}

"النبيّ" في أشعار بوشكين

سمير رمان سمير رمان 29 يوليه 2024
آراء "النبيّ" في أشعار بوشكين
ألكسندر بوشكين

تمرّ هذا العام ذكرى 250 على ولادة الشاعر الروسي ألكسندر بوشكين، الذي يعد بحقٍّ أكثر الأدباء الروس تأثيرًا على الأدب الروسي برمتّه، والذي حظيت أعماله باهتمامٍ منقطع النظير، دراسةً وتحليلًا. بلغ الاهتمام بدراسة إرث بوشكين حدًا أبهر كلّ من قرأه، ولن نبالغ إن قلنا إنّ دراسة أعمال بوشكين تقترب من أن تصبح فرعًا من فروع العلم، فقد كتبت عنه آلاف المقالات والكتب، وكثير من الأبحاث لنيل درجة الدكتوراه في الأدب، كرِّس كلّ منها لدراسة عملٍ بعينه من أعمال بوشكين.
يجمع الباحثون والمهتمون بالشأن الأدبي في روسيا على أنّ أشعار بوشكين الخالدة دفعت الشعب الروسي ليظهر شغفًا عامًا في التعرف على الكلمة الأدبية، وتذوّق حلاوتها. وبالفعل، أصبح نموذج بوشكين أحد أهمّ الأسباب التي جعلت من القرن التاسع عشر العصر الذهبي للأدب الروسي برمته.
وعلى المستوى العالمي، استطاع ألكسندر بوشكين بأشعاره الرائعة أن يكون أوّل كاتب روسي يقلب مفاهيم العالم الغربي عن اللغة الروسية.
ومن بين جميع قصائد بوشكين، ربما تكون قصيدة "النبي" من سلسلة "تقليد القرآن" أكثر قصائده إثارةً للجدل في اوساط الأدب الروسي، خاصّةً في ما يتعلق بشخصية النبيّ الذي كان الشاعر يقصده.

مكانة الدين في إبداع بوشكين
عندما يدور الحديث عن علاقة بوشكين بالدين، يستذكر الباحثون، في المقام الأول، قصيدته الشهيرة "النبي"، التي كتبها في أيلول/ سبتمبر عام 1826، في وقتٍ عاد فيه للتوّ من منفاه ليلتقي من جديد بأصدقائه. في موسكو، استُقبل الشاعر بحفاوةٍ في أوساط الطبقة الراقية، وبلغ اعتراف الوسط الأدبي به الذروة، وحاز على الاحترام والمجد بأبهى صوره. ولكنّ الأهمّ من كلّ هذا أنّ الشاعر كان في تلك الفترة في قمة الإلهام الإبداعي.
يشدّد الشاعر في قصيدة "النبيّ" على أنّ الإنسان، الذي اختصّه الخالق بموهبة الشعر، ليس كغيره من البشر، ولهذا يتحتّم عليه أن لا يبدّد عبقريته على توافه الحياة، فهو مكلّفٌ برسالةٍ عظيمة جليلة: أن يلهب بأشعاره الجامحة قلوب الناس. وبالفعل، الأمر لا يحتاج إلى إثبات، ويجب أن يكون كذلك.
يقيّض الله ملاكًا، يلتقي ذلك المسافر التائه في صحراء قاحلة مترامية الأطراف وقد أضناه الظمأ. يمرّ الملاك براحته على جبين ذاك الإنسان، فينفتح أمام ناظريه عالمٌ جديد، عالم مختلف تمامًا، عالمٌ أكثر عذوبة:
"تتّسع عيون الأنبياء، كحدقة نسرٍ خائف،
لمس الملاك أذنيّ، فامتلأتا ضجيجًا ورنينًا:
سمعت السماء ترتجف،
رأيت الملائكة تحلق في الأفق،
شاهدت كيف تسير زواحف البحر تحت الماء،
رأيت كروم الوادي".

وبالفعل، لا يمكن أن يتغنّى بهذا العالم المدهش لسان إنسانٍ عاديّ.
ويواصل الملاك عمله:
"شقّ صدري بسيفٍ قاطع،
وانتزع منه قلبي المرتعش".
قد تكون اللغة المميزة غير كافية ليكون المرء شاعرًا، فالأهمّ هو أن يمتلك الإنسان طبيعة مميزة، لذلك يقول بوشكين:
فتح جمر الفحم في صدري فجوة،
أرقد في الصحراء مثل جثة هامدة،
ولكنّ صوت الله يناديني:
انهض أيّها النبيّ، شاهد واسمع،
ونفّذ إرادتي،
طف البحار والأرض،
وبأفعالك ألهبْ صدور الناس بالإيمان.
على مرّ الزمن، وفي أيّ وسطٍ اجتماعي، يتألق الأدب الكلاسيكي الحقيقي بكلّ جوانبه المذهلة. وقصيدة "النبيّ" هذه هي دليل واضح على ذلك.





مما لا شكّ فيه أنّ الشاعر كان يرمي من تأليف هذا العمل المتميّز إلى تحديد الغرض من الإبداع، وكذلك تحديد مسؤولية الفنان. وحول هذا الأمر بالذات، كتبت مئات المقالات والكتب. من بين تلك المقالات، تلفت الانتباه مقالة كتبها الفيلسوف فلاديمير سولوفيوف تحت عنوان: "معنى الشعر في قصائد بوشكين"، يحلّل فيها الفيلسوف بدقّة قصيدة "النبيّ": ينظر بعضهم إلى "نبيّ" بوشكين كنبيّ محدد بعينه. ويرى بعضهم فيه نبيّ الإنجيل، في حين يعترف آخرون بعلاقة القصيدة بالقرآن، ويرون في "النبي" صورة النبي محمد. إذا كنّا نفترض ضرورة قبول نبيّ بوشكين بمعناه الخاصّ، فإنّنا لا نزال في حاجةٍ إلى حلّ مسألة من يشبه نبي بوشكين أكثر، نبيّ الإنجيل، أم النبي محمد؟

بوشكين والقرآن
طالما أعرب بوشكين بشكلٍ خاصّ عن تقديره للتفرّد الجمالي للقرآن. ويبدو أنّ الكلمات التي كتبها الشاعر في أحد أصعب فترات حياته عندما كان في ميخائيلوفسك، تقول كثيرًا:
"في كهفٍ سري، وفي يومٍ عصيب من الاضطهاد، قرأت كلمات القرآن العذبة الحلوة". ومن المعروف أنّ بوشكين يستخدم كلمة "حلو" ليعبّر عن وعيٍ وإحساس عميقين بالموضوع الذي يتعاطف معه. من جانبٍ آخر، يقف النقاد مذهولين أمام معرفة بوشكين العميقة بمضامين القرآن، ويرى بعض الخبراء أنّ أعماله تغطي أحكام 33 من سور القرآن من أصل سوره البالغة 114 سورة: كلّ هذه المواقف موثقة في سلسلة "تقليد القرآن".
يقول الناقد سيرغي فوميتش/ Fomichev: كان لدى بوشكين في أكتوبر/ تشرين الأول 1824 نسخة من القرآن باللغة الفرنسية. وفي تقديم الترجمة، وردت سيرة النبي محمد بتفاصيلها. ومن المؤكد أن من قرأ بعناية "تقليد القرآن" لبوشكين، وكان في الوقت نفسه على معرفةٍ بسيطة بالقرآن، لن تساوره شكوكٌ في أنّ أشعار بوشكين تطرقت إلى ملامح السيرة النبوية المحمدية الرئيسة كافة: الهجرة من مكّة إلى يثرب، زواج محمد من زينب بنت جحش، طرد محمد من مكّة، العودة إلى مكّة، نزول الوحي للمرة الأولى في غار حراء. مستوحيًا صورًا من آيات القرآن الكريم، يكتب بوشكين بلغة الشعر:
أيّها القدير لقد جعلت الأرض ثابتة،
والسماء فوقها،
وبقدرتك لا تسقط على الأرض،
ولا تسحقنا!
أوقدت الشمس في السماء،
وجعلتها سراجًا منيرًا،
كما فتيل السراج المتشرب بالزيت،
يشعّ في المصباح الكريستاليّ.

كلّ مرّة يسمع المرء تلاوة القرآن، يسحره اللحن لا إراديًا، وتأخذ بلبّه نغمة الكلمات، حتى وإن كان المحتوى غير مفهوم. وبالفعل، فإنّ قدرة القرآن المدهشة على اختراق النفس البشرية تكمن في لحن كلماته المذهل.
لقد كان بوشكين يدرك جيدًا كم هي المعاناة والعذابات التي اعترضت النبي محمد في مسيرة إقامة دينه الجديد. بالإضافة إلى ذلك، كان بوشكين، لحظة تأليفه هذه القصيدة، يمرّ بأزمةٍ نفسيّة عميقة، لم يجد فيها تفهّمًا حتى من أقرب أصدقائه. في رسالته إلى بافل فيزيامسكي عام 1824، يقول بوشكين ساخرًا: "تحتم عليّ الهجرة من مكّة إلى يثرب، وقرآني في يدي، فلا يزال المسلمون ينتظرونه". يقول الشاعر في آخر أسطر قصيدته "تقليد القرآن":
يشعر المسافر بالقوة والسعادة،
دمه يضجّ شبابًا من جديد،
وقد انتشى صدره بسعادة غامرة:
وعلى بركة الله سار على الدرب.
ربما كان بوشكين قد تعرّف على القرآن في أصعب أوقات حياته، فالتجأ إليه يستمدّ الأمل من جديد:
هو الله الرحيم:
خصّ محمدًا بقرآنه المنير،
ونحن بنوره نستنير،
وتسقط الغشاوات عن أبصارنا.
تبدأ قصيدة "النبي" بكلمات تقول: "يعذبني عطشٌ روحيّ/ وأجرّ نفسي في صحراء مظلمة". وهنا تكتسب كلمة الصحراء معنىً خاصًّا. كان محمدٌ يلتجئ وحيدًا إلى غار حراء المقفر على قمّة جبلٍ لا حياة فيه، وقد خاب أمله في من حوله من بشر. يستعيد بوشكين هذا المشهد:
شقّ صدري بالسيف،
وأخرج قلبي المضطرب.
ألا يدلّ هذا على أنّ الحافز الرئيس الذي أضفى على قصيدة بوشكين "النبي" العظمة والفرادة قد استقاه الشاعر من القرآن، وليس من أيّ شيءٍ سواه؟
أمّا شخصية قصيدة "النبيّ" الرئيسة فيمكن أن نستشّفها من خاتمتها، حيث يخاطب الله نبيّه آمرًا:
انهض أيّها النبيّ، شاهد واسمع،
ونفّذ إرادتي،
طف البحار والأرض،
وبأفعالك ألهبْ صدور الناس بالإيمان.
يمكن النظر إلى قصيدة "النبيّ" كملخص جامع يوضّح وجهة نظر الشاعر الأخلاقية. وفيها يكشف بوشكين بعمقٍ وشمولية قوة الفنّ، ويظهر عظم المسؤولية تجاه المجتمع والإنسانية الملقاة على كاهل من خصّه الله بموهبة الكلمة.
والقرآن نفسه، كنصٍّ نثريّ، لا يقلّ شاعريةً عن أفضل الشعر، فهو عملٌ فنيّ خالدٌ، يعتمد نصّه الأصليّ بالكامل على إيقاعٍ داخليّ شموليّ. إنّه في جوهره عملٌ شعريّ رفيع راق. ربما لهذا السبب، أظهر العبقريّ بوشكين العظيم تواضعًا جمًّا بتسمية سلسلة قصائده "تقليد القرآن"، مظهرًا بذلك احترامًا بالغًا للقرآن، وللنبيّ العربي محمد، وفي الوقت نفسه للثقافة الإسلامية كلّها.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.