}

في ذكرى وفاة غونتر غراس.. عن ثلاثية دانتسيغ

سمير رمان سمير رمان 29 أكتوبر 2022
استعادات في ذكرى وفاة غونتر غراس.. عن ثلاثية دانتسيغ
غونتر غراس (1927 ـ 2015)

صادفت يوم 16 تشرين الأول/ أكتوبر الجاري الذكرى السابعة لوفاة الكاتب الألماني غونتر غراس/ Günter Wilhelm Grass المولود عام 1927، والمتوفى عام 2015.
بفضل روايته "طبل الصفيح/ Die Blechtrommel"، الصادرة عام 1959، حصل غراس على مكانةٍ مرموقة بين الكتاب الألمان في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، ليتبعه اعترافٌ عالمي توّج بمنحه جائزة نوبل للأدب عام 1999.
حياته ودوره، ككاتبٍ وممثلٍ للطبقة الألمانية المثقفة، كانا ولا يزالان موضوع بحثٍ ودراسةٍ معمّقة في أوساط القراء، وفي وسائل الإعلام الألمانية. أمّا على المستوى العالمي، فقد ترجمت كتبه إلى لغاتٍ عديدة، ونقل بعضها إلى شاشات السينما، حيث لاقت الأفلام المستوحاة من أعماله نجاحًا باهرًا في عالم السينما.


سنوات الإبداع الأدبي والمواقف السياسية

غونتر غراس في مؤتمر صحفي في فيينا (فبراير/ 1973) مع غلاف طبعة إنكليزية من رواية "طبل الصفيح" (Getty)


في الفترة (1956 ـ 1957)، كانت بدايات غراس مع النحت والرسم، حيث نظم أول معارضه في مدينتي برلين وشتوتغارت. وفي الوقت نفسه، وعلى التوازي، بدأ غراس التأليف الأدبي، ونشر أولى مسرحياته عام 1956. بعد ثلاثة أعوامٍ، وتحديدًا في عام 1959، صدرت أولى رواياته "طبل الصفيح"، التي كتبها في أثناء تواجده في فرنسا وسويسرا. بعد مرور 27 عامًا على حصول مواطنه هنريك بيل على جائزة نوبل للأدب، ينال غراس في الثانية والسبعين من عمره جائزة نوبل في الأدب عام 1999.




في عام 1972، قطع غراس علاقته مع الكنيسة الكاثوليكية احتجاجًا على موقفها من مسألة الإجهاض. كما وقف عام 1990 معارضًا لإعادة توحيد الألمانيتين، داعيًا في الوقت نفسه إلى إقامة كونفيدرالية بينهما. توفي غراس في 13 أبريل/ نيسان عام 2015 عن عمرٍ ناهز 85 عامًا.


إبداع غراس وتأثيره




مثّلت مدينته دانتسيغ/ Danzig، بالإضافة إلى النازية وتأثيرها على ألمانيا، موضوع أعمال غراس الأدبية الرئيس، والتي بلغت ذروتها في ثلاثية دانتسيغ، التي تضمنت رواياته: "طبل الصفيح" (1959)، "القط والفأر" (1961)، و"سنوات الكلاب" (1963).


"طبل الصفيح"
جاء الكتاب بأسلوب فانتازيا الكوميديا القبيحة ـ السوريالي(*)، الذي أصبح سمةً مميزةً لا تتكرر إلا في أسلوب غراس الفريد. بطل القصة نسخة طفولية أصيلة عن طفولة غراس. تتمحور القصة حول الطفل أوسكار، الذي قرّر، وهو لا يزال في الثالثة من العمر، بعدما أثارت الحياة البرجوازية التافهة التي يعيشها الكبار الاشمئزاز في نفسه، أن يتوقف عن النمو.




الآن، ومن موقعه في الأسفل كطفلٍ، أو من موقع المتفرّج على المدرجات، يراقب الطفل أوسكار أسلوب حياة الكبار. وبفضل طبله الصفيحي، أصبح في إمكانه أن يتحدّث عن الأحداث التي لم يشارك فيها مباشرة، على سبيل المثال، عن حمل والدته، آنّا. في مشاهد الرواية الغريبة، يصف غراس الأحداث التاريخية الحقيقية، سواءً في ذروة زحف حزب هتلر إلى السلطة، أو في ألمانيا النازية الرازحة تحت سلطة الديكتاتور، وكذلك الأحداث التي مرّت بألمانيا في السنوات التي تلت الحرب. كان غراس أحد أوائل الكتاب الألمان الذين تحدثوا صراحةً عن النازية، وعن الذنب الذي يحمله الألمان، بما في ذلك الذنب الفردي والمسؤولية التي تقع على عاتق المواطنين الألمان، وعن ضرورة إدراك وفهم هذا الذنب بدلًا من "التناول السطحي للماضي".
في عام 1979، حوّل المخرج الألماني فولكر شولندورف رواية "طبل الصفيح" إلى شاشة السينما، ليفوز الفيلم بجائزة "السعفة الذهبية" في مهرجان كان في نسخته الـ32، كما حصل الفيلم على جائزة الأوسكار كأفضل فيلم ناطق بلغةٍ أجنبية، وجائزة نقاد لوس أنجلوس لعام 1980. اليوم، يعدّ الفيلم الذي أثار في حينه فضيحةً غير مسبوقة واحدًا من أبرز أفلام الموجة االجديدة للأفلام الألمانية في تاريخ السينما.


"القطّ والفار"
قصة قصيرة ساخرة تجري أحداثها أيضًا في بلدة دانتسيغ خلال الحرب العالمية الثانية. وتحكي قصّة الشابّ المراهق يواكيم مالكيه. في هذه المرّة أيضًا، يلجأ غراس، من جديد، إلى أسلوب الفكاهة التي تتضمن السخرية والتخويف في آنٍ واحد. في بداية الأمر، تسببت القصة بفضيحة أُخرى: في عام 1961، واصل وزير العمل والرفاه الاجنماعي في ولاية هيسن موضوع خداع الشباب بالشعارات النازية، من دون أن يبرّئ الشباب من ذنوبهم. أبطال القصّة شباب مراهقون في تنظيماتٍ نازية خلال سنوات الحرب العالمية الثانية. ترتبط مأساة الأحداث بأجواء الدعاية العسكريتارية، وبتنشئة جيل الشباب في روح أفكار الرايخ الثالث الاشتراكية القومية، ذلك الجيل الذي لم تتوانَ النازية عن التضحية به في نهاية الأمر من أجل "الوطن الأمّ".


"سنوات الكلاب"
آخر كتب ثلاثية دانتسيغ تدور أحداثها البشعة في الفترة نفسها التي جرت فيها أحداث رواية "طبل الصفيح". إنّها الفترة التي سبقت وصول الاشتراكيين القوميين إلى سدة الحكم في ألمانيا، زمن النازية، الحرب، أجواء ألمانيا بعد الحرب، المعجزة الاقتصادية، وزمن "التوبة" الزائفة المعلنة. كلّ شيءٍ في الرواية يكتسب دلالة سياسية ما: الرقص على الثلج، الأشياء التي دبّت فيها الحياة، والبشر الذين تحولوا إلى أشياء، فزاعات الحدائق المنزلية التي نظّم إنتاجها الصناعي (باروكسيل)، والطحان (ماترن)، الذي تنبّأ بالمستقبل باستخدام ديدان الطحين، الزيّ الرسمي الموحد البنيّ للروبوتات، وغيرها. عبر القصة كلّها، يستشعر القارئ "دوافع كلبية": حكاية الكلب الأمير، حيث يدور مشهد استدعي فيه الفوهرر بعضًا من أتباعه، ولكنّه لم يقابلهم، بل تكرّم عليهم برؤية كلبه فقط. يشير هذا المشهد المرعب إلى الدرجة التي انحدر إليها الألمان في خضوعهم وخنوعهم، كما يشير في الوقت نفسه إلى مدى الجنون الذي أوصلتهم إليه الدعاية النازية.
قصة الكلب الأمير تصبح الخيط الرئيس الذي يربط الأجزاء المبعثرة لبناء الرواية المعقّد، لتشكّل عنصر السرد النشط، خاصّة في المشاهد التي تحكي عن هروب كلب الفوهرر من أقبية النازية، وتجواله في أنحاء ألمانيا في الأيام الأخيرة من الحرب. وتستمر الدراما المجنونة، ويتواصل موت الألمان الذين كان الكلب هو كلّ الإرث الذي تركه لهم هتلر. يبدو وكأنّ الرواية تريد أن تقول بتبادل الأدوار بين هتلر وكلبه، بحيث لم تعد ألمانيا تحت قيادة العريف المهووس، بل تحت قيادة كلبه الذي أصبحت المعارك وكأنّها تخاض من أجله. تصوّر الرواية سنوات حكم النازية وكأنّها سنوات كلبية بكلّ جوانبها، وتصور حياة الألمان وكأنّها حياة الكلاب.





كتب الباحث البولندي إيفان مليتشين، المتخصص في أعمال غراس: يمكن القول إن بناء الرواية فيه من عناصر الحكاية، أو الأسطورة، وفيه الاسكتش، والنكتة، وقصص الغواية والاحتيال، كما يتضمن الأمثال والمحاكاة الساخرة، وأيضًا الحوار والصور المصغّرة. وككثير غيره من الرومانسيين المعاصرين، ينطلق غراس من قناعةٍ تقول باستحالة نقل هذا العصر المعقد والمليء بالمتناقضات بالطريقة نفسها التي تتبعها الرواية القديمة، حيث يتولى الرواي الذي يرى كلّ شيءٍ ويعرف جميع أبطالها، سرد الأحداث الرئيسية ويتنقل بسلاسة وهدوء من الماضي إلى الحاضر. وعلى الرغم من هذا، فإنّنا نستطيع أن نتلمّس في رواية "سنوات الكلب"، كما في قصة "طبل الصفيح"، ثمّة رابطٍ يربطها بالرواية التقليدية، وخاصّة الرواية الكلاسيكية الألمانية، ولكن في صورة محاكاةٍ ساخرة.


هامش:

(*) فانتازيا الكوميديا القبيحة ـ السوريالي "Grotta": نوعٌ أدبيّ خاصّ، وأحد الأساليب الكوميدية الساخرة التي توالف بالأسلوب الفانتازيّ المرعب والمضحك، الوقاحة والرقيّ، ويتشابك فيها الممكن بالمستحيل، ويتداخل الماضي والمستقبل. من أبرز الأدباء الذين عرفوا بهذا الأسلوب: أرسطوفان، غوغول، مارك توين، كافكا، ميخائيل سالتيكوف شيدرين.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.