لقد دخلت الصور حديثًا إلى حياتنا، لتعوّض السينما والتلفزيون بعدها، وحكايات الجدّة في الليالي الباردة، والحكواتي في حلقات الساحات الشعبية. وبعد أن كانت تلك القصص والحكايات والخرافات تؤثّث متخيّلنا وتسْرح بنا بعيدًا في عوالم الخيال، صارت صور أفلام الوسترن، والأفلام البوليسية، وأفلام الحرب والكاراتيه، وقصص الحب الهندية، تشكّل إيقاع حياتنا. صرنا نراها ونتحاكاها ونحاكيها. كانت فوتوغرافات الشرائط التي يرمي بها مسير آلة العرض في الشارع تشكّل "تجارة" لنا نحن الصغار، نتداولها ونبتاعها لنصنع في دروب المدينة الضيقة شاشة للعرض بوسائل بدائية وقطعة قماش أبيض. لقد أدركنا منذ ذلك الوقت أن اللغة أداة للتواصل والحوار والمشادّات الكلامية والسخرية من الآخرين؛ أما الصور فهي مدخل لعالم عجيب آتٍ من مفاوز أخرى، تتهادى فيه النساء الحسناوات والرجال الفحول بعيونهم الزرق وشعورهم الفاتحة. كانت فتنة الصور أعتى وأعمق، وكنا لا نحسّ بسلطة اللغة إلا بين الفينة والأخرى. خاصة وأن اللغة الفصحى التي كنا نتعلّمها في المدرسة لم تكن تسعفنا في شيء في حلّ معضلاتنا اليومية. كانت هي لغة المدرسة والكتاب فقط، أي لغة حكايات جرجي زيدان وروايات نجيب محفوظ وأدب طه حسين.
ثم إننا ونحن نبدأ منحدر العمر وجدنا أنفسنا وقد زُجّ بنا في عالم جديد تتناسل فيه الصور والآليات الحاملة لها، وتبلُونا بدُوار كبير لم نعهده من قبل. فبعد أن عشنا ندرة الصور الشخصية والعائلية، وبعد أن كان الذهاب لأخذ صورة فردية أو جماعية في الاستوديو أشبه بعيد ميلاد بصري للذات، غدت صورنا تملأ هواتفنا وحواسبنا وخزانات المعطيات إلى درجة لم نعد نذكر لا أين ولا متى التقطناها أو التُقطت لنا. وقد صارت الإيموتيكونات المرسومة، كما الصور والتواصل بالفيديو، تعوّض اللغة جزئيًا أو كليًا، وأضحى البصري سابقًا على السمعي بعد أن كان تابعًا له. وتحوّل التواصل إلى فيض سائل غامر أشبه بالطوفان، نغرق فيه طواعية إلى درجة الإدمان. ومن غريب الأمور أن هذا الفيض لا يمسّ فقط جيل الزابينغ الذي تربى في أحضان وسائل التواصل الاجتماعي، بل وجد فيه الشيوخ والأمهات والجدات ديْدنهم، فتعاطوا معه بانسياب باهر، كما لو أن العدوى صارت شاملة بحيث إنها لا تبقي ولا تذَر.
أيمكن بلورة نظريات للصورة؟
ليس من الغريب أن الأدبيات التي تسعى إلى الإمساك بالصورة أتت منذ نهاية القرن الماضي للإجابة على الأسئلة الجديدة التي طرحها الانتقال من الصورة التقليدية (الفوتوغرافيا والسينما والتلفزيون) إلى الصورة الرقمية بتحولاتها السيالة والمتسارعة، وبتكنولوجياتها المتقدمة على الدوام. وكان من المنتظر أن يتجاوز هذا الأمر الفلاسفةَ والمفكرين، لتمسّ هذه العدوى علماء اللسان والسيميائيين ومنظري الأدب والفنون البصرية. فلقد غدا التفكير في الصور والعولمة البصرية مجالًا مشتركًا لكافة المباحث والعلوم. ومع ذلك تظل أسئلة الصورة والرقمية أسئلة نافرة متماوجة، عصية على الإمساك ومنفلتة من عقال المناهج والمقاربات، وكأنها بذلك تتحدّى ممكنات التفكير البشري.
إذا كانت اللغة تتطوّر تبعًا للاستعمالات الشخصية والجهوية والجماعية، فإن هذا التطوّر لا ينسينا أصولها ومعاجمها ومدلولات ألفاظها وتعابيرها. بل إن أصول اللغة العربية وقواعدها مثلًا صارت تحظى باهتمام كبير، في وقت دُمّرت فيها الصحافة وتواتر الاستعمال الخاطئ العديد من جوانبها. وهو ما يعني أن اللغة تسعى لتقوية نفسها وشدّ أزرها في مواجهة أشكال التواصل الجديدة وأنماطه. أما الصورة، فإنها لا تشتغل باعتبارها نسقًا وإنما باعتبارها تعدّدًا نافرًا. فنحن لا نتحدث عن الصورة إلا باعتبارها مجازًا لأنماط عديدة من البنيات البصرية كالصورة المرسومة والصورة المصبوغة والصورة الفوتوغرافية والصورة التناظرية والصورة الرقمية. ثم إن حواملها وأسندتها تلعب دورًا كبيرًا في صياغتها.
لهذه العلل ولغيرها، يكون من باب الاختزال اليوم، كما كان الأمر في الستينيات والسبعينيات، الحديث عن بلاغة للصورة مثلما سعى رولان بارت إلى ذلك بنزوع بنيوي دوغمائي، قبل أن ينتبه لـ"خطئه" ويترك لنا كتاب "الغرفة المضيئة" وهو من أجمل وأعمق ما ألِّف عن الصورة الفوتوغرافية. كما أن وهم السيميائيين في أواخر القرن الماضي ببناء نَحْوٍ للصورة لا يمكن إلا أن يذكّرنا بنزوع هذا المبحث إلى الخروج من قوقعته اللغوية باتجاه مجالات تنتمي للأنثربولوجيا والفينومينولوجيا (الجسد والصورة).
إذا كان ثمة للصورة من خاصّية أساس فهي أنها كيان يشتغل لا بذاته فقط وإنما بآثاره. وهذا بالضبط ما أدركه رولان بارت في كتابه السالف الذكر. بل هذا ما أكّده كتاب ريجيس دوبريه "حياة الصورة وموتها"، في تصوّره الوسائطي للصورة. فما سعى إلى تقديمه هذا المفكر ليس نظرية للصورة أو الصور وإنما نظرية للوسائط (ومن ضمنها الصورة). وهو لم يترك لنا تاريخًا للصورة وإنما تاريخًا للنظر، أي لتلقّي الصور. وهو ما يعني أن الصورة لا يمكنها أن تكون موضوعًا للتنظير، بالمعنى التقليدي المتداول، لأنها أصلًا منفلتة من كل إمساك نظري نظرًا لتحوّلها وتغيّر أسنادها وتبدّل أنماط استعمالنا وتلقينا لها. فـ"ماهيتها" لا تتشكل إلا بآثارها وباندراجها في تاريخ لنظرتنا إليها. وما أُنتج من أدبيات عن الصور ومن تصنيفات لها، منذ بداية القرن الجديد، هي مساعٍ لمحاولة الإمساك بحربائيتها الناجمة عن السرعة المفرطة في تطورها. إنها حربائية تزيد من وطأتها التطوّرات التكنولوجية وتفشّي استعمالها وتوسّع أنماط الاستعمال تلك. من ناحية أخرى، أضحت الصور تغزو جميع المجالات، العلمية واليومية والثقافية. وهي بذلك لم تعد ظاهرة ثقافية فقط، كما كان الأمر في عصر السينما والتلفزيون، وإنما غدت ظاهرة وجودية.
ولا أدلّ على ذلك من أن دخولنا للافتراضي، مع تفشّي استعمال الصور في العالم الأزرق، قد غيّر بشكل جذري بنية مفهومين جوهريين ظلّا يحكمان بنية التفكير منذ زمن طويل. فلقد فقد الواقع واقعيّته ليتحوّل إلى واقع افتراضي يُعاش عن بعد وفي الصور، وبالمقابل، أضحى المتخيل واقعًا ملموسًا. ولا بد من التذكير هنا بأن كلمتي صورة وخيال من جذر واحد في اللغات اللاتينية كما في العربية (image- imaginary). والصورة في العربية ظل وخيال وشبح. إن سطوة المتخيل هذه التي أتت بها وفرة الصور الرقمية، وقدرتها الهائلة على التنقل، والحرية التي تمتلكها في أخذ النفس وفتنة العين، هي التي جعلت الناس يتواصلون أكثر فأكثر بتقنيات التصوير المباشر (بالزوم والاتصال بالفيديو، كما بالفيديو المحاضرة). لم يعد من الضروري إقامة محاضرة بالمباشر، ولا الحضور في مناظرة جسميًا، ولا اللقاء العيني لكي يتحقق التواصل. فلقد غدت الصورة أشبه بالسحر، تستحضرك في بعدك وغيابك، وتستنطقك في حضورك الافتراضي، مهما نأت المسافة وكان مكانك قصيًّا.
سرعة تطور الصورة من سرعة إمساكنا بها
لقد حدثت هذه التطورات الباهرة في ما لا ينيف عن عقدين فقط من الزمن. وصارت الصور الآن غريبة عن تاريخها، لتتمكن التقنية منها وتحوّلها تحويلًا جذريًا يكاد يغرّبها عن أصولها التاريخية. لنعترف بأن السرعة التي بها تستوطن الصورة في اليومي وتغيره، لا تسمح لتفكيرنا البشري بالتنظير الكامل لها. ففي الوقت الذي نكون بصدد استيعاب ذلك، تكون تكنولوجيا الصور والتواصل البصري قد حققت قفزة وقطعنا بونًا شاسعًا في التطور. وهي بذلك، إن لم تلغ بعض نتائجنا النظرية، فهي على الأقل تطرح عليها السؤال. والأمر لا يعود هنا لـ"طبيعة الصورة" وإنما لتعدّدية أثرها واستخدامها.
عنّ لي وأنا أكتب هذا المقال أن أسائل باللغة الفرنسية الذكاء الاصطناعي عن الفرضية التي أطرحها هنا. فجاءني جوابه بلهجته الصارمة التي "لا لبس فيها" (والتي أترجمها بأمانة إلى اللغة العربية): "تتطوّر الصور بسرعة، خاصة بفضل التقنيات المتقدمة وتطور الوسائط الجديدة. بيد أن قدرتنا على فهمها لا تتطابق دومًا مع هذه السرعة. إن فهم الصور يتطلب غالبًا سياقًا ثقافيًا وتاريخيًا معينًا ومرجعيات قد تحتاج للوقت لتمثلها. وهكذا، ومع أن الصور تتغيّر بسرعة، فإن تأويلنا وتحليلنا قد يظلان أبطأ، متأثرًا في ذلك بعوامل من قبيل التربية والتجربة والوقت الذي يأخذه التفكير فيها". إن هذا الجواب، وهو يؤكّد زعمي، لا يفصِّل كثيرًا في الحيثيات التي تجعلنا شبه عاجزين عن الإمساك بتطور الصور. فنحن نعيش في الصور قبل أن نقيم معها المسافة التي تسمح لنا بتفكّرها. إننا نراها ونخضع لآثارها قبل أن نحوّلها إلى موضوع للتفكير والملاحظة.
وفي مجتمع يسود فيه التفكير في اللغة، وتحكمه أخلاقيًا ودينيًا نصوص لغوية متوارثة، يجد الإنسان العادي نفسه في يومه عرضة للانفصام: يعتقد في اللغة التي تتحكّم في إيمانه، ويعتقد في الصور التي بها يجسّد هذا الإيمان، ويخال أن الصور خديمة لهذا الإيمان. ولا يخفى أن الصور عزّزت في مجتمعاتنا العربية الفكر الأصولي (الذي يجيد استخدامها) وجذّرت بشكل كبير عودة مظاهر المقدّس والتقاليد العتيقة، وهي، من ثمَّ، جذّرت الشرخ الانفصامي بين الانتماء لهذا القرن واستعادة العوائد التليدة. وتلك مظاهر من ضمن مظاهر كثيرة لا ننتبه إليها. فالصور، باعتبار استعمالها وآثارها، إن كانت تساهم في العولمة المتنامية، تندرج أيضًا في الفضاءات الثقافية المحلية وتأخذ أشكالها وتتلون بمحدداتها.
لهذا، لا يكفي أن نستعيد النظريات الغربية عن الصورة، فهي أيضا تلهث وراء إدراك وتحليل صورها التي تنتجها. إننا أمام أنماط تحوير واستهلاك محلية، تندرج فيها الصور في مسالك جديدة تسم مجتمعاتنا المركبة، حيث تتعايش أنماط اجتماع واقتصاد وتواصل وثقافة متباينة (تقليدية وحديثة في الآن نفسه). وهو ما يستدعي منا مقاربات مغايرة وإنتاج فكر مغاير (لا ليلغي تلك النظريات وإنما يحيّنها)، لكي نسعى إلى الإجابة على الأسئلة التالية: هل يستهلك الإنسان العربي وينتج ويعيد إنتاج الصور على شاكلة نظيره في عوالم أخرى؟ وهل ينظر إليها، ومن ثمّ هل عليه تفكُّرها، بالطريقة نفسها؟ وهل الصور لدينا، في نهاية المطاف، هي نفسها في مواطن أخرى؟