}

نحن والمسرح.. عندما أضعنا ظلّ ابن دانيال!

باسم سليمان 28 يناير 2022

تكمن أهميّة تراث ما في لقدرة على قراءته بالشكل الصحيح. فهل قرأنا تراثنا كما يجب؟ إنّ أفضل الأجوبة تكمن في تقديم الأمثلة، ولنأخذ معضلة الرقابة في عالمنا العربي، ولنقارنها بالرقابة في تراثنا، فنجد أن كتّابنا في الماضي كانوا يضمّنون مقدمات كتبهم دفاعًا موضوعيًّا عن ما يعرضونه من أخبار قد لا توافق أذواق البعض. ونستشهد بابن قتيبة في كتابه "عيون الأخبار"، الذي ضمنه دفاعًا موضوعيًّا يسدّ على المتزمّتين منافذ هجومهم بالقول: "وسينتهي بك – أي المتزمّت – كتابنا هذا إلى باب المزح والفكاهة، وما روي عن الأشراف والأئمة فيها، فإذا مرّ بك حديث تستخفّه أو تستحسنه، أو تعجب منه، أو تضحك له، فاعرف المذهب فيه وما أردنا به، واعلمْ أنّك إن كنت مستغنيًّا عنه بتنسّكك، فإن غيرك، ممن يترخّص فيما تشدّدتَ فيه، محتاج إليه، وإنّ الكتاب لم يعمل لك دون غيرك، فيهيأ على ظاهر محبتك، ولو وقع فيه توقي المتزمّتين، لذهب شطر بـهائه، وشطر مائه، ولأعرض عنه مَن أحببنا أن يُقبِلَ إليه معك".

إنّ هذه الفقرة لابن قتيبة تشير إلينا بالذي كان يتوجب علينا فعله تجاه تراثنا، حتى لا نفقد ما يحويه من كنوز، فلا نعرض عنها لأنّها لا تتفق مع أذواقنا، وتكشف لنا كيف أضعنا أهم كاتب مسرحي في قروننا الوسطى، وكل ذلك لأنّه كان فاحش الكلام بذيء القول، لكن أليس لكل مقام كلام، وبهذا يستبعد الحرج، فلو تمعّنّا في قول ابن قتيبة لمَا انتظرنا من الباحث الفذ مارفن كارلسون أن يتحفنا بعجائب ابن دانيال.

إنّ غياب المصطلح من العدّة المفهومية لفنّ ما، لا يعني انعدام وجوده في الواقع، فالتطهير/Katharsis في الفن المسرحي الذي رأى فيه أرسطو سببًا معقولًا ومشروعًا للنظر بشكل إيجابي إلى المأساة بعدما أسقطها أفلاطون من عداد جمهوريته(1) لا نجد له مقابلًا مفهوميًّا في مسرح خيال الظل العربي، لكن لنتأمل هذا الخبر الذي يبحث في منشأ خيال الظل والذي يرجعه إلى الصين. يحكى أنّ أحد أباطرة الصين، قد سيطر عليه حزن عميق إثر موت زوجته، ولم تفلح كل المساعي كي يسلاها، حتى قام فنان باختيار امرأة لها شبه كبير بزوجته، وجعلها تمرّ خلف ستارة بيضاء، فسقط ظلّها على الستارة. وأخبر الفنان الإمبراطور بأنّ هذا الخيال، هو طيف زوجته الحبيبة، فكان الخيال شفاء للإمبراطور من حزنه وسقمه(2).

أليس ما حدث مع الإمبراطور هو التطهير، حيث تعود النفس إلى اتزانها العاطفي والإنفعالي بعد مشاهدتها المأساة. لن نكتفي بهذا المثل من بلاد الصين، حيث أنّنا سنتناول في هذا المقال خيال الظل العربي ورائده ابن دانيال الموصلّي الذي ذهب مارفن كارلسون(3) إلى وصفه بأنّه أرستوفانيس العرب(4). يذكر بأنّ القاضي الفاضل وزير صلاح الدين بعدما رأى عرضًا لخيال الظل قال: "رأيت موعظة عظيمة، رأيتُ دولًا تمضي ودولًا تأتي، ولمّا طُويَ الإزار- طيّ السجلّ للكتب- إذا المحرك واحد"(5). ووردت لدى الأبشيهي في "المستطرف في كل فن مستظرف"، أبيات اختلف في نسبتها إلى الشافعي، لكنّها ذات دلالة مهمة على تجذّر فن خيال الظل في الثقافة العربية:

رأيت خيال الظلّ أعظم عبرة/ لمن كان في علم الحقائق راقي
شخوصًا وأصواتًا يخالف بعضها/ لبعض وأشكالًا بغير وفاق
تجيء وتمضي بابة(6) بعد بابة/ وتفنى جميعًا والمحرّك باقي.

لو تمعّنّا في قول ابن قتيبة لمَا انتظرنا من الباحث الفذ مارفن كارلسون أن يتحفنا بعجائب ابن دانيال



إنّ هذه الأبيات تنمذج مفهوم المسرح وفق الثقافة العربية الإسلامية، وتكاد تكون صدى لمقولة هوراس في كتابه "فن الشعر"، بأنّ من أهداف المسرح المتعة والتعليم (7). ولا يختلف هذا التفسير عما ذهب إليه القاضي الفاضل بعدما رأى إحدى مسرحيات خيال الظل. إذن كان لنا تطهيرنا الأرسطي، وإن غاب مصطلحه عن ثقافتنا.

تعود أقدم إشارة، إلى الآن، لفن خيال الظل العربي، إلى ما ورد في كتاب "الديارات" للشابشتي، حيث أورد خبرًا عن الشاعر دعبل الخزاعي – القرن الثالث الهجري- بأنّه أراد هجاء أحد المخنثين، فتراجع  دعبل عن ذلك بعد أن ردّ عليه قائلًا: "والله لإنْ هجوتني لأخرجنّ أمّك في الخيال"، أي خيال الظل. هذا دليل آخر على أنّ خيال الظل قديم في تراثنا وكان له حضور حقيقي، وهذا ما يبرهن عليه الباحث شموئيل موريه (8) في مقالته: العرب والمسرح من الجاهلية إلى القرن التاسع عشر، حيث يقول بأنّ آراء المثقفين والمسرحيين العرب ذهبت في اتباع آراء المستشرقين في أوائل القرن العشرين المنصرم؛ على أنّ العرب عرفوا المسرح عبر خيال الظل والدمى ولم يعرفوه بشريًا! ومن ثمّ يتابع عبر تقديم الأدلة التي تثبت ممارسة العرب في تراثهم للمسرح البشري، الذي أسقطناه من حسابنا متبعين في ذلك رأي المستشرقين، مع أنّ الأدلة التي استند عليها موريه مبثوثة في كتبنا التراثية. وها هو باحث آخر ويدعى مارفن كارلسون قد انطلق من ذات الأسس التي ابتنى عليها موريه أطروحته ومن ثم توسّع في دراسة مسرحيات ابن دانيال الثلاث: طيف الخيال، وغريب وعجيب، والمُتيَّم والضائع اليتيم، ليصل بموجب مسرحية ابن دانيال المُتيّم والضائع اليتيم إلى المقارنة البنيوية الفنية التي يتقاطع فيها مسرح ابن دانيال مع مسرح أرستوفانيس.
  

مرحلة مفصليّة

يتناول مارفن في مقالته مرحلة مفصلية في تاريخ المسرح العربي في الزمن المملوكي من خلال بابات ابن دانيال، وخاصة مسرحيته "المُتيّم والضائع اليتيم"، التي حققها الراحل د. إبراهيم حمادة في كتابه "خيال الظل وبابات ابن دانيال"/ 1961، لكنّه عمد إلى حذف أكثر أجزاء بابة "المتيم والضائع اليتيم" لما فيها من فحش في الألفاظ! فغيّب عنّا جوهرة مسرحية مع أن ابن قتيبة قد حذرنا من اتباع رقابة المتزمّتين.

لقد سمّى كارلسون ابن دانيال بأرستوفانيس العرب، وهذه التسمية ليست له، بل للباحث وليم هسلي الذي استند فيها للتشابه بين أسلوبي ابن دانيال وأرستوفانيس الفاحش والبذيء. هذا الفحش في الكلام أغمض الطرف عن إبداع ابن دانيال، فلم تتجاوز المقاربة بينه وبين أرستوفانيس البذاءة اللفظية، فيقول كارلسون: "وهي أنّه عند كل من الكاتبين تختلط هذه المادة الدنيوية بشعر غنائي رائع مشكلة مزيجًا صادمًا من الأسلوب والموضوع". ويعلل تأخر الكشف عن التقارب البنيوي الفنّي المسرحي بين ابن دانيال وأرستوفانيس لتأخر ترجمة بابة "المتيم والضائع اليتيم" إلى الإنكليزية. ولنا أن نسأل: ألم يضيع د. حمادة على الباحثين العرب فرصة إيجاد تلك التقاطعات الحتمية بين مسرح أرستوفانيس وابن دانيال. ماذا لو أنّه لم يمارس تلك الرقابة الأخلاقية الضارة بالإبداع؟

 ذهب مارفن كارلسون إلى وصف ابن دانيال الموصلّي بأنّه أرستوفانيس العرب


يشرح كارلسون بالتفصيل اللحمة بين مسرح أرستوفانيس وابن دانيال، ويرى أنّه لم يوجد حتى في الغرب من قام بنسخ البنية المعقّدة والمركّبة للمسرح الأرستوفانيسي، لذلك يستغرب وجودها عند ابن دانيال بهذا التفصيل الملحوظ، فبحث عن صلة تفتح الباب على مصراعيه تفيد بأنّ العرب قد اطلعوا على المسرح الإغريقي بشكل أكبر ممّا كان يعتقد، ويورد رأيًا لأحد أساتذة الكلاسيكيات أوليفر أوفيروين بأنّ مسرحيات ميناندر كانت ضمن المناهج التعليمية في العصور الوسطى العربية، لكن كارلسون يمعن في البحث معلّلًا ذلك بأن ألفة العرب بالتراث اليوناني كانت مقبولة، لأنّ العرب في القرون الوسطى قد ترجموا قدرًا مهمًا من المؤلفات اليونانية، لكن التحدّي يكمن في الإطلاع على مسرحيات مخصوصة كمسرحيات أرستوفانيس ذات اللغة الصعبة حتى على المتعلِّم تعليمًا جيدًا. ويتابع بأنّ اعتراضه لا يوصد الباب أمام الباحث، فالعلاقات بين البيزنطيين والمماليك كانت لها أيام جيدة، وقد اهتم البيزنطيون جدًا بمسرحيات أرستوفانيس، ومن المعقول جدًا أنّها قد تسرّبت إلى مكتبات القاهرة عبرهم، فقد وصلت شعبية أرستوفانيس في القرن الثالث عشر إلى مستويات عالية في العاصمة البيزنطية، فقد اهتمت الأسرة الحاكمة هناك بمسرحياته. ويدعم هذا التوجّه العلاقات الدبلوماسية والثقافية الكبيرة بين المماليك والبيزنطيين، ولأنّ ابن دانيال كان من حاشية الملك قلاوون، كانت له علاقات قوية مع ولي عهده ووزيره ابن الخليل الذي ظهر في إحدى مسرحيات ابن دانيال، فلا بدّ أنّه قد اطلع على نتاج أرستوفانيس.

إنّ ما قدّمه مارفن كارلسون عن عبقرية ابن دانيال يطرح علينا سؤالًا ممضًّا عن علاقتنا السيئة مع تراثنا، فأول البحوث التي نقّبت عن مسرحنا كانت مع الباحث الألماني جورج ياكوب وغيره من الباحثين الغربيين الذين قطعوا صلتنا مع المسرح البشري، وأثبتوا لنا معرفتنا بمسرح خيال الظل والدمى فقط. ومن ثم ردّد بعدهم الباحثون العرب مقولاتهم. ولم يشذ عن هذا النهج إلّا قلّة لم تسعفهم المراجع ولا البحوث ونمثل لهم بقول يوسف إدريس، صاحب الحدس الصحيح الذي سجله في مقدمة مسرحيته "الفرافير": "إنّه متى وجد شعب ما، فلا بدّ أن يخلق هذا الشعب فنونًا، كافة ألوان وأشكال الفنون، فنونًا متميّزة عن فنون الشعوب الأخرى ومختلفة اختلاف الحياة عند هذا الشعب وعند ذاك، نستطيع أن نقول: إنّ هناك مسرحًا مصريًّا كائنًا في حياتنا وموجودًا، ولكننا لا نراه لأنّنا نريد أن نراه مشابهًا ومماثلًا للمسرح الإغريقي والأوروبي الذي عرفناه وترجمناه واقتبسناه وعرّبناه ونسجنا على منواله من أواخر القرن التاسع عشر إلى اليوم". وأمام هذا الواقع ألا يحقّ لنا أن نستخدم التطهير الأرسطي لنعيد اكتشاف تراثنا باتزان وعقلانية وموضوعية تستبعد الأحكام المسبقة والأخلاقيات اللاعلمية التي شوّهت رؤيتنا تجاه ماضينا بين التليد والمتخلّف؟

إنّ ميزة ابن دانيال الهارب من الموصل بسبب غزو المغول إلى القاهرة، أنّه لم يستكن للتقليد بل صعد بإبداعه إلى القمم التي نكتشفها، وللأسف مع باحث غربيّ، لكن هذا الباحث كان من الموضوعية بمكان، أنه لم يحمّل ابن رشد فهمه المغلوط لـ"فن الشعر" لأرسطو الذي أخذه الأوروبيون عنه، بل شرح بأنّ فهم ابن رشد كان موافقًا للتقاليد والقناعات المسرحية التي ورثها الغرب عبر الرومان، لذلك تقبلوها بكل رحابة صدر، وكأنّه يخفف المسؤولية المعرفية عن ابن رشد. وها هو من جديد يمنحنا أرستوفاننا العربي الذي غمطناه حقّه عبر أخلاقيات زائفة ورقابة بائسة، فهل سنقبله وفق تبعية الغالب للمغلوب، أو لأنّنا نرغب حقّا بإعادة الصلة الحقّة مع تراثنا؟     

هوامش ومصادر:

1-   نظريات المسرح، الجزء الأول، مارفن كارلسون، المركز القومي للترجمة- 2010.
2-   مجلة الفيصل، العدد 119- السنة العاشرة، كانون الثاني 1987.
3-   مجلة مسرحنا، الأعداد: 594-595 سنة 2019. المقال: (ابن دانيال، أرستوفان العرب- مارفن كارلسون ترجمة سباعي السيد). وقد نال مارفن كارلسون عن هذا المقال جائزة أوسكار بروكيت بعد أن نشره في مجلة الدراما المقارنة/  Comparative Drama.
4-   مؤلف مسرحي كوميدي يعتبر من رواد الكوميديا في اليونان القديمة.
5-   مطالع البدور في منازل السرور، تأليف علاء البهائي الغزولي، مطبعة دار الوطن مصر 1881.
6-   البابة: مشهدٌ مسرحيّ، وتترادف مع كلمة فصل مسرحي.
7-   نظريات المسرح، الجزء الأول، مارفن كارلسون.
8-   المجمع: أبحاث في اللغة العربية والأدب والفكر، المجلد 2011، العدد 5 (ديسمبر/ كانون الأول 2011). الناشر: أكاديمية القاسمي، مجمع القاسمي للغة العربية وآدابها، فلسطين

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.