}

ذكرى النكسة.. لم نزل نمشي في اتجاه وطننا

راسم المدهون 3 يونيو 2020
استعادات ذكرى النكسة.. لم نزل نمشي في اتجاه وطننا
لوحة ضمن مجموعة بمركز الفنون في أوجي، كاليفورنيا

في قاموس السياسة عاش اسمها "ملتبسا" إذ هي "النكسة"، فيما هي في الوعي حتى اليوم نكبة كبرى أخرى اكتمل بها احتلال فلسطين وكان لها هي أيضا مئات آلاف النازحين عن بيوتهم ومدنهم للمرَة الأولى وعن مخيمات نزحوا إليها في نكبتهم الأولى وعاشوا فيها يحلمون وينتظرون: في صباح الخامس من حزيران/يونيو كانت الطائرات الإسرائيلية تتساقط من أثير محطة "صوت العرب" وكان الرقم الأول 23 طائرة، فبدأنا العدَ ولم نلبث أن توقفنا بعد أن تزايدت الأعداد حتى صدمتنا تلك المكالمة المشؤومة التي التقطتها إسرائيل وراحت تكرر بثها "دار الإذاعة الإسرائيلية" طيلة يومين كاملين فأصابتنا بالذهول، أعني مكالمة الرئيس الراحل جمال عبد الناصر مع ملك الأردن الراحل حسين.
غزة التي يمتد قطاعها بطول لا يتجاوز خمسة وأربعين كيلومترًا وبعرض يتراوح بين 8 و12 كيلومترًا كانت مكانا يعجُ بالناس وغالبيتهم من لاجئي عام 1948 من يافا في منتصف السهل الساحلي مرورا بمدن أسدود والمجدل واللد والرملة وقراها وصولا إلى محيط مدينة غزة التي احتلت بعض قراها في النكبة الأولى. هؤلاء أصبحوا في عام 1967 نحو ثلاثمائة ألف مواطن ولاجئ صقلتهم فداحة الفقد فانهمروا على المدارس والجامعات وصاروا خلال سنوات أقل من عقدين يصدرون إلى دول الخليج العربي المعلمين والمهندسين والأطباء، بل ومن كل الاختصاصات والمهن.
المكان الذي كان ضيقا كان في الوقت ذاته متسعا للإرادة والحلم معا: السلاح كان قليلا وقليله هذا كان من عصر "جيش التحرير الفلسطيني" والجيش المصري وما وزعاه على "المقاومة الشعبية" من بنادق نصف آلية (سيمينوف) كانت أداة بدايات المقاومة المسلحة للاحتلال بعد ذلك.
اليوم، وبعد كل العقود التي مرّت، تعود بي الذاكرة إلى ملصق رأيته على جدار "مبنى الجمارك" قرب القنطرة شرق والذي استخدمه جيش الاحتلال في تلك الأيام مركزا له. في الملصق جندي يحمل بندقية وفي عينيه تصميم وتحت الصورة عبارة: سيناء بوابة النصر. الصدمة كانت في المفارقة الكبرى في أن أرى ذلك الملصق في المكان والزمان الخاطئين فالهول كله أن تتوعد عدوك فيما أنت في أسره وتحت قبضته. كلام كثير، وأحداث لا تحصى كنت أستعيدها في تلك الساعات على أن أشدّها مرارة كانت محاولة المقارنة بين نكبتين: نكبة عام 1948 الكبرى والتي حققت للعدو تأسيس كيانه وتشريدنا والنكبة الأخرى الجديدة التي أسقطت "ما تبقى لنا" حيث بدت لي النكبة الثانية أقسى وأشد فتكا بحياتي، ففي عام 1948 وبعده كانت الأحاديث كلها تدور حول تقاعس الأنظمة الرجعية والمتواطئة مع بريطانيا العظمى والتي لا أمل لأحد فيها، بينما وقعت النكبة الثانية في ظل أنظمة التحرر الوطني، أي أنني أحسست يومها بهزيمتي الشخصية وهزيمة أحلامي واندحارها.

في لحظة صعودي إلى زورق الهلال الأحمر لعبور قناة السويس إلى الضفة الغربية كانت تصلني سخرية جنود الاحتلال ووصاياهم لنا بأن "نسلم على ناصر" الذي كان حاضرا رغم قسوة اللحظة وكآبتها، وكنت أستعيد محطات حضوره في حياتنا وبالذات حرب العدوان الثلاثي عام 1956.
ليس حزيران محطة عابرة فهو قطيعة مع المكان والزمان معا: أصدقاء لم أرهم من يومها، عاشوا ورحلوا في رحلة الغياب والأقسى حين كنت أشاهد صور أو أسماء أبنائهم الذين ولدوا وعاشوا ورحلوا في الانتفاضة وأتعرف عليهم من خلال أسمائهم الكاملة. حزيران في حالة كهذه رحلة جهنمية لم تنقطع لحظة حتى ونحن نقف هذه الأيام أمام استحقاقات كبرى يضعها ترامب تحت عنوان "صفقة القرن" فيما أثق أن القرن كاملا كان ولا يزال عصفا من الحروب والآلام والترحال المستمر في بلاد كثيرة. أخذتنا نكبة الخامس من حزيران/يونيو 1967 إلى حيث لا مستقر فأسكنتنا في رمال متحركة نستيقظ فلا نجدها، تماما كتلك التلال في سيناء، الصحراء الشاسعة والتي وعدتنا نظرة الجندي في الملصق الشهير بأنها ستكون بوابة النصر فجاءتنا الكارثة ومعها رحلة طويلة مع الثقافة والقراءة ومحاولة التعرف على العالم من حولنا: قبل الخامس من حزيران كنت قد قرأت "رجال في الشمس" رواية غسان كنفاني الأشهر ولم تزل هذه الرواية في وعيي الرواية الفلسطينية الأهم ببعديها الواقعي والرمزي معا وبالذات من خلال تقديم ثلاث شخصيات ترمز لثلاثة أجيال فلسطينية كانت بأعمارها تلك حاضرة في حياتنا في تلك المرحلة. رواية "رجال في الشمس" وجدتُ تطورها واستمرارها في رواية "البحث عن وليد مسعود" للراحل جبرا إبراهيم جبرا خصوصا وقد نجح جبرا في جعل الفلسطيني "يشيع" في الوعي العربي رغم اختفائه، وينجح في أن يكون كلمة السر في قضايا العرب وآمالهم الكبرى التي تختصرها فلسطين بتكثيف بليغ وجارح معا.

 نجح جبرا في جعل الفلسطيني "يشيع" في الوعي العربي رغم اختفائه


















اليوم، ونحن نعيش واحدة من أكثر مراحلنا كعرب قتامة، أرى المواجهة مع الاحتلال وكأنها تبدأ للتو: بعد قرابة قرن من الصراع لم نزل في فلسطين حاضرين بملاييننا ذاتها التي واجهت الانتداب والهجمة الصهيونية والتهويد والاقتلاع، ونعرف أن الحياة لا يمكن تبسيطها في تلك الصورة الساذجة التي تقدمها حلول ترامب التصفوية فالعالم ليس ساكنا، مثلما لا يمكن للحياة ذاتها أن تكون ساكنة أو "نهائية" فالمهم بالنسبة لي أن نقبض على الحلم وأن نواصل التمسك بالرواية الأصلية التي تحاول الحركة الصهيونية سرقتها وقلبها ظهرا على عقب: هم يجتهدون في محاولة تأكيد أكذوبتهم التي لا تصدق ولكنهم يعرفون أن في العالم الراهن من يرغبون عن سابق قصد في تصديقها وتعميمها باعتبارها حقيقة.
لذلك اليوم البعيد، الاثنين، الخامس من حزيران/يونيو 1967، أرنو ببصيرة ذاكرتي وأستعيد السنوات والشهور والأيام بل والساعات لأقول للزمن: نحن لم نزل نمشي في اتجاه وطننا.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.