}

ذكرى رحيل يوسف الصائغ.. شاعر الألم

راسم المدهون 14 نوفمبر 2021
استعادات ذكرى رحيل يوسف الصائغ.. شاعر الألم
يوسف الصائغ



يروق لي أن أطلق على الشاعر العراقي الراحل يوسف الصائغ (1933 ـ 2005) صفة "الشاعر الصافي" قياسًا لحضوره الشخصي، كما لانحيازه لقصيدة "منقاة" من أية زوائد، أو إضافات، كان يرى أنها مجرّد شوائب تنتقص من القصيدة، ولا تضيف إليها.
يوسف الصائغ المولود في الموصل عام 1933 لأسرة دينية مسيحية هو أيضًا خريج "دار المعلمين العليا" قسم اللغة العربية. حصل على درجة الماجستير، وعمل في مجال التعليم لما يقارب ربع قرن، وانخرط في النشاط السياسي، فدخل السجن وبقي فيه من عام 1963 إلى مطلع السبعينيات. تقلَد أيضًا مناصب عديدة في المجال الثقافي والفني، فكان مديرًا عامًا لدائرة السينما والمسرح، وعضوًا في اللجنة العليا لمهرجان المربد الشعري. وكان، خلال ذلك، ينشط في الكتابة للصحف العراقية اليومية.
تجربة يوسف الصائغ الأدبية قدمت إلى جانب مجموعاته الشعرية الخمس روايتين، هما "اللعنة" 1972، و"المسافة" 1974، وثلاث مسرحيات، هي "الباب" 1986، "العودة" 1987، و"ديزايمونة" 1989، وكلها أعمال حملت همًّا سياسيًا واضحًا ذهب إلى استلهام الفانتازيا التاريخية والتاريخ ذاته، ووظفهما في سياقات درامية استفادت من قراءاته الغزيرة في المسرح العالمي، ومعايشته الدؤوبة لهموم المجتمع العراقي ومشكلاته الأساسية.
هو ابن الحياة الذي انحاز لفكرة الكفاح من أجل مجتمع أفضل وأكثر رقيًا، من خلال تحديقه المتبصر في لوحة الواقع وما يلطخها من بقع سوداء تطغى على مساحة اللوحة كلها. ننتبه إلى تأثير عمله الطويل كمعلم في تكوين شخصيته، وفي التقاطه لشخصية المعلم كترمومتر لصورة الألم في المجتمع، وهو ما رأيناه في قصيدته الشهيرة "المعلم"، وما حملته من مضامين رمزية جارحة، إذ نرى فيها الشاعر الراحل يمزج الشعر بالدراما، من خلال مركزية شخصيتي المعلم والتلميذ، ثم من خلال زجهما كبطلين شعريين تراجيديين في معترك الصراع السياسي والاجتماعي المباشر، ولكن على غير المألوف من عادات الشعر السياسي العراقي والعربي، فالصائغ ينتبه إلى مركزية المخيلة الشعرية باعتبارها نبع تشكيل الصور والمشاهد الشعرية على ذلك النحو الآسر والمنسوج من لغة أنيقة، بسيطة ومحتشدة في الوقت ذاته بما تضمره من إيحاءات متعددة.




هي حياته المكتظة بأثقالها، التي هي أثقال وطنه العراق، بمظالمه كما بحروبه، بصراعاته كما بمصائر مبدعيه، ومنهم يوسف الصائغ الذي وجد نفسه في أتون اللهيب وظهره للجدار، هو الذي اختار أن يبقى في وطنه، وأن يدافع عن خياره في مواجهة سيول الاتهامات التي انهالت عليه. سيلجأ للشعر، ولكنه سيلجأ بصورة أوضح (ولو برمزية) للمسرح، فيتحدث من على خشبة المسرح عن لعبة النزول إلى العالم "السفلي" كي يتحقق اللقاء بين الحبيبين حين يموت أحدهما، وهو بالطبع نزول إجباري تفترضه "عادات" أهل الفانتازيا التي استعادها الشاعر الراحل في مسرحية في منتصف ثمانينيات القرن الفائت.
حياة يوسف الصائغ هي أيضًا ابنة العشق بمعناه الصافي، العميق بل والآسر أيضًا. أهم ما قدمه شعرًا وأجمله كان بالتأكيد مجموعته الشعرية الشهيرة "سيدة التفاحات الأربع"، التي أبدعها في استذكار حبيبته وزوجته التي اختطفها الموت شابة. هنا بالذات نعثر على اللغة الشعرية في حالاتها القصوى التي تستدرج الصورة وتستدرجها الصورة في اكتمال يعلو إلى حد رسم لوحات تبوح بحزن الذاكرة وحزن المخيلة معًا:
"قبل قليل
جاءت سيدة،
وابتاعت أربع تفاحات،
أربع تفاحات حمر،
ورأيناها، تمضي مسرعة،
نحو القفر
كانت تضحك …
تضحك،
والتفاحات الأربع،
تكبر
تكبر …
ثم انقطع الضحك،
وأعقبه صوت أبيض
ورأينا التفاحات الأربع تسقط،
فوق الأرض
أربع تفاحات حمر
أربع ضحكات
وانقطع الصوت
وساد الصمت
………
أصغوا …
سيدة التفاحات الأربع
تضحك بعد الموت".

في التأريخ للحركة الشعرية في العراق يقف الراحل يوسف الصائغ قريبًا زمنيًا من تجربة جيل السياب، وأقرب بالمعنى ذاته لتجربة سعدي يوسف، وهو مثلهما اختار فرادته من انتباهاته الخاصة لما تعنيه التفاصيل الصغيرة للشاعر وللقصيدة الحديثة، لكنه يضيف لتلك الانتباهات "بلاغة" الإصغاء العميق للمشاعر الإنسانية، ويراها بحدقة الألم في زمان عراقي وعربي فادح القسوة، وتحتاج قسوته بالذات إلى الرسم بمزيج من رؤى الواقع ورؤى المخيلة معًا. فرادة يوسف الصائغ وجدت حضورها الأجمل في "تتبع" نبض الروح المثقلة بالألم، واستعادة ما تتركه في الروح والذاكرة. ولعله، بهذا المعنى، أكثر من لامس بعذوبة تجليات الفجيعة، واستحضرها في سطور تجربة شعرية طفحت بالألم، ولكنها فاضت بعذوبتها، فحملته بالكم القليل من الشعر الذي أبدعه إلى مقام الكبار، رغم خصوصية قراء شعره الذين ما زالوا ينتمون إلى النخبة. وأميل إلى الاعتقاد بأنه وعى منذ البدء نخبوية الشعر بالمعنى الإيجابي الذي حفزه طيلة الوقت على الانتماء لشعر يصرُ على الجماليات الفنية حتى وهو يوزع قصائده على منابع واقعية وعاطفية واجتماعية وسياسية.




ومن يعود اليوم إلى تلك التجربة الشعرية، سيلحظ أن توهج فنيات القصيدة لا يزال حاضرًا في قصائد تناولت موضوعات مختلفة، إذ نرى الأسى العميق، بل الحزن التراجيدي في إهاب صور شعرية فاتنة وبنائية بالغة السلاسة والتماسك وقادرة في الوقت نفسه على التعبير والوصول لقارئ الشعر. تلك التجربة أراها اليوم تستحق ـ كما الأمس ـ قراءات نقدية عميقة وجادة ظلت غائبة رغم ما كتب عن شعره من دراسات.
بالمعنى ذاته، يمكن القول إن حضوره "الآخر" في الرواية والمسرح كان بدوره يذهب إلى تخوم الأعالي والأقاصي العميقة في استقراء الواقع والتاريخ، من دون أن يغفل المشاعر الإنسانية الكبرى، وأهمها الألم، وإن كان لي أن أختار "عاصمة" لشعر يوسف الصائغ فسوف أختار بطمأنينة عنوان مجموعة شهيرة للشاعر بول إيلوار هو "عاصمة الألم"، إذ هو شاعر الألم بامتياز.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.