}

مذبحة غزة: تكثيف لحال الاغتراب الفلسطيني

سميرة المسالمة سميرة المسالمة 17 سبتمبر 2024
آراء مذبحة غزة: تكثيف لحال الاغتراب الفلسطيني
(Getty)

منذ عام تقريبًا وغزة تذبح كل يوم، وكل دقيقة، على مشهد من البشر في العالم، وآلة القتل الجهنمية، التي تمثّلها إسرائيل، ما زالت تفتك بشراهة ووحشية بالفلسطينيين، بل وتطحنهم، وتذرهم في الهواء، كما حصل فعليًا لا مجازًا، مع تبخّر مئات الجثث في بعض مناطق قطاع غزة، التي قصفت بـ85 ألف طن من المتفجرات، وتسبّبت بدمار أكثر من 80 في المئة من البنية الحضرية لقطاع غزة، وقرابة 90 في المئة من البنية التحتية.

ما يحصل في غزة، التي باتت أكبر منصة مشاهدة في العالم، هو تمثيل لحالة الاغتراب التي يعيشها الفلسطيني، ويشاهدها العالم، أيضًا، إذ لا يوجد تفسير لهذا التناقض المريع والقاتل، بين استنكار العالم وإدانته للفعل الإسرائيلي، الذي يتمثل الفاشية، وبين شلل إرادة هذا العالم عن فعل أي شيء لوقف المجزرة، كأن العالم يغترب عن نفسه، أو كأن العالم ما زال يتنكر لكل قيم الحداثة التي روّجها عن ذاته.

قصة الفلسطيني مع الاغتراب، لا تتوقف على غربته عن العالم، الذي يتفرّج عليه، كأنه إزاء واحد من أفلام سينما الرعب، التي يقوم بها القاتل بالإعلان سلفًا عن عرض عملية إعدام فظيعة لأحد ضحاياه، بغية رفع عدد مشاهديه، وزيادة رصيده، مع بتر أعضاء الضحية، الواحد تلو الأخر، وهو يتلذّذ بما يفعل من جرائم، في مشهد دام، لكنه متابع ومرئي ويُكافأ عليه من أقطاب مختلفة تحت ذريعة أن القاتل ضحية أكثر من المقتول.

فوق ذلك، فاغتراب الفلسطينيين له خصوصية، فهو ينطوي على الفقد والحرمان والقهر، إنه بمثابة اغتراب مكثف، وحتى إنه اغتراب عن الموت، بدون أن يكون ذلك تقليلًا من ألمنا على موت أحد أحبابنا أو معارفنا. لكن الفقد والحرمان والقهر هو موت معاش، أو عيش في حالة موات، ما يزيد حياة الفلسطيني صعوبة، ويزيد عيشه اغترابًا في واقع لا يعترف بمأساته.

في "رجال تحت الشمس"، ساءل غسان كنفاني أبطاله لماذا لم يطرقوا الخزان؟ لماذا ذهبوا إلى الموت في ذلك الخزان من أجل الإعلان عن وجودهم ودفع ثمن ذلك الوجود، المغترب عن العالم. لكن كنفاني ليس موجودًا اليوم ليحكي لنا روايته عن المأساة الفلسطينية، ونحكي له كيف لم يتوقف الفلسطينيون منذ ذلك الحين عن طرق الخزان، لكن لا أحد يلتفت إليهم، كل من حولهم يريدونهم أن يصمتوا، وأن يموتوا بصمت، وأن لا يعلنوا موتهم كفضيحة لهذا العالم، ولا سيما العالم المسمّى "عربي"، والذي يضيف عليه بعضهم ما يسمى "العالم الإسلامي".

الفلسطيني غريب، غريب في بيته وأرضه،  وغريب بين أبناء دمه، وهو غريب بين أبناء عمومته.

معنى اغتراب الفلسطيني، المتكثف بالفقد والحرمان والضياع، ينطوي على القهر والخوف من الآتي، هذا يشمل فقدان الاحباب والحرمان منهم، وفقدان الأمان، البيت، الحق في العيش، امتلاك الحرية، وامتلاك الذات، والقدرة على تحقيق الأمل.

اختلف الفلاسفة كثيرًا في تحديد معنى الاغتراب، إذ عندهم ثمة اغتراب في النفس، وفي الوعي واللاوعي، أو الشعور واللاشعور، واغتراب بين الذات والموضوع، كما ثمة اغتراب عن العالم، أو في وعي العالم، أو معرفته، لكن الفلسطيني جمع كل معاني الاغتراب تلك، فهو مغترب عن ذاته، وعن حقيقته، وعن أرضه، وعن حقوقه وعالمه وغايته، في عالم يتفجّر اغترابًا، ومثاله الحي غزة.

لا أحد في التجربة البشرية يضاهي الفلسطيني في اغترابه، في الفقد والحرمان والقهر، هذا يحصل يوميًا، بل وكل دقيقة، غزة تدفع الثمن اليوم، بيد أن الفلسطينيين في كل أماكن وجودهم يدفعونه أيضًا، بطريقة أخرى.

ثمة قضايا عالمية كثيرة، مؤلمة ومحقة وعادلة، ولكل شعب قضيته خصوصًا في هذه البلاد التي تعيش بين الماضي والحاضر، ومنها سورية التي يعيش شعبها ذات الآلام ووجع الاغتراب في بلاد لجوئهم، وربما تصبح مأساتهم أكثر عمقًا لأن أسباب وجعهم تأتي من ابن بلدهم وليس من محتل لأرضهم كما هي حال الفلسطيني، وقضيته هي القضية المزمنة والمستمرة والتي باتت بخصوصيتها، ومكانتها، كأنها قضية العالم، أو قضية الضمير العالمي، فهي قضية للحرية والكرامة والعدالة، بحسب ما رسمتها الحراكات في عواصم ومدن العالم. وخصوصية تلك القضية أيضًا، أنها قضية ضد آخر دولة استعمارية، وآخر دولة عنصرية، وآخر دولة إبادة وحشية انتقلت من القرن العشرين إلى القرن الحادي والعشرين متحدية كل منجزات المدنية في الحقوق الإنسانية. 

*كاتبة سورية.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.