}

الرواية وأحابيل الأيديولوجيا

حسونة المصباحي 18 سبتمبر 2024
آراء الرواية وأحابيل الأيديولوجيا
فتن أورويل في البداية بالشيوعية (Getty)

كان بولغاكوف صاحب رائعة "المعلم ومارغريت" واحدا من الذين رفضوا الانصياع لتعاليم الواقعية الاشتراكية. وتعدّ يومياته وثيقة نادرة عن الأوضاع والفواجع التي عاشتها روسيا في عشرينيات القرن الماضي. وبنظرة ثاقبة، وبسخرية لاذعة، يصف لنا بولغاكوف ما كان يحدث في الواقع اليومي آنذاك حيث يسود الجوع والخوف، وحيث كان الزعماء البلاشفة يتصارعون من أجل الفوز بالسلطة. وفي يومياته، تحدّث بولغاكوف عن معاناته اليومية. ففي يوم الجمعة 26 تشرين الأول/ أكتوبر 1923، كتب يقول: "في هذا الوقت، من الصعب العيش بالقلم. وبسبب آرائي التي تنعكس في كتاباتي، أحببت ذلك أم كرهت، أنا أواجه مصاعب لكي أعيش، ولكي تطبع كتبي. ثم إن متاعبي الصحية تزيد في تعقيد الوضع في مثل هذه الظروف". وفي آخر يومياته- وتحديدا يوم الأربعاء 25 شباط/ فبراير 1925ـ كتب يقول: "أنا أواجه مشكلة مستعصية تبدو من دون حل. هذا كل شيء". ولعل "المشكلة المستعصية" لم تكن سوى الثورة البلشفية ذاتها. لذا كان الفرنسي فرانسوا فلامان على حق عندما كتب يقول بشأن يوميات بولغاكوف بأن هذا الأخير كان "يحس بأنه محاصر في عالم يرفضه". كما أنه كان يحس بأنه" مراقب ومهدد".

لقد أبرز التاريخ أن الأنظمة السياسية التي تُخضع نفسها لأيديولوجيات صارمة، أيّا كان نوعها، هي الأشد عداء للفن والإبداع في جميع المجالات. وعندما اندلعت الحرب الكونية الثانية، أمر ستالين الكتاب والشعراء الروس بأن تكون مؤلفاتهم منذورة لتمجيد بطولات الجيش الأحمر. وكثيرون منهم استجابوا لهذا الأمر. وخلال سنوات الحرب المريرة، صدرت مئات الروايات من الصنف المذكور. لكن بعد الحرب، نسيت بسرعة، ونادرًا ما تبقّى منها راسخًا في ذاكرة الناس. أما قصص إسحاق بابل الذي أعدمه ستالين عام 1939 لأنه لم يتقيّد بأساليب "الواقعية  الاشتراكية"، فستظل إحدى روائع الفن القصصي في تاريخ الأدب الروسي على مرّ العصور.

وكان الكاتب البريطاني جورج أورويل قد فتن في البداية بالشيوعية. لذا لم يتردّد في الالتحاق بالجمهوريين في الحرب الأهلية الإسبانية عند اندلاعها في عام 1936. إلاّ أنه سرعان ما انتبه إلى أن الشيوعيين لا يقلون تحجّرًا وعنفًا عن الفاشيين بزعامة الجنرال فرانكو قاتل فريديريكو غارسيا لوركا. لذلك فرّ هاربًا. وفيما بعد كتب نصًا عميقًا حمل عنوان: "الأدب في مواجهة الأيديولوجيات الشمولية"، وفيه أشار إلى أن السياسة في معناها الواسع  "غزت الأدب" بدرجة لم يسبق لها مثيل بحيث أصبح المبدعون الحقيقيون الذين يرفضون الانخراط في القطيع مهدّدين في وجودهم ذاته. وبسبب هذا "الغزو"، قد يأتي يوم ينتفي فيه الأدب تماًما لتعوّضه الخطب والشعارات والمواعظ الأيديولوجية. وأضاف جورج أورويل يقول: "كل الأدب الأوروبي الحديث (وأنا أتكلم هنا عن أدب القرون الأربعة الماضية) يعتمد على النزاهة الثقافية. وإذا ما أنتم فضلتم ذلك، هو يعتمد على مقولة شكسبير: كنْ وفيًّا لنفسك. وأول شيء نطلبه من الذي يكتب هو ألاّ يروي أكاذيب، وأن يقول لنا ما يفكر فيه، وما يحسّ به فعلًا. وأكبر مؤاخذة لنا عن أي عمل فني هو أن يكون غير نزيه، وغير صادق. وهذا ينطبق على النقد أكثر مما هو ينطبق على الأدب الإبداعي حيث يمكننا أن نتقبل نوعًا من التكلف ونوعًا من الانفعال، لكن من دون أن يتخلى الكاتب عن نزاهته. إن الأدب الحديث هو قبل كل شيء شأن فردي. إنه التعبير الحقيقي عما يفكر فيه الإنسان، وعما يشعر به، أو لا شيء".

وكان جورج أورويل صادقًا ونزيهًا مع نفسه خصوصًا بعد أن تخلى عن الشيوعية. وعندما فرّ من جبهة القتال في إسبانيا، لم يكتب عن بطولات الجمهوريين، بل عن جندي فاشي شاهده يتبرّز على ضفة جدول. فكان بالنسبة له رمزًا للضعف الإنساني المتخفي وراء قناع القوة الزائفة. ولإدانة الإستبداد الشيوعي، كتب جورج أورويل عملين رائعين هما "1984"، و"مزرعة الحيوانات".

قد يكون فاضل إسكندر (يمين) على حق عندما قال بأن الإنسان المؤدلج رغم كل ادّعاءاته ومزاعمه يكفّ عن أن يكون إنسانًا (Getty)


إن الروايات ذات المنحى الأيديولوجي التي تمجّد البطولات، وتتحاشى التطرّق إلى الضعف الإنساني، وفضح الأكاذيب والأوهام، وترفع من شأن ما يسمى بـ"البطل الإيجابي"، سرعان ما يخبو بريقها، وتفقد قيمتها، وتأثيرها على الناس. وهذا ما أثبته الواقع في جل الأنظمة الشمولية. أما الروايات التي احتفظت بنضارتها، وظلت راسخة في الذاكرة الإنسانية فهي تلك التي أثبتت "صدق ونزاهة" أصحابها. وجلّ أبطال هذه الروايات شخصيات قلقة، فاشلة، مهزومة، وجبانة حتى وإن أظهرت القوة، والشجاعة. فدون كيخوته يركض من البداية إلى النهاية خلف أوهامه فلا ينتبه إلى سرابها إلا وهو على فراش الموت. ومدام بوفاري في رائعة فلوبير تتمرّد على الحياة الزوجية الرتيبة والقاتمة لتعيش قصة حب عاصفة، وفي النهاية تنتحر. وكذا الحال بالنسبة لأنا كارينينا في رائعة تولستوي. وبسبب "اعترافات" جان جاك روسو يموت جوليان سورال بطل رواية "الأحمر والأسود" لستاندال بعد أن يعيش مغامرات الحرب والعشق. وأجمل روايات الحرب تلك التي تصوّر الهزائم والخيبات المرة مثل "لا شيء يحدث على الجبهة الغربية" لأيريك ماريار رومارك، و"النيئون والعراة" لنورمان مايلر. ويفشل بطلا فلوبير "بوفار وبكوشي" في كل المشاريع التي يخطّطان لها بكل حميّة وحماس. وفي رواية "أوليسيس" لجيمس جويس، نحن نجد أنفسنا إزاء رجل مهزوم تخونه زوجته على مرأى ومسمع منه. ويقوم مارسو بطل كامو في "الغريب" بقتل عربي على الشاطئ مدّعيًا أنه فعل ذلك بسبب الحرارة. وفي "الصخب والعنف"، يصوّر لنا ويليام فوكنر انهيار عائلة أرستقراطية من خلال جنون الابن الأصغر، وانتحار الابن الأكبر بعد أن يكتشف خطيئة حبه لأخته كاندي. أما الأم فلا تكاد تصحو من السكر. وفي رواية "تحت البركان" لمالكوم لاوري، ينتهي القنصل البريطاني السكير ميتًا في حفرة مثل كلب سائب.

ويقتل راسيلنكوف "في الجريمة والعقاب" لدستويفسكي عجوزًا وخادمتها لسبب تافه. وتقوم الليدي شاترلي في رواية دي. إتش لورنس بخيانة زوجها لتنسى شلل زوجها الأرستقراطي. ويحاكم جوزيف ك. بطل كافكا بتهمة لا يدريها ليطعن في النهاية في القلب. أما غريغوري سامسا فيستيقظ ليجد نفسه وقد تحول إلى حشرة بشعة. ويتباهى سعيد أبي النحس المتشائل في رواية إميل حبيبي بجبنه، ويفاخر بخيانته لوطنه بينما يموت الناس من حوله، ويهجرّون، وتحرق بيوتهم وحقولهم. وفي" رجال تحت الشمس" لغسان كنفاني، يحلم ثلاثة من الفلسطينيين بـ"الجنة الموعودة" غير أنهم يموتون اختناقًا في الخزان، وتلقى جثثهم في الصحراء. ويخوض مصطفى سعيد، بطل "موسم الهجرة إلى الشمال"، مغامرات مثيرة في لندن، وفي النهاية يغرق في النيل بعد أن يعجز عن بلوغ أيّ واحدة من الضفتين. ويذهب "أديب" طه حسين إلى فرنسا ليثبت نبوغه إلاّ أنه ينتهي مجنونًا يهذي في الشوارع الباردة. وجلّ أبطال قصص وروايات محمد شكري ومحمد زفزاف لصوص ومهربون وبغايا ومروّجو مخدرات وفنانون فاشلون وخادمات بائرات. وعند محمود المسعدي ينهار السد الذي كان غيلان يرغب في بنائه، ويغرق أبو هريرة في النهاية في الحيرة، ويعذّبه السؤال عن معنى الحياة والحب والموت.

يقول ميلان كونديرا بأن الرواية هي "استكشاف الذات والتوغل في الحياة الداخلية" التي كان مارسيل بروست يراها "معجزة مدهشة"، و"نهاية تصيبنا بالدوار". وهذا ما دلّت عليه الروايات العظيمة الراسخة في الذاكرة الإنسانية. أما الأيديولوجيات بشتى أصنافها فتنتشلنا من ذواتنا، ومن حياتنا الداخلية موهمة إيانا بأن كل المصاعب يمكن أن تزول، وأن العالم الخارجي قادر على أن يحقق لنا السعادة التي نبتغيها، ويحوّلنا إلى أبطال جديرين بالإحترام والتقدير. إلّا أن الروايات العظيمة تبرز لنا أن العالم الخارجي هو "سلسلة من الكارنفالات" بحسب تعبير فاضل إسكندر.  لذلك فإن كل إنسان "يشكّك في مجتمع أيديولوجي يجد صعوبة كبيرة في تحمّل شكوكه ذاتها. وهو يشعر باليتم في بلاده". من هنا ندرك لماذا أحرقت الكتب في المجتمعات المؤدلجة، وعذّب المبدعون والفنانون، أو هم قتلوا أو أجبروا على الفرار إلى المنافي. وقد يكون فاضل إسكندر على حق عندما قال بأن الإنسان المؤدلج رغم كل ادّعاءاته ومزاعمه، يكفّ عن أن يكون إنسانًا. 

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.