}

أسبوع الموسيقى القديمة في إنسبروك: احتجاج على الأكاديمية الخانقة

سمير رمان سمير رمان 2 سبتمبر 2024
تغطيات أسبوع الموسيقى القديمة في إنسبروك: احتجاج على الأكاديمية الخانقة
نشأ المهرجان من التاريخ الموسيقي الغني في جبال الألب

استضافت مدينة إنسبروك الألمانية في الفترة من 21 آب/ أغسطس إلى 30 منه الدورة الـ 48 من مهرجان Festwochen der alten Musik Innsbrucker/ أسبوع الموسيقى القديمة.
في هذا العام، غيّر المهرجان إدارته، وحاول إقناع المشاهدين بأنّه سيترك بصمةً موثوقة وعصرية على فعالياته.
المهرجان يقترب من عامه الخمسين بعد عامين، حيث ستحتفل إنسبروك بمرور نصف قرنٍ على انطلاقه. هذه المدّة متواضعة مقارنة مع مهرجانات أكثر عراقة، ولكنّها تشكّل مع ذلك فترة هامّة للغاية: في سبعينيات القرن العشرين، بدأت الموسيقى القديمة والأداء الأصيل في الاستحواذ على عقول عشّاق الموسيقى. لاحقًا، ظهرت مهرجانات لفرق موسيقى عصر الباروك، التي اشتهرت في ما بعد، والتي تبدو لنا اليوم وكأنّها فرقٌ سماوية موقرة، ولكنّها كانت حينها مجرد فرق أفرادها شبّان شجعان متحمسون، منها، على سبيل المثال: Les Arts Florissants، La Petite Bande،Les Arts Florissants, Collegium Vocale Academy of Ancient Music، أكاديمية الموسيقى القديمة.
بالإضافة إلى ذلك، أطلق كلّ من المخرج نيكولاس آرنوكور، والمخرج جان بيير بونيل، إنتاجات مثيرة لثلاثة من مؤلفات الأوبرا للموسيقار الإيطالي مونتيفيردي/ Monteverdi، والتي حققت تسجيلاتها مبيعات كبيرة، فحولت مؤلّف الموسيقى من العصر الباروكي المبكر إلى مؤلفٍ مرجعي في الأوبرا. من ناحية أُخرى، حتى الموسيقى الشعبية، وانطلاقًا من تأثيرات العصور الوسطى وعصر النهضة على موسيقى الروك نفسها، ترى عزف الموسيقى على الآلات القديمة بمثابة اختراقٍ مبتكر.
الأمر الآخر هو أنّ هذه الفتوحات الفنيّة لم تتوقف. ففي حين كان لا بدّ في سبعينيات القرن العشرين من الجري وراء عروض باخ، أو هاندل، أو فيفالدي، وغيرهم من الملحنين الذين سبقوا موزارت، فقد أصبحت الآن مكوّنًا أصيلًا من ذخيرة المسارح الكبيرة، سواء أكان ذلك من خلال تقديم حفلاتٍ موسيقية، أو من خلال المسرحيات. في هذه الحالة، لم يعد ينظر إلى تقديم صناعة الموسيقى الأصيلة، وكأنّها جزيرة، أو محميّة للأصالة، وسط تيارٍ سائد وجارف، أو كاستراتيجية فعالة تمامًا، فيجب على كلّ مهرجانٍ أن يأخذ ذلك في الحسبان حتمًا. في نهاية الأمر، لا ينحصر التنافس في هذا المجال في منتديات موسيقية ذات طابعٍ متماثل، بل توسّع أيضًا ليشمل مهرجانات كبيرة "عادية"، مثل مهرجان إكس آن بروفانس الفرنسي، الذي يدعو بانتظام كبار الموسيقيين الأصيلين، أمثال مغني الأوبرا وقائد الكورس، الفرنسي رافائيل بيشون، أو عازفة القيثارة الفرنسية إيمانويل إيم/ Emmanuelle Haïm للمشاركة في فعالياته.
على مدى 14 سنة مضت، كان يترأس مهرجان إنسبروك عازف القيثارة وقائد الأوركسترا أليساندرو دي ماركي، ولكنّ أسبوع الموسيقى القديمة الحالي أدارته قيادة مختلفةٍ. فقد ظهر منصبٌ جديد منفصل لمدير الموسيقى، شغله الموسيقي الإيطالي الشهير، ومدير فرقة أوركسترا أكاديميا بيزانتينا دانتون، الذي سيقرر برنامج المهرجان بالتعاون مع المدير الفني الجديد إيفا سينس، التي سبق لها أن عملت في إدارة المهرجان منذ عام 2015.
تبدو هذه التغييرات ليست بالكبيرة. فملصقات المهرجان لا تزال حتى الآن تزينها أسماءٌ كبيرة ذات شهرة عالمية. سيقدم ماساكي سوزوكي وفريقه Bach Collegium Japan، وهم الفنانون الذين يجلّون كثيرًا ويتعمقون أكثر من غيرهم في أعمال الموسيقار باخ خارج أوروبا، برنامجًا من أعمال باخ. كما أنّ قائدة الأوركسترا، أندريا ماركون، التي أخرجت أوبرا "ألسينا" (الحاكمة الساحرة لجزيرة وسط المحيط) من تأليف موسيقار العصر الباروكي، الألماني هاندل، على خشبة مسرح البولشوي في موسكو في عام 2017، ستؤدي بالتعاون مع أوركسترا مدينة بازل "لا سيترا" في إنسبروك أوبرا "ديدونا، مؤسسة قرطاج"، التي ألّفها عام 1707 الموسيقار كريستوف غراوبنير. من جانبٍ آخر، سيقوم عازف الكاونتر تينور العصري جوزيف أورلينسكي بأداء الحانٍ وحركاتٍ من العصر الباروكي المبكر مع أوركسترا
Il Pomo d'Oro، الذي يقوده في السنوات الأخيرة قائد الأوركسترا الروسي مكسيم يميليانتسيف.




أقام عازف القيثارة الموهوب وغريب الأطوار، جان روندو، حفلًا موسيقيًّا كان بمثابة المفاجأة: جرى ذلك من دون برامج، أو الإعلان عن الأعمال التي سيؤديها، كي لا تصرف أيّة معلوماتٍ جانبية انتباه المستمعين عن الموسيقى نفسها. بالإضافة إلى ذلك، وصلت أوركسترا Collegium 1704 بقيادة فاتسلاف لوكس، ومغني الباص لويجي دي دوناتو، وفي جعبتها مجموعةً من الألحان الباروكية لـ(هاندل، بوربورا، بوبونتشيني، جيستي)، التي اتحدت جميعها، بشكلٍ غير متوقع لتشكّل صورة العملاق بوليفيموس الصقليّ الأسطورية (ابن إله البحار في الأساطير الإغريقية القديمة بوسيدون. كان يتغذى على لحم البشر، وهو الذي حبس أوديسيوس ورفاقه في المغارة في أثناء رحلة عودتهم إلى الوطن بعد انتهاء حروب طروادة، بحسب إلياذة هوميروس).
وكما في السابق، لا يزال النطاق الزمني للموسيقى التي يتم تشغيلها في المهرجان ضخمًا، وهذه المرّة يبدأ من العصور الوسطى، بأغان مبهجة من المجموعة الأسطورية "Carmina Burana"، التي تؤديها فرقة Theatrum Instrumentorum الإيطالية. ولا تزال المسابقة الدولية التي تحمل اسم الموسيقار بيترو أنطونيو جيستي موجودة في بنية المهرجان كما في السابق. وهذا أمرٌ مفهوم: فالطلب على الأصوات الباروكية لا يزال كبيرًا، حيث أثبت مهرجان إنسبروك أنّه المكان المناسب ليستعرض هؤلاء الفنانون أصواتهم ومواهبهم الرائعة... لا يزال في جعبة المهرجان ورقة الجوكر الرئيسة، وهو الجزء المسرحي من البرنامج: ففي حين تقوم المهرجانات الكبرى الاُخرى، مثل مهرجان أوختيرسكي على سبيل المثال، حصريًا بإقامة الحفلات الموسيقية، فإنّ مهرجان إنسبروك حاول دائمًا أن يعرض أوبرا نادرة كعروضٍ مسرحية كاملة. علاوةً على ذلك، يقدّم المهرجان هذا العام ثلاث مسرحياتٍ دفعة واحدة، وهو الذي اعتاد أن يقتصر على عرضين فقط.
يتم عرض أوبرا "ديدو" (مؤسسة قرطاج) آنفة الذكر لجروينر من قبل المتخصصة الإيطالية في إعادة تشكيل الممارسات المسرحية القديمة، بالتعاون مع مصممّة الرقصات، المخرجة دينا كولويا. بالنسبة لقسم الشباب في المهرجان، فهو مشروع Barockoper التقليدي، حيث قدم يونغ عرضًا مسرحيًا لأوبرا هاندل "أرديان في جزيرة كريت". أمّا القائد الموسيقي الجديد أوتافيو دانتوني فقدّم للجمهور، بالاشتراك مع المخرج ليو موسكاتو، نسخة مسرحيةً لأوبرا جيمينيانو جاكوميلي "القيصر في مصر"، لتغدو الحدث الرئيس والأهمّ في المهرجان.
من الواضح أنّ مهرجان "أسبوع الموسيقى القديمة" قد أولى اهتمامًا مميزًا لابتكار أشكال جديدة للتواصل مع الجمهور، أشكال تواصلٍ لا تتناسب مع العادات الموسيقية والمسرحية المعتادة. في السابق، كان للمهرجان "هامش" خاصّ به، وهو برنامج موازٍ يضمّ فعاليات متنوعة تناسب الجمهور الواسع (في الساحات، في الشوارع، وفي الجبال)، ولكنّ هذه الفعاليات أصبحت أكثر عددًا هذا العام، والأهمّ من ذلك، أكثر تنوعًا.
ثلاثة مشاريع دفعةً واحدة (مع موسيقى روحية لكلٍّ من توماس دي فكتوريا، يوهان إيبرلين، وميشيل غايدن)، ليست حفلات بالمعنى الصارم للكلمة، بل قداسات صلاة الآحاد (في كنيسة إنسبروك اليسوعية في دير ويلتن في معبد ستامز) تمامًا كما بدأت من قبل، بمرافقة موسيقى رائعة. هنا لا يؤخذ بعين الاعتبار جزء الجمهور المحافظ للغاية، بل إنّها تجربة استماع طريفة مفيدة في فهم الكيفية التي يتمّ من خلالها تأليف الموسيقى الروحية، وكيف عاشت وصدحت هذه الموسيقى حتى أصبحت معتمدة حتى اليوم في المؤسسات التي تقيم الحفلات الموسيقية العلمانية.
في السابق، كان هذا الإطار موجودًا في المهرجان، والآن هناك أيضًا، على سبيل المثال، حفلات موسيقية تبدأ في أوقاتٍ متأخرة ليلًا، بالإضافة إلى ما يسمّى بـ"مختبرات الاستماع"، وهي اجتماعات مفتوحة يتحدث فيها الموسيقيون الأصيلون إلى الجمهور عن عصور الموسيقى القديمة، ويردون على الأسئلة الصعبة والبسيطة، وفي بعض الأحيان، يقومون بتوضيح مفاهيمهم من خلال عزفهم الموسيقى الحيّة. ومع ذلك، يبدو أن عنوان الحدث الرئيس وغير المتوقع في المهرجان كان من نصيب الحفل الموسيقي المعروف بـ"جنون الرقص/ Dancing Madness". في هذا الحفل، قام عازف المزمار الشهير ألفريدو برناديني وفرقته Zefiro بجمع مجموعة أنيقة من الموسيقى "المتوحشة" وغير التقليدية لموسيقيين مشهورين، وكذلك لصغار الموسيقيين أيضًا من القرن الثامن عشر، من بينهم موزارت وفيفالدي. دعي للمشاركة في الرقص على وقع أنغامهم راقصو شوارع إنسبروك، وأساتذة الهيب هوب، وراقصون آخرون من مشارب مختلفة، وكلّهم بعيدون عن أيام حفلات "الكعب العالي الحمراء والباروكات الهائلة" (التي كانت سائدة في القرن الثامن عشر). في عام 2019، أدّى راقصو الشوارع السود على مسرح أوبرا باريس على أنغام أغنية "The gallant Indies" رقصة من تصميم كليمان كوجيتور. ولكن في مهرجان إنسبروك تبدو هذه الحفلة تذكيرًا مهمًّا بأنّ "الأداء التعليمي تاريخيًا" هو أمرٌ وإن كان يمكن تعلّمه فهو غير مملٍ على الإطلاق. في السبعينيات نفسها، وإن كان الأمر يبدو متناقضًا، كان الشغف بالعلامات الموسيقية النادرة، وبالأدوات الموسيقية القديمة، شكلًا من أشكال الاحتجاج على الأسلوب الأكاديمي الخانق، كما كان هذا الشغف موجهًا ضدّ كلّ ما هو راسخٌ وراكد.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.