}

في فن الكوميديا والحضور الساطع لعادل إمام

راسم المدهون 15 أكتوبر 2022
استعادات في فن الكوميديا والحضور الساطع لعادل إمام
عادل إمام في مهرجان قرطاج السينمائي الـ27(5/11/ 2016/فرانس برس)

حضور فن الكوميديا ظلّ إلى اليوم ساطعًا ومثيرًا للاهتمام في الوسائط الفنية كلها، وبالذات في المسرح أولًا، ثم في دراما الصورة، بوجهيها المعروفين السينما والتلفزيون. هو الحضور الأهم الذي يستقطب الجمهور الأوسع الذي يبحث عن فن يمنحه القدرة على رؤية مصاعب حياته وآلامها في رؤية "كاريكاتورية" تمتزج بالضحك والسخرية، وإنارة عيوب اجتماعية وسياسية يومية يراها المشاهد في حالتها الكوميدية أكثر عريًا.
بدايات المسرح المصري كانت في تجاربها الأولى، بل وفي تجاربها الأهم والأغزر، كوميدية تبحث عن خلق التفاعل بين الجمهور من المشاهدين وبين الحكايات التي يرويها لهم ممثلون يجتهدون لتوصيل أفكار وحكايات في قالب فني آسر وقادر على بناء ثقافة تقوم على وحدة من هم على خشبة المسرح، ومن يجلسون في مقاعد المتفرجين، ولعل هذه العلاقة المباشرة بالذات هي من حفّزت على التفاعل بينهما في صورة حيوية من خلال "الخروج عن النص"، أي من خلال دفع "أهل الخشبة" إلى "الدخول في الحالة" أكثر، وتضييق المسافة مع المتفرجين بما يمنح العرض المسرحي حيويته المنشودة. معظم تلك التجارب المسرحية شهدت سطوع شمس الكوميديا، بما هي انحياز الفن للغة الكاريكاتير، وأساليب معالجته هموم الحياة ومتاعبها. وسنرى أن هذا كله حمله الرواد الأوائل في رحلتهم بعد ذلك إلى السينما، كما التلفزيون في زمن آخر.
هنا بالذات يحضر نجيب الريحاني، الذي أعتقد أنه كان ولا يزال أبرز من قدم الكوميديا على المسرح، وأبرز من قدمها في السينما، بالرغم من محدودية الأفلام التي قدمها، والتي تنحصر في سبعة أفلام ظلت حيّة وقابلة للمشاهدة إلى اليوم. نجيب الريحاني يحضر عند الحديث عن عادل إمام وفنه الذي ملأ الدنيا وشغل الناس. وأعتقد أن ما يجمع بينهما ليس تشابهًا ما في طريقة الأداء الفني، ولكن في إخلاصهما لفكرة بالغة العمق، وهي "جدية" الكوميديا، ورفض النظر إليها كوسيلة ترفيه آنية تنحسر مع لحظة مغادرة المسرح، أو دار العرض السينمائي. إلى اليوم، أظل مشدودًا لذلك الأداء التعبيري البديع والخالد الذي قدم من خلاله الريحاني فيلم "غزل البنات"، الذي شاركته بطولته المطربة الراحلة ليلى مراد، وقام بإخراجه أنور وجدي. نرى كثيرًا من هذا في أفلامه الأخرى، ومنها بالذات "صاحب السعادة كشكش بيه"؛ "سلامة في خير"؛ "أبو حلموس"؛ "لعبة الست"، و"سي عمر"، وغيرها، وهي كلها قدمت أداء فنيًا سيفارق فن الكوميديا مع من جاؤوا بعده حتى ظهور فؤاد المهندس أولًا، ثم عادل إمام بعد ذلك، فشهدنا من جديد عودة الكوميديا إلى مكانتها الأعلى، باعتبارها أسلوب تعبير، وليست درجة فنية أقل من التراجيديا، مثلما أن اتكاءها على الضحك والإضحاك، وما تحمله من كاريكاتيرية، لا يقلل من مكانتها ومقامها كفن يحمل في ثناياه موضوعات وقضايا هامة.




بعد محطة الريحاني، جاء فؤاد المهندس، كأحد أبرز رموز الكوميديا الذين استفاد عادل إمام من تجربتهم الفنية، وكان بليغًا أن تبدأ تجربة عادل إمام المسرحية من خلال دور صغير لعبه في مسرحية فؤاد المهندس المعروفة "أنا وهو وهي"، التي أطلقته لأول مرة، وفتحت له باب الفن واسعًا بعد ذلك.


الانطلاقة المتأخرة

سهير البابلي وسعيد صالح وعادل إمام في مسرحية "مدرسة المشاغبين"


حضور عادل إمام الفني جاء على مرحلتين، كانت الأولى مشاركاته في أدوار سينمائية صغيرة وثانوية أحيانًا، أو بأدوار بطولة لم ترتق للمستوى العالي والجدية، سواء لجهة موضوعات تلك الأفلام وأدواتها الفنية. ومع أن تلك المشاركات قد حققت حضوره إلى حد كبير، إلا أنها ظلّت أقل كثيرًا من إمكاناته وموهبته، وانتظرت حدثًا مفصليًا تنطلق من خلاله إلى فضاء أرحب أمكن معه تجاوز البدايات لتقديم أعمال تتجاوز مشاركته، ويمكن أن نعدها خاصة به، وباسمه وموهبته. أعتقد أن تلك البداية "الثانية" والحقيقية تحققت مع مشاركته الهامة والأشهر في مسيرته الفنية كلها، وأعني مسرحية "مدرسة المشاغبين"، مع سعيد صالح، وسهير البابلي، وحسن مصطفى، وأحمد زكي، ويونس شلبي. في "مدرسة المشاغبين"، "أسس" عادل إمام للكوميديا التي يبحث عنها، والتي يمكنه من خلالها الدخول إلى علاقة متميزة بين المسرح والجمهور، فتلك الكوميديا التي نجحت في تقديم عروضها على مدار ما يقارب عقدًا طويلًا من السنوات فتحت أمامه أبواب تحقيق مسرحياته اللاحقة "شاهد ما شافش حاجة"، و"العيال كبرت"، و"الزعيم"، ومنحته فرصته الكبرى في تحقيق أعمال سينمائية باتت ترتكز على شهرته الجديدة، ورسوخ قدمه في عالم الفن، وبالذات فن الكوميديا، ومكنته بذلك كله أن يكون "صاحب الاختيار" الذي ينتقي النصوص وينتقي موضوعاتها، بل ويختار مخرجيها في حرية غير مسبوقة في السينما المصرية، وهي حالة بات معها قادرًا على معالجة الموضوعات السياسية والاجتماعية الكبرى، فرأيناه يقدم أفلامًا بالغة الجمالية والأهمية الفكرية، مثل "طيور الظلام"، و"الإرهاب والكباب"، وهي أفلام تناولت قضايا بالغة الخطورة والأهمية بالنسبة للمجتمع ككل.




أهمية هذا النوع من الأفلام أتت أولًا من موضوعاتها التي تهم القطاع الأوسع من جمهور السينما عمومًا، وكذلك من تحقيقها في صورة فنية متقدمة، سواء من خلال الإنتاج الكبير، أو حتى التميز الذي حققته بفضل المخرجين الأهم والأبرز الذين حققوها فنجحت في المستويين الفني والتجاري في الانتشار الواسع والمشاهدات الكثيفة في دور العرض السينمائي أولًا، ثم من خلال الشاشة الصغيرة، خصوصًا بعد انتشار البث الفضائي في العقود الماضية.
لم تخل تجربة عادل إمام السينمائية من أفلام استلهمت تجارب أفلام الأكشن، بايقاعها ومناخاتها الفنية، فقدمت قصصًا وموضوعات محلية، كما رأينا في أفلام مثل "سلام يا صاحبي"، وخمسة باب" مثلًا، وهنا لا بد من الإشارة بمعنى إيجابي إلى نجاح إمام في تقديم مشاهد تحمل شيئًا كثيرًا، أو قليلًا من المبالغات الفنية التي كان المشاهدون يقبلونها انطلاقًا من حبهم لفنه أولًا، ثم أيضًا بسبب اتساقها مع المسار العام والسياقات الفنية للفيلم وحكايته. هي علامات النجومية الكبرى التي تجعل المشاهد "يصدق" ما يرويه عادل إمام لجمهور مشاهديه ومن يتابعونه من خلال التلفزيون وقنواته التي لا تحصى.
نجومية عادل إمام دفعته نحو تحقيق فيلمه الشهير "حسن ومرقص" مع الممثل العالمي عمر الشريف، الذي عالج قضية الإرهاب الطائفي، وتناول من خلالها قضايا "الإسلام السياسي" بروح نقدية ساخرة لم تخل من صيغة فنية كاريكاتيرية فيها كثير من الجرأة والعمق في التناول. هي أيضًا واحدة من المعارك الكبرى التي فرضتها الاتجاهات المتخلفة في المجتمع على إمام، والتي فتحت له معارك عديدة ومتكررة كان أهمها وأشهرها معركة تكفير الفن وتأثيمه على أمل فرض "تحييد" إجباري على الفن يضمن إخراجه نهائيًا من المعركة، وزجه في "حالة الترفيه" الكامل باعتباره قيمة ثانوية لا يجوز أن تنشغل بقضايا المجتمع ومستقبله.
عادل إمام أحد أبرز الفنانين الذين استفادوا من مساهماتهم الكبيرة في المسرح، فهو الذي استمرت عروض مسرحياته لسنوات طويلة في صورة متواصلة، وهو تعايش فتح له فرصًا كبرى لـ"الخروج عن النص"، وأعني هنا بالتحديد فرصة إطلاق مونولوجاته الشخصية التي ترتكز للنص المسرحي وتنطلق منه، ولكنها تذهب نحو مزيد من "كاريكاتيرية" الوقائع اليومية والأحداث الواقعية، واستدراجها إلى مساحة الكوميديا لتعريتها كعيوب اجتماعية وسياسية أكثر، خصوصًا أن خروجه عن النص جاء، غالبًا، مختلفًا عن تجارب غيره من الفنانين.


ثنائيات إمام وبطلات أفلامه

يسرا وعادل إمام اجتمعا في 17 فيلمًا


في السينما لا نكاد نعثر على ممثلة هامة لم تشارك عادل إمام بطولة واحد من أفلامه على الأقل، ومع ذلك نلاحظ أن الممثلة يسرا كانت الأكثر مشاركة له في أفلامه، حيث ظهرا معًا في عدد كبير من الأفلام، أشهرها "الإنس والجن"، و"على باب الوزير"، و"الأفوكاتو"، و"المولد"، و"الإرهاب والكباب" وغيرها من الأفلام التي صارت مشاركات يسرا فيها "مألوفة" ينتظرها الجمهور ويتوقعها.
عادل إمام لم يحصر نفسه في دائرة الكوميديا وحسب، ولكنه بدلًا من ذلك ذهب في اتجاه مزج حضوره الباهر والجذاب في الكوميديا لتحقيق حضور ومصداقية في الفن عمومًا، ولهذا كان منطقيًا وطبيعيًا أن يلعب أدوارًا في الأنواع الفنية كلها. هنا شاهدنا أفلاما تحكي قصص حياة شخصيات غزيرة التنوع في المهن، كما في التكوين الشخصي الفردي والحالة الاجتماعية، وفي الوقت ذاته رأينا اختيارات فنية تعكس التطورات المتسارعة في حركة المجتمع المصري، ما يجعل أفلامه حاضرة بقوة. نرى ذلك في عدد من الأدوار التي عالجت قضايا لا تحصى، سواء في الإرهاب، أو الفقر، أو قضايا الانحراف الاجتماعي، وأيضا سواء أخذت المعالجة الفنية لها صيغًا مباشرة، أو اعتمدت الترميز، فقد جاء خطاب تلك الأفلام قريبًا من مخاطبة وعي المشاهدين وذهنيتهم الثقافية بسلاسة.




أفلام عادل إمام في سنوات العقد الأخير كانت الأهم، والأكثر إثارة، خصوصًا "السفارة في العمارة"، و"التجربة الدانمركية"، و"مرجان أحمد مرجان". في هذه الأفلام، حقق إمام سطوعًا عكس نضج موهبته وقدراته الفنية، ولكن أيضًا غزارة تجربته التي منحته خبرات أكبر، وحملت تنويعًا أكبر، وتجولًا أعلى في الموضوعات والأجواء الاجتماعية، وهي أيضًا شهدت تطويرًا في كوميدياه التي باتت أكثر هدوءًا، وتتكىء أكثر على الموقف، وعلى وحدة السياق الفني وسلاسته.
ذلك كله يحضر بالتزامن مع حضور عادل إمام في الحياة العامة، فهذا الذي أجمع الكل على اعتباره "الزعيم" في الفن ظل خلال العقود الثلاثة الماضية حاضرًا في أحداث مصر الكبرى، وتطورات الفكر والسياسة العربية من خلال مواقف وآراء جعلته في مرمى سهام القوى المعادية للتنوير والتقدم، من خلال حملات لم تتوقف انحاز خلالها إمام لحرية الفكر والفن، ودافع عن حق الفنان ومن خلفه الجمهور في المشاهدة الفنية الحرة بعيدًا عن التأثيم والمنع، فاستحق مكانته المرموقة.
عادل إمام اليوم يعيش سكون التقدم في السن، وهو سكون يشير إلى توقفه عن تقديم أي أعمال فنية جديدة، كما يتردد بقوة في الأوساط الفنية في مصر، وهو أيضًا ما يشير إليه غيابه الكامل تقريبًا عن المقابلات التلفزيونية والظهور في المناسبات الاجتماعية.
رحلة "الزعيم" مع الفن تجربة مرموقة، كبرى، وفيها كثير مما يبقى على مدى الزمن، ليمنح الأجيال المقبلة فنًا راقيًا لا يُنسى.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.