}

جمال الدين بن الشيخ: العِشق عند العرب فتح آفاقًا

ضفة ثالثة ـ خاص 23 يوليه 2021

 

هذا النص هو ترجمة لحوار مع جمال الدين بن الشيخ، الناقد والكاتب والمترجم المشهور من أصل جزائري، خصَّ به مجلة "قنطرة" الصادرة عن معهد العالم العربي في باريس، ونُشر في العدد 18 (كانون الثاني/ يناير- شباط/ فبراير 1996)، وأجراه فتحي بن سلامة وتيري فابر.

جمال الدين بن الشيخ (1930 – 2005) الذي أغنى المكتبة العربية بالعديد من الأبحاث والدراسات والأبحاث ، ظل دومًا مفتونًا بالتراث العربي القديم، ولم يدخر جهدًا في الكشف عن الأبعاد الإنسانية الجمالية للثقافة العربية الكلاسيكية، نثرها ومنظومها. في هذا الحوار، وبعيدًا عن أسوار البحث العلمي الجامعي الذي ميّز مسيرته النقدية في المعهد الوطني للبحث العلمي ثم في السوربون، يتفنن ابن الشيخ بلغته الساحرة في الحديث عن فن العشق عند العرب، مستقصيًا الدلالات الفنية والاجتماعية لهذه الظاهرة كما تجلت في فضاءات متباينة من شبه الجزيرة العربية كالصحراء والمنتجعات والقصور ودور الغناء والرقص والملاهي ..إلخ، وهو بذلك يميط اللثام عن المحظور والمسكوت عنه، مما يدور في فلك المحرمات والتابوهات، واحتفت به، مع ذلك، مصادر تراثية عديدة في العشق لدى العرب مثل "طوق الحمامة" لابن حزم و "روضة المحبين ونزهة المشتاقين" لابن القيم الجوزية ، "والروض العاطر في نزهة الخاطر" للقاضي النفزاوي... إلخ.

حاولنا في الترجمة أن نحتفظ للنص بطبيعته الحوارية، بحيث لم نأل جهدًا في إكسابه من وضوح العبارة والمقصد وسلامة التركيب ودقة الصياغة ما ينزله منزلة تليق بتلقيه وقراءته في الفضاء العربي وكأنه يعود إليه بنكهته وفضاءاته وشخوصه الأصلية بعد أن هاجر إلى لغة موليير أسلوبًا ودلالات.

[تقديم وتعريب: حسن الطالب]

 

(*) كيف تعرف فنّ العشق في الثقافة العربية؟

أفضِّل بالأحرى، بدل تعريف العشق، أن أنبش في دلالاته. فالواقع، أن هناك كتبًا عديدة من بينها "روضة المحبين ونزهة المشتاقين" لابن القيم الجوزية، أحد الفقهاء الحنابلة في دمشق، حلَّلت بصورة رائعة هذه المفردة التي تعبِّر عن الطبيعة وعن الفترات الزمنية وآثار الهوس بالعشق، وكلها كلمات تنهل من الكون والأرض، من الصحراء والسماء، من البحر والنبات والحيوان، من الأساطير والنصوص المقدسة. العشق، في جوهره، أشبه ما يكون بنور أو قبس الشجرة التي رآها موسى عند الوادي المقدس طوى، أو بشوك النار المسمى البيراكانثا الذي يثمر ثمرات عنبية حمراء وبرتقالية؛ إلا أنها محاطة بأشواك حادة. فبينما تنمو أغصان جديدة تذبل الأخرى. وعلى العموم يمكن ملاحظة أنه إذا كانت بعض المفردات، بين الأربعين مفردة التي تشكل قائمة بأسماء العشق في الثقافة العربية، تعبر عن السعادة والشوق واللقاء والوصل، فإن معظم المفردات الأخرى تدل على الافتتان والتيه والضياع والجنون والنزق واليأس. فالعشق أشبه بتلك القوة التي تجتث المرء من ذاته فتطوِّح به نحو الشيء المعشوق؛ ولئن قذف به نحو ما هو أبدي ويُتعذر بلوغه، أي ذلك الشيء المعبود الصعب وِصالُهُ، (أو عمومًا نحو الله كما يذهب إلى ذلك المتصوِّفة) فإن اندفاعه يتغذى من تلقاء ذاته، فلا تكون له حدود. لكن إذا اتخذ له موضوعًا مخلوقًا من مخلوقات هذه الدنيا، وبالتالي كائنًا منتهيًا، فإنه يجهز عليه. وهذا المصير المأساوي هو ما يدينه النظام ويشجبه داخل الحاضرة أو المدينة، حيث تُبنى على أساس عدم الاختلاط في المجتمع الإسلامي. وتلك هي الفتنة التي ابتُلي بها العُشاق في هذه الثقافة فنفثت في قلوبهم وعقولهم ألوانًا من التعاسة واليأس والحزن والصبابة، وهو ما تحدث عنه ابن حزم (944-1064) في كتابه الذائع الصيت "طوق الحمامة"، ذلك أن كلمة الهوى تدل على التيه والضياع والسقوط إلى الهاوية وتستدرج إليها أوهامًا خادعة، والمتيَّم هو ذلك العاشق الأشبه بمن رأى ماءً فسعى في طلبه حتى إذا بلغه لم يجده إلا سرابًا.



(*) ما هي الفترات الكبرى التي صنعت فن العشق في الثقافة العربية؟

هي، في الحقيقة، فترات تاريخية وجغرافية واجتماعية. وبوسعنا تحديد فترة من البداوة التي انتشر فيها العشق انتشار النار في الهشيم كما يقال. ولا سيما ما يتصل بتلك العلاقات التي كانت تجمع بين القبائل والبطون والعشائر وهي في ترحالها الدائم في الصحراء، وكذلك تلك اللقاءات التي كانت تجمع بين الفتيان والفتيات في المراعي وجنبات السهول والمراعي وموارد العيون. فها هنا ينسلُّ العشق ليتحول من حالة كمون إلى حالة ظهور ووجود. ولدينا في معلقات العصر الجاهلي وصف جمٌّ لهذه اللحظات حيث كان الرعاة وسائقو الجمال أو حتى الغزاة يصادفون مثلًا فتيات في طريقهن إلى السقاية من عيون الآبار والموارد والأنهار ومجاري المياه. هكذا يتسلل الإحساس بالعشق في الطبيعة فيحبُّ العاشق بطريقة مباشرة، وأحيانًا كثيرة بشغف ووله. وحينما يتسنَّم العاشق ظهر ناقته وتشرع المعشوقة في إبداء زينتها ومفاتنها وتتمايل في مشيتها نكون أمام مشهد من الفرجة (mise en spectacle) والتمثيل قوامه اللذة والغرام والحرية. أما في الحواضر والمدن فقد تغير كل شيء، في الواقع، لا سيما في دمشق وبغداد - العاصمة العباسية- التي شُيِّدت بدءًا من عام 762 وبلغ عدد ساكنتها بعد قرون ما بين مليون ومليون ونصف مليون. حينذاك أمكن للمرء أن يعشق ويعبر عن ملذاته في جميع طبقات المجتمع، سواء أكان المرء شاعرًا قريبًا من حياة البداوة أو شاعرًا متحضرًا مندمجًا في بنية المدينة ذاتها، حيث تكون الفضاءات موزعة، وحيث لم يعد اللقاء بين العشاق صعبًا أو محظورًا كما كان في فضاءات البادية، لكنه مع ذلك ليس أسهل كما يمكن أن يُعتقد أو نتخيل. وكل هذه التطورات قد ساعدت تدريجيًا على موضعة تصورات عن ممارسة العشق، الذي أصبح مندرجًا داخل فضاء مختلف ومغاير في استجابة واضحة طبعًا للمتغيرات الثقافية والحضارية الطارئة.

(*) لكن بين المرور من عشق البادية إلى عشق المدينة، خصوصًا في بغداد، ثمة عنصر مهم جدا ممثل في القرآن الكريم الذي يحدد ويقنن العلاقة بين العاشقين، كيف إذًا تدخل القرآن الكريم في تحديد العشق؟

الواقع أنه لا يجب أن نسعى إلى البحث في القرآن عن تعريف للعشق، بل يجب البحث عنه في رأيي داخل الكتابات التي تحدد مدلول العشق ومظاهره المختلفة وعايشت حقائقه وأعني بذلك الكتابات الأخلاقية من جهة أولى، ومن جهة ثانية مجموع الأشعار وحكايات العاشقين من جهة أخرى. فالنص القرآني لا يتكلم عن العشق. وإذا كان قد حثَّ على العفة والحياء، ولا سيما غض البصر عند الرجل والمرأة، وأدان الانحراف والفحش والعهر.. إلخ فمن الواضح أنه لا يتحدث عن العشق بصورة مباشرة. أضف إلى هذا أن القرآن الكريم لم يكن النص الوحيد الحامل للتصورات: فحياة محمد (ص) مرت في تصوري بعلاقات معينة ولنذكر بصفة خاصة زوجته الأولى خديجة، وكذلك عائشة (رضي الله عنها) التي أحبها حبًا شديدًا، فضلًا عن زيجات أخريات كانت لهن مكانة في حياته، وبناء عليه أعتقد أنه يجب البحث عن هذه الصورة في سيرة الرسول الذي أسرَّ بمشاعره ووجوده إلى رفيقة عمر، بدل البحث عن تلك الصورة في القرآن الكريم. فالمرأة حاضرة بقوة في اعتقادي خارج حلقات الوعظ ونشر الكتابات العلمية التي تدعي امتلاك الحقيقة مثل التفاسير والشريعة والفقه، وما يسمى "العلوم الشرعية" على وجه العموم: الأصول.




اتجاهات عديدة في التعبير عن العشق نظمًا

(*) لكن هناك دائما هذا التقويض والهدم لصورة العشق؟

من الصعب جدًا على الشاعر في قصيدة يخاطب بها خليفة أو أميرًا أو وزيرًا معينًا أن يتجاوز الحدود المرسومة للشعر الغنائي المقبول والمتعارف عليه. والسبب أن هذه القصائد تنتمي إلى عامة الجمهور وموجهة بالتالي إلى عامة الناس، وأعتقد أن ليس هنا مكمن البحث عن العشق وتجلياته، بل عند شاعر كعمر بن أبي ربيعة (644-711) أو عند شاعر مثل مجنون ليلى الذي يعتبر صورة معبرة جدًا عن أثار البداوة الأولى. فقد التقى قيس ليلى وعشقها لدرجة الجنون، ولكن والدها رفض زواجها منه فزوجها غيره فهام على وجهه وسُمي بالمجنون، مع أنه لم يكن كذلك في واقع الأمر. فبمجرد ما كان يرى ليلى يستعيد رشده وعقله، فهو في غيبوبة، وما دام موضوع العشق (ليلى) بعيدًا عنه فليس هناك داع كذلك لوجوده ولن يستعيد عقله إلا حين تعود المعشوقة للظهور مرة أخرى. وعندما بُنيت بغداد ظهرت اتجاهات عديدة في التعبير عن العشق نظمًا. بادئ بدء، هناك الشاعر المشهور بشار بن برد (714-785) الذي تلبَّد العشق لديه بضروب من السوداوية، وهناك أولًا ما يسمى الغزل الإباحي وهو في الواقع مصطلح لا يزال ملتبسًا ويحتاج إلى تدقيق في الدلالة والتجليات، وهو شعر يبيح فيه الشاعر لنفسه أن يقول كل شيء بما في ذلك الشذوذ. وفي أواسط مدينة الكوفة كان بشار بن برد يتغنى بحضور شخصيات معربدة بالخمر والنساء والمثليين في قصائد لا تخلو من عنف وإثارة. وتلك طريقة في التعبير عن تحدي الشريعة، التي لم تعد تسري على القبيلة أو الجماعة فحسب، بل امتدت لتشمل بتأثيرها الدولة برمتها.  

بعد ذلك شرع الفقهاء في التفكير في العشق. لكن يجب أن نكرر مرة أخرى لا ينبغي لنا أن نشوِّه هذه الحضارة. والفقه يدرس العشق في كل مظاهره لأنه فعلًا يطرح مشكلات خطيرة. لا يجب أن ننسى أنه شُرع منذ العصر العباسي في بناء دولة واسعة ذات نفوذ مدعمة بمساحة جغرافية من الهند حتى إسبانيا. من المنطقي إذًا أن يبدأ التفكير في امتلاك نفوذ. فما هي الأسباب التي أدّت إلى احتمال تعريض السلطة القائمة إلى موضع الخطر؟ أحد الأسباب في اعتقادي يكمن في استسلام الأمير وإذعانه صحبة ممثليه وحاشيته لأهوائهم. هكذا إذًا بدأ التفكير في العشق ولا سيما في صوره التي لا تخلو من خلاعة ومجون. الاتجاه الثاني يسمى: الشعر العفيف وفيه شيء من التعفف والتأدب نحو المعشوق. ويتعلق الأمر في الواقع بنمط جديد من أنماط الاختلاط والمعاشرة التي تحدد العلاقة بالآخر وبالذات نفسها وتوظيف خاص للغة وتركيز على عادات وأعراف في القول الذي يتأفف من الفحش والبوح المبالغ، وهو بالتالي فن في التعبير عن كينونة مثالية، وأهم من يمثله العباس بن الأحنف (المتوفي في بغداد عام 808) وعدد من الشعراء الأندلسيين. هذا الاتجاه يتميز عمومًا بعدم البوح باسم المعشوق. وفي بلاطات الأمراء من الخطر الوقوع في غرام أميرة من الأميرات، فمكانتها تستوجب توقيرها، وهذا الحماس اليائس والأمل المنشود في بلوغ قلبها ألهم الشعراء نظم قصائد بالغة التأثير والقوة ومن ثم كلمة كتمان للدلالة على هذا العشق صعب المنال، وسرعان ما سيتم، على هذا الشكل نفسه، التقرب إلى الله غير المدرك، ذلك الخالق الذي لا يمكن معرفته إلا بعد الموت والانتقال إلى الدار الآخرة.

(*) من الممكن مقارنة هذه التضحية بتلك الموصوفة في الحديث النبوي المشهور "من عشق فعفَّ فكتم فمات فهو شهيد".

تنبغي الإشارة أولًا إلى أن هذا الحديث مشكوك في صحته ما دام أنه يضع العاشق والشهيد في مرتبة واحدة. وكما قلت لا نجد ذكرًا لكلمة عشق في القرآن الكريم. ورغم أن الحديث المذكور موضوع إلا أن الرواة تواتروه وشرحوه؛ ولا غرابة في ذلك ما دام أنه يعبر عن الحاجة إلى التنفيس عن ضرورة وجودية. وسنرى كيف أن القصيدة الصوفية ستتغذى على هذا الوحي الأصلي الموجه بدوره نحو كائن أسمى تسمو الروح إليه وتتلهف لاعتناقه، بل والذوبان فيه. وهنا نجد كذلك توظيفًا للقصائد الغنائية الخمرية الدنيوية من خلال توظيف الرموز التي وظفها الحلاج (المصلوب عام 922) وابن الفارض المتزهد (المتوفي عام 1235) وابن العربي (المتوفي عام 1240).

(*) هل هناك حضور للعشق في رائعة "ألف ليلة وليلة" وكيف يعبر عن نفسه؟

نعم وبكثافة، وهو يعبر عن نفسه من خلال الشعر أولًا. جدير بالذكر أن عدد القصائد التي موضوعها العشق تربو على 1253 مقطوعة شعرية مختلفة فيما بينها طولًا وقصرًا. وليس الشعر في الكتاب مجرد نوع من الزخرف فحسب، بل إن الحوار والأفعال نفسها تتم بين الشخوص شعرًا، وتنبغي الإشارة هنا إلى الحضور الرجولي - إن صح التعبير- للمرأة التي تدفع بالأحداث إلى نهايتها؛ بحيث نجدها تجابه الرجل وتصارعه فيما هو يائس يبكي وينوح باستمرار. تدفع المرأة بالأحداث إلى نهايتها وتوجِّه العشق إلى حيث تريد، فهي وحدها من يجابه الموت ويصارعه في قصص كثيرة، فالعشق يعبُر كل الحدود، اجتماعية كانت أم تاريخية أم جغرافية. بل إنه يعبُر الحدود التي بداخل الإنسان، مع حدود لا يجب تجاوزها إذا ما أراد أن يكون مؤمنًا حقًا وشريفًا. وهذا العبور للحدود يميط اللثام عن نوع آخر من أنواع الطبيعة الثانية التي تقلب حياته رأسًا على عقب. ووحده العشق يمكن أن يُلهِم امرأة تعتبر ضمن الخطاطة التي نروم تقديمها عنها كائنًا هشًا ضعيف البنية. ومع ذلك فهي قوة لا تقهر تنصاع إلى منطقها الخاص ليس غير. ها هنا يكمن اللغز، وفي اللغة العربية تعتبر أسماء العشق ذات خصائص مميزة، فالهوى يعني السير باتجاه الهاوية أو يؤدي إليها. وهذه الكائنات التي تغير من طباعها تمامًا والمؤلفة من العشق فقط سوف تواجه بنقد عنيف، سواء تعلق الأمر بحالة عشق لمخلوق بشري أو عشق الله (التصوف)، وعُدَّ الفسق شيئا لا يُحتمل، كما أدين الشطط والغلو.

أندريه ميكيل وجمال الدين بن شيخ وعملهما المشترك في ترجمة "ألف ليلة وليلة" إلى الفرنسية



(*) في الشعر والكتابة العربية عموما لدينا شعور بأن الإنسان يصطدم باستحالة العشق، ومن جهة أخرى تعالج الحكاية التي استهلت بها "ألف ليلة وليلة" استحالة العشق عند الإنسان.

مدار الأمر هنا على عملية أشبه بالإخراج (mise en scène) للأنثوية في بدايتها الأولى، وبالتالي فالمرأة هي تلك التي تخون لأنها لا تقوى على الصمود في وجه غرائزها. وفي مقدمة الحكاية تظهر ملكتان لم يُكشف عن اسمهما في الوقت الذي كان يوصف فيه مشهد العربدة الذي يجري تحت نافذتهما. أخبرني أيُّ المدن الإسلامية كان من الممكن أن يحدث فيها مثل ذلك؟ هناك رمزية أخرى من خلال الإشارة إلى عبيد كُحل، إنها البدائية مجسدة في صور وأفعال. وبناء عليه، فإن هذه الاستحالة وهذا الشعور بالخطر الرئيسي شيء مهم وعميق الدلالة. فالتفكير في "الإيروتيكي" لا تكتنفه المحظورات فحسب، لأن هناك أولًا هذا التأكيد القاضي بأن العشق هو باختصار شيء منفلت وليس العرب من يقولون وحدهم بذلك. لنتذكر هذه القولة الجملة المروعة لبول إيلوار: "يجب على عاشقين متحابين أن ينتحرا في اللحظة نفسها التي التقيا فيها". فالبقاء في القمة وعدم النزول منها هو الرهان المستحيل. ثمة استحالة في تصور عشق لا يكون مباشرًا فحسب، بل كليًا وخالدًا. ثم ما أقوى هذا التأكيد المتمثل في أن تُصوَّر المرأة بطبيعتها وتُشيَّد ككينونة على صورة عشقية. فلا هي أهل للحكم ولا التدبير، كما أن استعداداتها للعمل مهددة وقدراتها مكبوتة.


(*) إن الصورة التي تقدمها عن المرأة الفاعلة التي تؤدي دورًا بارزًا ولا سيما في كتاب "ألف ليلة وليلة" هي صورة لا تتطابق مع الصورة التي كوناها عنها في أوروبا، فنحن نتخيل المرأة العربية مسجونة مقهورة ومكبوتة. هل هذه الصورة مطابقة للواقع أم هي مجرد خطاطة تقريبية؟

ينبغي أولًا فهم آلية وروح هذه المجتمعات التي يتعايش فيها نوعان من النساء: فهناك في البداية تلك المرأة العفيفة التي يسميها العرب "المحصنة" وهي كلمة مشتقة من كلمة "حصن" التي تعني القلعة، وهي فضلًا عن ذلك تفقد حتى اسمها الأصلي فهي "أم الولد" وتكمن وظيفتها في صيانة البنوة وتربية الأولاد، والتكفل برعايتهم إلى أن يبلغوا سن السابعة أو الثامنة. ثم هناك المرأة "الأمَة" وهي فتاة انتُقيت من بين أسيرات الأمصار المفتوحة، فقد كانت تجارة الجواري منتعشة في العواصم العربية ومارس فيها الأوروبيون دورًا كبيرًا. فلا غرابة أن تجد منهن السلافيات والشركسيات والفارسيات يقودهن تجار في أماكن ثقافية مختلفة مثل الحجاز، نظرًا لوجود مدرسة موسيقية، أو بغداد أو قرطبة حيث يتلَّقين تربية متميزة. هناك مثلًا جارية مشهورة في "ألف ليلة وليلة" اسمها "تودُّد" ناظرت ستة علماء وملكت شغاف قلوبهم جميعًا. وإذًا، فهن جواري يتقنَّ اللغة، إذ يستحيل إنشاد الشعر العربي ما لم يمتلك المنشد ناصية النحو واللغة، كذلك هن يتلقين تعليمًا له صلة بالقرآن والحديث. وفي القرن السادس بلغ ثمن جارية مغنية من الطبقة الأولى ثلاثة ألف دينار. وكان الشاعر ابن زيدون يتقاضى ما قيمته خمسمائة دينار سنويًا في الوقت الذي كان فيه بناء من بنَّائي القصور يتقاضى درهمًا في اليوم الواحد، وبه كان يبتاع ثلاثة كيلوغرامات من الخبز. كما كان الحكام والبورجوازيون والتجار والملاك الكبار يشترون مغنيات بثمن ثلاثة آلاف دينار ذهبًا، وسرعان ما تستقر المغنية الجارية بالقصر وتصبح أولًا خليلة الأمير أو من الشخصيات الوجيهة، فتعمل على إحياء السهرات، ومن حقها أن تسهر مع الشعراء وتناشدهم الأشعار والقصائد والضرب على العود والغناء. إنهن بالطبع جواري يمكن التخلي عنهن، حيث يمكن للخليفة أن تكون له أكثر من خليلة واحدة، ثم يهبها لتصبح على الفور خليلة شخصية أخرى. لكنهن لسن عاهرات بالمعنى الحصري للكلمة. إنهن يمارسن ثقافة معينة. وكثير من بطلات "ألف ليلة وليلة" انحدرن من هنا، وثمة شخصية مثيرة جدًا، لا هي بربة بيت ولا هي أمة. إنها ابنة المستكفي آخر خلفاء بني أمية (المتوفي عام 1087) واسمها ولادة، وهي شخصية نموذجية أحبها الشاعران الوزير ابن عبدوس (المتوفي عام 1079) وابن زيدون (المقتول عام 1070) والتي لم تجد طريقة أفضل لقطع الوصال معه سوى بإرسال قصائد له تنطوي على خلاعة مثيرة جدًا حول رجولته، وكانت ولادة مثلية وعشقت فتاة اسمها مهجة. قد يقال إن ذلك يشكل استثناء، لكن لا شيء من ذلك، وينبغي لنا النظر إلى المجموع، أو إلى البنية المجتمعية في شموليتها، وأعتقد أن كتاب الذخيرة لابن بسام مفيد من نواحي متعددة في هذا الصدد. 




(*) لقد تحدثنا بالضبط عن الحرية في ظل الحجاب. هل لهذا التعبير معنى لديك؟

لست أدري فيم يفكر الأشخاص الذين هم اليوم في عمر العشرين. وفي وسعي أن أدلي بشهادة من جيلي. أؤكد لك أنه في ظل الحجاب وفي مدينة كتلمسان في سنوات الأربعينيات لم تكن النساء حبيسات. بل كان يُسمح لهن بالالتقاء سواء في المقابر أو في الحمامات، وكذلك في مناسبات كالأعياد المختلفة وتبادل الزيارات؛ كن يتحدثن بل ويتبادلن النكت البذيئة أحيانًا، ويتغنين ويتخاصمن ويضحكن ويحكين أحجيات لا تخلو من دعابة. ومع ذلك كانت أمي ترتدي الحايك ولم تكن تتحكم في البيت فقط، بل كانت تدافع عن حقوقها بثبات وأحيانًا تصطدم بأبي. كانت تتنزه بالسيارة وتستقبل صديقاتها، صحيح أنها لا تستقبل الرجال ولم يكن لديها عشيق. لكن هل يمكن لذلك أن يقدم عنها صورة خصبة؟ لقد تم اقتياد المرأة إلى معبد أحرقه الإسلاميون في تلمسان وهو معبد لشاعر صوفي أندلسي من القرن السابع اسمه سيدي بومدين (المتوفي عام 1197) وما إن وصلت إلى المعبد حتى شرعت في البكاء ثم جاءت نسوة أخريات وشرعن في النحيب والبكاء. والغريب أنهم كن يضحكن وينتحبن في نفس الوقت. وفي يوم من الأيام وكنت في الثانية عشرة من عمري قلت لأمي: "كفاك بكاء" وردَّت قائلة "اتركني أفرغ ما في صدري". فقد كانت تجد في البكاء متنفسًا لها.


تطور النساء العربيات يشهد 
انحسارًا وتقهقرًا

(*) ثمة مسألة يمكن أن نتناقش بشأنها وتتعلق بالحرية والحقوق السياسية. إنها المسألة الوحيدة التي ينظر إليها نظرة انتقاد بالقياس إلى ما عليه وضع المرأة الأوروبية؟

أتفق معك تمامًا فيما قلت. فمن المؤكد اليوم أن تطور النساء العربيات يشهد انحسارًا وتقهقرًا، حيث لا يُكتفى فقط بحجبهن بل يُحتَقرن ويُنقَّص من شأنهن بالمقارنة مع ما كن عليه في الأجيال السابقة؛ فالموسيقى وممارسة الرياضة محظوران عليهن، كما أُحرقت المزارات التي كانت فرصة لالتقائهن ويُمنعن من الذهاب إلى المقابر يوم الجمعة الذي كان يوم عطلة بالنسبة إليهن ما دمن لا يستطعن فيه مصادفة الرجال. اقرأوا مؤلفات آسيا جبار ومليكة مقدم ويامنة بلحاج يحي وسوف تدركون ما أقول.

(*) هل هناك من وجهة نظركم أشكال جديدة من خطاب العشق في طريقها إلى الظهور في المجتمعات العربية المعاصرة؟

إذا تحدثنا عن بعض الشعراء الرومانسيين العرب أو الروائيين العرب المعاصرين فبإمكاني رسم صورة مثالية عن العشق، وستكون صورة ذات أهمية كبرى في المستقبل، لكن ليس لها أي وجود واقعي في أيامنا. فمن الجزائر إلى بغداد ومن غزة إلى القاهرة أنى ترى فضاء للعشق للأسف؟ في الجزائر هناك شباب لا مأوى لهم ولا عمل. وهم في الأغلب ضحايا العنف وصانعوه ووقوده. ومع ذلك يستقبلون وسائل الإعلام الأوروبية وهي تعرض عليهم مظاهر الترف واللذة والإباحية والإغواء وقد قُدمت كلها في ثوب يسحر الألباب والعقول، وهم في شقائهم يدمنون أيضًا على المخدرات ويشربون أنواعًا من المشروبات الخليطة، ويستسلمون لكل أنواع الاتجار بالتهريب. أما الفتيات فهن يُشتَمنَ ويُغتصبن ويُذبحن كما حدث في العشرية السوداء. فكيف تريد أن يكون لهذا الجيل فكرة عن العشق؟ العشق، في الواقع ثقافة، وهو مكان يستطيع فيه الناس، رجالًا ونساء، والمنحدرين من كل حدب وصوب أن يصمدوا أمام جميع أنواع الرعب والترهيب. إن مدينة بلا عشق ليست إلا صورة للخضوع والإذعان والقهر، أي مدينة سلوكيات مستبدة تصوغ الإنسان في قالب معين، وليس في وسعنا أن نطمح إلى الثقافة إذا ما دُمِّر هذا الجزء الأساسي مما هو إنساني، ولا يمكن للأدب ولا الفن ولا السينما أن ينتعش في أرض تكتسحها الفرق العسكرية والجماعات الدينية المتطرفة. ولئن كان العشق ضروريًا وحاجة لا يمكن الاستغناء عنها في الثقافات المتحضرة فليس لأنه يستجيب لفطرة أو غريزة معينة فحسب، بل لأنه يفتح الآفاق ويخلخل اليقينيات، وفيه يولد الإنسان من جديد وتكتشف المرأة نفسها مختلفة عن تلك التي يراد صنعها على قالب منمّط. ففيه تدرك الحرية بوصفها انعتاقًا للذات وتحررًا. إن حظر العشق ليس مجرد سلوك أخلاقي، فهذا السلوك يروم إنتاج كائن تسحقه السلطة وتقمعه، كائن مختزل وقد حُوِّلت هويته إلى هوية كاريكاتورية. كائن مرغم على تقبّل النماذج المقولبة وحدها. والمصير الذي يعاني منه الحب هو بالضبط نفس المصير الذي يعاني منه العشق، والذي أمكن للتاريخ أن يعبر عنه على النحو التالي:

أنا الكلمة التي لا تُلفظ

الكلمة الملحدة، المطرودة من الفعل

المحرومة من لغتها

تلك التي نحجبها بستار

ولا نرى لها شكلًا ولا معنى.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.