}

سرديات السفر.. خيال الجغرافية وأساطير التاريخ

وارد بدر السالم وارد بدر السالم 6 يناير 2022
استعادات سرديات السفر.. خيال الجغرافية وأساطير التاريخ
الإدريسي، ابن فضلان وابن بطوطة

 

["انطلقوا أيها الرّحّالة، فأنتم لستم نفس الأشـخـاص عـنـد بدء الرحلة"، إليوت]

بين رحلة جلجامش إلى غابة الأرز، وبين سفر أجاثا كريستي الآثاري، وخيال البرازيلي باولو كويلو الروحاني، ورحلة العماء في رسالة الغفران للمعري، وأسفار المغربي ابن بطوطة إلى الأمصار والأقطار المجهولة لمدة 27 عامًا، ورحلات الفرنسي رامبو إلى قبرص وعدن وأثيوبيا، ثمة أزمانٌ متفاوتة ومتقاطعة بمعطياتها الفنية والسردية والجمالية، تقع بين الخيال والأسطورة والحقيقة والخرافة. فالخيال الفني ذو الحبكة المشدودة عند كريستي، حقق لها ولنا أكثر الروايات البوليسية المشوقة، بمعنى أنه سفر منتج؛ بينما تحقق من السفر الجلجامشي العنيد، أسطورة عظيمة في مدى خيالها المتسع للبحث عن عشبة الخلود، في سفر ذي مشقة أسطورية مؤلمة في الأحوال كلها. وكان سفر البرازيلي كويلو يقع بين الخيال وحقيقته الدينية الروحانية في الحج على الطريقة القديمة، بحثًا عن سيف مفقود في روايته (الحاج كومبوستيلا).

كان أبو العلاء المعري يوصل رسالته الفلسفية من دون عينين باصرتين، لكنه أوصلها ببصيرته الاستثنائية. في حين كان ابن بطوطة خارج وداخل مدار الزمن السردي التاريخي، لكن رامبو المحبَط، لم يحقق الغنى المطلوب في هرار الأثيوبية؛ بينما يحثنا ووردزوورث على الارتحال في الطبيعة حتى تأتينا مشاعر قد تكون نافعة (انطلقت إلى الصحراء حتى تجعلني أرى نفسي صغيرًا) لنجد الكثير من الأسفار الاستكشافية في واقعيتها وشاعريتها، تحاول أن تكتشف العالم من جغرافيته وتاريخيته وعلومه واجتماعياته وسياساته: ابن بطوطة جوّاب الآفاق في عجائبياته التي دوّنها في رحلته الخرافية. والإدريسي الذي وضع أول خارطة للعالم، مخترقًا البحار والأنهار والأمصار، وكولومبوس مكتشف أميركا بمشقة، والمبشّر ديفيد ليفينغسون مستكشف أفريقيا. لنعرف أن جواب سقراط العالمي عندما سألوه: من أي البلاد أنت، فلم يقل "من أثينا" بل من "العالم". فالعالم الذي كان غامضًا، تم تفكيكه على مراحل زمنية طويلة، استكشافًا وعلمًا وأسطورة وخرافة وحكاية وشعرًا وسردًا. فالرغبة في الاكتشاف والوصول إلى حقيقة الكون أو أجزاء منه، كانت مشغل الرحالة والمسافرين، بمن فيهم العلماء والشعراء والموصوفون بالمعارف والعلوم، حتى قيل إن بودلير كان أول فنان في القرن التاسع عشر يعبّر عن جمال أماكن السفر الحديثة ووسائطه. لكن قبله بأشواط زمنية، أمضى ابن فضلان ثلاث سنوات في بلاد الصقالبة والخزر، حتى ألهمت هذه الرحلة فيلمين أميركيين هما "أكلة الموتى" و"المحارب الثالث عشر" للمخرج جون مكتيرنان، لسيرة هذا الرحالة الذي أوفده المقتدر بالله إلى هناك لبناء المساجد.

كولومبوس وماركو بولو



مسافرون ورحّالة

كان العالَم القديم يتحرك، ويرى، ويدوّن في سرديات السفر الكثيرة. وفي كل هذه السرديات التي جاءت على شكل أسفار متنوعة المآرب والظروف والأسباب، كانت الحياة القديمة خاضعة إلى التجارب والملاحظات والرؤى والرصد الميداني، بما فيها من مُتع ومغامرات واستجلاء معارف جديدة وعلوم مهمة، لذلك نجد أن هناك (مسافرين) و(رحّالة) أغرقوا الحياة الثقافية والعلمية بالمعرفة والعلم والاكتشافات الجديدة، والنصوص. فالمسافرون مُتعويّون في ظاهر الأمر. والرحّالة مغامرون على الأرجح في دخولهم إلى متاهات العالَم من دون مرجعية تاريخية وسياسية وجغرافية. ومع أن العالم القديم لا يعرف السفر بمحتواه المعاصر، سوى السفر الديني (الحج) إلا أن كلا التسميتين؛ المسافر - الرحّال؛ لهما دلالة واحدة في معنى أن تكون النصوص السردية قائمة بحرفيتها، ولها شخصيتها التي تفترق عن سرديات الرواية والقصة والحكاية الشعبية والخرافية. فأدب السفر هو أدب الرحلة من دون تحديد معجمي لهما كما نرى في نهاية الأمر.

وإذا استطردنا بمثل هذه التوصيفات بشخوصها الحقيقيين، فسنقف على أصناف متعددة من الأسفار الطويلة والقصيرة في عوالم المدن والمحطات، قديمها وحديثها. بين الاستكشاف والمغامرة والمتعة والثقافة والإرشاد والتجديد النفسي، والاطلاع على أحوال الناس، وخرافاتها، وأديانها، ومعتقداتها، وسلاطينها، وسلطاتها، وأفكارها في كل مكان. لذلك فإن حقيقة السفر غير ما نتوقع قبل أن نسافر، كما يوردها آلان دو بوتون في كتابه الممتع "فن السفر". فإن كان السفر الحديث سهلًا وميسورًا، فإن الأسفار القديمة في العصور الماضية لم تكن كذلك، بوسائلها البدائية المتاحة، ومعرفتها الناقصة، جغرافيًا وفلكيًا ومعلوماتيًا، وهي أقرب للمغامرة منها إلى المتعة، وللمعرفة منها إلى الترويح. لذلك فنصوص الأسفار لها خصائص، خرجت عن ضوابط التصنيف الفني الحديثة، ووطّنت ضوابطها على ما أنتجته من صور مشرقة عن العالم المجهول في أقاصي الأرض. وأقامت لها نوعًا من جنس أدبي ما يزال يحتفظ بنكهته السردية، حتى وإن تقادمت الظروف الفنية عليه، وتطورت، وجعلت لها نظامًا نقديًا شخصيًا. فهو النص المستجلَب من العدم. من الفراغ. لذلك فهو نص يحفر في المستقبل أيضًا، كونه بقي نصًا محافظًا على روح الكشف والاكتشاف ولم يبارحها، حتى وإن تعددت الأسفار الحديثة، وتغيرت معالم الحوار، ووسائل اللقاء السريعة، وتوفر المعلوماتية الدقيقة جدًا. غير أن مثل هذا الأدب العلمي والإنساني، يسجّل بقاءه الحتمي باضطراد، كمرجعية ثقافية علمية.

قتلى الأسفار

إن حكايات الأسفار المتعددة في أزمانها، العلمية والسيرية، قامت على وحدات صغيرة من المشاهد بعناصرها الحكائية والوصفية، ومخرجاتها الميدانية، وحتى الخيالية منها والأسطورية. فما من كتاب قديم في الأدب الرحلوي يخلو من ثيمات متعددة، ومشاهد متفرقة عن البلدان والأمصار والأقطار، وصور متنافرة عن الواقع المُزار. وبالتالي فإن مثل هذه الكتب، التي تعاصرنا كوثائق جغرافية وتاريخية وأدبية وخرافية وأسطورية، وضعت لِبنة الأثر السردي في مغامراتها الميدانية والاستكشافية والاستطلاعية، لنجد لاحقًا في الروايات والملاحم الشعرية والسّيرية والأسطورية، مسافرين، وأبطالًا، ومهاجرين، ومغامرين، ورحّالة، وهاربين سياسيين، ومدونين جغرافيين، ومقتفي أثر تاريخي. كما نجد أركيولوجيين وأثاريين ومكتشفين. مرضى، وهواة، وفلاسفة، وأدباء وشعراء وروائيين وفنانين. صعاليك، وطلّاب معرفة، ومجرمين محليين، وسكارى، وفاقدي الأحلام. نساءً ورجالًا وصبيانًا وشبابًا وعجائز. وكل هذا الخليط غير المتجانس، يشكل في أدبياته ما يسمى بـ أدب الأسفار، ليكون أحد المصادر الاجتماعية والثقافية على وجه التخصيص.

ماجلان وجيمس كوك 


ولنا في التاريخ العربي مثل هذا الأسفار العظيمة التي قادها ابن بطوطة وابن جبير والمقدسي وابن حوقل والإدريسي، وغيرهم من عتاة الرحّالة والمسافرين الذين جابوا الآفاق برًا وبحرًا ونهرًا. قطعوا فيها مئات الآلاف من الكيلومترات شمالًا وشرقًا وجنوبًا وغربًا، بتلك الوسائل البدائية والبسيطة التي كانوا عليها. من أجل توثيق المعارف والعلوم والعادات والتقاليد في اجتماعياتها وسياساتها المتداولة في حينها في هذا البلد أو ذاك، لرؤية الآخَر من الجوانب كلها. بل إن بعضهم تعرض إلى حوادث أدت إلى الموت، كما حدث مع مونكا بارك الذي غرق عند شلالات بوسا في نيجيريا؛ وجيمس كوك الذي قتله بعض الناس في هاواي؛ والبريطاني جون ديفز قتيل القراصنة خلال رحلة له إلى جزر الهند الشرقية. أما ماجلان فقد قتله الملك الفلبيني المسلم لابو لابو في معركة ماكتان بالفيلبين.. وهكذا نرى عظمة الأسفار في مغامراتها الصعبة أحيانًا، مع العالم البدائي. ولذلك فإن أسفار هؤلاء بقيت حتى اليوم مراجعَ ومصادرَ، يُستعان بها لمعاينة واقع الحال القديم. وفي أزمانٍ متقاربة أو متباعدة، كان التنافس في الطرف الآخر- غير العربي- قائمًا بأسماء لامعة كماركو بولو وكولومبوس وتازمان وهندسن وجيمس كوك وريتشارد بيرتون، وكل هؤلاء وصلوا إلى أماكن لم يطأها بشرٌ من قبل، وكانوا مكتشفين بارعين، وروادًا في أسفارهم ورحلاتهم الدائبة على كوكب الأرض. ويبدو لنا أن أدب السفر نشأ من هذه المحاولات الفردية في استكشاف العالم ونشاطات الجغرافيين والمستكشفين والرحالة العرب وغير العرب.

بقي المكان.. وضاع الزمن

أدب السفر، أو ما يسمى بأدب الرحلة، هو عنوان واحد لحركة بشرية دائبة، ليس لها تاريخ محدد، ولا يربطها قانون حكائي متعارف عليه، وحتى اليوم بتكاثر الرحالة والمسافرين لم يقترح أحد من الباحثين والدارسين لهذا النوع السردي، أي شروط أو قوانين داخلية من شأنها أن (توجّه) هذه الكتابة، فبقيت نصوصها مفتوحة على الاجتهاد الشخصي، والرؤية الفنية في مغامرة السفر، ومن ثم مغامرة الكتابة. فكل رحلة مكتوبة هي حكاية ورواية وأثر سردي مقروء، ليتأسس من هذه الرحلة نص. عندما يتحول من سفر شخصي إلى كيان نصي له مواصفات النص الحكائي أو القصصي، الشعبي أو الخرافي أو الواقعي أو الخيالي أو الديني، وتحوّل المؤلف من رحّالة مسافر، إلى تجربة نصية قابلة للجدل الفني والمعرفي.. وفي هذا المعنى يمكن استخلاص هذا النوع الأدبي، المنسحب من الحياة الثقافية والأدبية، عبر نصوصه العربية القديمة التي أثْرت المكتبة العربية، وبقي صرحها يشير إلى النوع الثقافي السائد في فترات مختلفة من الحياة العربية والإسلامية، وهو القادم إلينا بأسماء رائدة غنية عن التعريف في تاريخ الثقافة العربية في جغرافية السفر. وبالتالي فنصوص السفر، هي النصوص التي تترك فراغات مؤكدة إن كانت نصوصًا في سرديات العلوم والجغرافية الاستكشافية أو التاريخ المبعثر في المخطوطات أو الشواهد الآثارية، حتى يأتي من يملأها بنصوص موازية وتكميلية في الوضع أو الاكتشافات، في حين تبقى السرديات الأدبية في مثل هذه الأسفار خاضعة لشروطها الزمنية، بينما تظل نصوص الخرافة في الخيال الشعبي متغيرة، طبقًا لمتغيرات الرواة في أزمنة تالية.

هوامش وإحالات:

1- أدب الرحلات - د. حسين محمد فهيم - عالم المعرفة 138 – الكويت – 1990
2- أرض التعارف (المجلد الثاني) – تحرير وتقدم نوري الجراح- الدوحة – 2010
3- فن السفر- آلان دو بوتون- ترجمة الحارث النبهان – التنوير – بيروت - 2021
4- متعة الكتابة - وارد بدر السالم- مؤسسة ثائر العصامي - بغداد - الطبعة الأولى - 2021
5- جلجامش: ملك تاريخي لدولة الوركاء السومرية، وبطل في ميثيولوجيا بلاد الرافدين القديمة.
6- أجاثا كريستي: بريطانية. عُرفت برواياتها البوليسية واشتهرت بها. زارت العراق ومصر وسورية.
7- باولو كويلو: روائي برازيلي. تتميز رواياته بمعنى روحي يستطيع العامة تطبيقه مستعملًا شخصيات ذوات مواهب خاصة. وأشهر رواياته "الخيميائي" التي ترجمت إلى 80 لغة.
8- المعري: أبو العَلاء المعريّ . شاعر ومفكر ونحوي وأديب من عصر الدولة العباسية. لُقب بـرهين المحبسين أي محبس العمى ومحبس البيت؛ لأنه اعتزل الناس بعد عودته من بغداد حتى وفاته.
9- ابن بطوطة: رحالة ومؤرخ وقاض. لقب بـأمير الرحالين المسلمين. ويعد من أهم الرحالة العرب، إذ قطع أكثر من (121.000 كم) بسبعة وعشرين عامًا. وهي مسافة لم يقطعها أي رحالة منفرد حتى ظهور عصر النقل البخاري بعد 450 سنة. وجاءت أخبار رحلته العالمية بعنوان (تحفة النظّار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار).
10- كريستوفر كولومبوس: رحالة إيطالي، ينسب إليه اكتشاف العالم الجديد (أميركا).
11- ديفيد ليفينغستون: مستكشف اسكتلندي لوسط أفريقيا.
12- ابن جبير: جغرافي، رحالة، كاتب وشاعر أندلسي عربي.
13- المقدسي : رحّالة مسلم . احترف التجارة فكثرت أسفاره حتى صار رحَّالة جغرافيًا، وصنف كتابًا اسماه "أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم" وقد أكسبه شهرةً كبيرةً.
14- ابن حوقل: كاتب وجغرافي ومؤرخ ورحالة وتاجر من القرن العاشر للميلاد. من أشهر أعماله "صورة الأرض".
15- الإدريسي : عالم عربي يُعد من كبار الجغرافيين في التاريخ، ومن مؤسسي علم الجغرافيا الحديثة، كما كتب في الأدب والشعر والنبات ودرس الفلسفة والطب والنجوم في قرطبة.
16- فرناندو ماجلان: مستكشف برتغالي. أول من عبر المحيط الهادئ. وقائد أول رحلة دارت حول الكرة الأرضية.
17- جيمس كوك: أحد أهم المستكشفين الأوروبيين في عصر التوسع الاستعماري. اكتشف الساحل الشرقي لأستراليا وجزر هاواي ونيوزيلندا.
18- ريتشارد فرانسيس برتون:‏ مستكشف ومستشرق وعسكري ومترجم إنجليزي.
(ملاحظة: ترجمة الأعلام أعلاه من ويكيبيديا - الموسوعة الحرة)

 

مقالات اخرى للكاتب

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.