقتل، وتنبض فلسفيًا بما جعلته عتبة لها، وهو أن البشرية من صلب القاتل قابيل، إذ ليس لهابيل ذرية. وقد تجسد ذلك في الرواية في تعلق حميميد بشقيقه الأكبر لمهدي على إيقاع زلزال مدينة الأصنام عام 1980. ومن الزلزال الطبيعي، إلى الزلزال الاجتماعي السياسي الروحي الذي تمثل بالعشرية الجزائرية السوداء والتطرف الديني والإرهاب، تنبني شخصيات الرواية في الفضاء المترامي بين الجزائر، والسودان، وسورية، وأفغانستان.




وهذه رواية أخرى من الجزائر، هي "عاصفة على الجزر" لأحمد منور. وقد اختارت هذه الرواية موضوعًا جديدًا هو (جزر القمر). فإلى جزيرة موتسامودو يمضي المعلم الجزائري مصطفى بن سعيد، حيث تتقاطع المصائر بين المعلمين والموظفين العرب والأوروبيين والمواطنين الأفارقة، وبخاصة الطلبة ــ الشخصية المميزة الطالبة نعيمة ــ وجمان التي تخدم مصطفى، ثم يتحابان ويتزوجان. وفي صلب هذه المعمعة الاجتماعية تأتي السياسة متمثلة بالانقلابات العسكرية، وما للمرتزقة الأوروبيين في ذلك، في إهاب فني موسوم بالكلاسيكية.
من تونس هي ذي رواية "أخفي الهوى" لدرة الفازع، صوّرت ما يضطرم في المجتمع بعد ثلاث سنوات مما عرف بثورة الياسمين التونسية (2011)، والتي أسرع إليها، كما تصور الرواية، التطرف الديني، وخيبة من ساهموا في الثورة (ريم مثلًا). وقد رسمت الرواية بحذق الشخصية المحورية الجنرال المتقاعد، بخاصة، وشخصية ابنته سلمى وزوجها الطبيب يوسف والطفلة الاستثنائية ريتا.
ومن تونس، أيضًا، هي ذي رواية "قارئة نهج الدباغين" لسفيان رجب، حيث جاءت لعبة تأسيس رابطة الكتاب الأشباح، ولعبة كتابة "الرواية الشبحية"، التي يكتبها شبحان (رجل وامرأة) عن عابر ــ متحول جنسيًا هو إبراهيم الذي صار امرأة. وبذا تنضم الرواية إلى ما سبقها من الروايات التي عُنيت بهذا الموضوع الجديد، مثل رواية إبراهيم عبد المجيد "العابرة"، ورواية طالب الرفاعي "حابي". وكانت رواية "طرشقانة" للكاتبة التونسية مسعودة بوبكر أول ما سلك في هذا السبيل. وقد لعبت، أيضًا، رواية "كل يوم تقريبًا" للكاتب المصري محمد عبد النبي لعبة الأشباح، ولكن في شكل مختلف، حيث العلاقة هي بين فؤاد الشخصية المحورية وأشباحه الذين يتشاركون في السرد. وبالإضافة إليهم يأتي الصحب، ولكل قصته، وبجماع ذلك كله ترسم رواية "كل يوم تقريبًا" دخائل فؤاد المثلي، ودخائل الشخصيات الشبابية بخاصة من الجنسين، والقاع في القاهرة. ولكل من الشخصيات قصته/ قصتها. وقد حفلت الرواية بالمتناصات الطويلة من كفافيس، وكذلك بالشيات السيرية.




مع رواية "الوجه الآخر للظل" للكاتب اللبناني رشيد الضعيف تأتي المغامرة الفنية في مضارعة التراث السردي، وبخاصة منه الألف ليلي ــ نسبة إلى ألف ليلة وليلة ــ حيث التخييل هو النشاط الوحيد الذي يبني الشخصيات والعالم الروائي، وحيث الإهاب اللغوي الذي يلاعب لغة/ لغات السرديات التراثية. ومع رواية "دائرة التوابل" للكاتبة الإماراتية صالحة عبيد يكون للتراث أيضًا فعله، ولكن بحدود الحفريات التاريخية في العصر العباسي، وكذلك في عشرينيات القرن الماضي، وصولًا إلى الأمس القريب. ويُلحَظ النشاط التخييلي المتعلق بالروائح والعطور والتوابل (ولادة شيريهان مثلًا لطفلة بلا رائحة)، وبالموت.
والحفر الروائي في التاريخ هو أيضًا استراتيجية رواية "فومبي" للكاتبة العمانية بدرية البدري، حيث العودة إلى زمن سيطرة بلجيكا على الكونغو. ومع أوروبا وأفريقيا يبلغ فضاء الرواية إنكلترا وأميركا مع شخصية ستانلي المراسل الصحافي الذي يعمل مع الملك البلجيكي ليوبولد الثاني، فترتسم وحشية المستعمر تحت ستار دعوى التحضير. وتتأجج الصور الروائية للحروب وتدمير الطبيعة، ولأسطورة الرجل الأبيض فومبي (الروح الهاربة من الشيطان). وفي رواية "سمعت كل شيء" للكاتبة العراقية سارة الصراف صور أخرى للحرب العراقية الإيرانية، وللسلطة المتألهة، وذلك في مخيال طفلة. وقد توسلت الرواية لعبة اليوميات التي تصف الفضاء وزمن الحرب عبر حيوات الشخصيات المختلفة بين محارب وعجوز وفتيات.
من السعودية، أشير إلى رواية "باهبل: مكة Multiverse 
1945- 2009" لرجاء عالم، التي واصلت في روايتها هذه تصوير تحولات عالم المدينة المقدسة مكة منذ أربعينيات القرن الماضي إلى مطلع هذا القرن، وذلك عبر (لعبة) الأسرة التي تنادي أسرة أحمد عبد الجواد في ثلاثية نجيب محفوظ. ومن السعودية، أيضًا، أشير إلى رواية صالح الحمد "عين الحدأة"، التي تصور المجتمع المعاصر من زوايا أخرى، وبعيون أخرى، منها شخصية الأب الصارم، صنو الأب السردار في رواية رجاء عالم. وتتمحور رواية "عين الحدأة" حول شخصية الشاب وائل المتهم بقتل صديقته، والذي ينتظر الإعدام بعد ثلاثين يومًا، ستنبني الرواية عليها بالعد التنازلي للأيام، بينما تتداخل الخطوط السردية الثلاثة: مراهقة وائل، ودراسته الجامعية في كاليفورنيا، وأيام السجن الأخيرة.


علامات فارقة
من الروايات السابقة، ومن عشرات سواها، أُرسل ما تمثل لي من العلامات الفارقة في المشهد الروائي العربي المعاصر خلال سنة مضت:
1 ــ الرهان على الحكاية وعلى التخييل، ومنهما وفيهما تمثلات وتسريد الأخبار والأحداث والأساطير والوثائق والمعلومات.
2 ــ التفاعل مع الفنون: السينما كما في رواية "مقامرة على شرف الليدي ميتسي" للكاتب المصري أحمد مرسي، التي عادت إلى العشرينيات المصرية من القرن الماضي، فأبدعت شخصيات لا تنسى، ليس ابتداءً بالفتى، ولا انتهاءً بفرس السباق. ومن الفنون، أيضًا، الفن التشكيلي، كما في رواية وجدي الكومي "صاحب المدينة" عن الفنان المصري الكبير الراحل محمود سعيد، أو رواية نورا ناجي "سنوات الجري في المكان"، والموسيقى والغناء، كما في رواية علوية صبح "افرح يا قلبي"، أو رواية مها حسن "مقام الكرد". واللافت هنا هو عدم ترجمة الأغنية الأجنبية في المتن الروائي.
3 ــ الميتارواية، كما في روايتي باسم خندقجي "قناع بلون السماء"، وجان دوست "اللاهي".
4 ــ البوليسية، كما في رواية عز الدين فشير "جريمة في الجامعة".
5 ــ ضغط الفكرية والأدلجة والملخصات السردية، وهذا في كثير.
6 ــ المثلية كما في روايات "عين الطاووس" لحنان الشيخ، و"كل يوم تقريبًا" لمحمد عبد النبي، و"حنان وسيد ياسمينة" لخالد البري، و"عطلة في حي النور" للحبيب السالمي، و"بحثًا عن كرة الصوف" لروزا ياسين حسن.
7 ــ تشوّف المستقبل، كما في رواية يوسف المحيميد "رجل تتعقبه الغربان"، ورواية "2067" لسعد القرش.
8 ــ الرهافة في بناء الشخصية، وفي تنضيد الأحداث، كما في رواية سومر شحادة "منازل الأمس"، ورواية عبد الزهرة الزكي "غريزة الطير"، وفي رواية السعودي إياد عبد الرحمن "إهانة غير ضرورية".
وأخيرًا، بل أولًا وأخيرًا، أشدّد على ما حفلت به روايات كثيرة من الأخطاء الإملائية والنحوية، حتى بلغ الأمر في بعضها أن يكون مجزرة لغوية، ومنها ما هو لكتّاب وكاتبات من المكرسين والنجوم. وتلك مسؤولية مشتركة للكاتب والمدقق والناشر.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.