}

ذكرى غايتو غازدانوف.. الأديب الأوسيتي الشهير في مهجره

سمير رمان سمير رمان 19 نوفمبر 2022
استعادات ذكرى غايتو غازدانوف.. الأديب الأوسيتي الشهير في مهجره
غايتو غازدانوف (غريغوري إيفانوفيتش غازدانوف)

تقع أوسيتيا في جبال القوقاز، وتطلّ على ساحل البحر الأسود الشرقي. تنقسم أوسيتيا اليوم إلى جمهوريتين: أوسيتيا الشمالية التي أعلنت بدعمٍ روسيّ انفصالها عن جورجيا (إحدى جمهوريات الاتحاد السوفياتي السابق)، وأوسيتيا الجنوبية التي لا تزال جزءًا من جورجيا. من هذه المنطقة الصغيرة في القوقاز، برز الكاتب الأوسيتي غايتو غازدانوف (غريغوري إيفانوفيتش غازدانوف) كأكثر كتابها شهرة في القرن العشرين، والذي لم يحظ باهتمام بلاده إلا بعد مرور أكثر من عشرين عامًا على وفاته في المهجر، وبعد تفكك الاتحاد السوفياتي الذي غادره شابًّا في الثامنة عشرة من العمر.


نشأته ومسيرته الأدبية
ولد غازدانوف / Gazdanov Gaito، في 23 نوفمبر/ تشرين الثاني 1903 في مدينة سان بطرسبورغ. أبوه كان حارس غابات. عاش في المدينة حتى عمر الرابعة، لينتقل بعدها، بحكم طبيعة عمل والده، إلى سيبيريا، ومن ثمّ إلى مقاطعة تفيرسكايا، وأخيرًا خاركييف الأوكرانية حاليًا.
في عام 1919، عندما كان عمره أقل من 16 عامًا، انضم إلى صفوف قوات دينيكين، التي كانت تقاتل البلاشفة وقتها. عن خطوته هذه، قال غازدانوف، في ما بعد، إنّه "أراد أن يعرف ما هي الحرب". مع انتصار الجيش الأحمر، تراجع غازدانوف مع القوات المهزومة إلى شبه جزيرة القرم، ليغادرها بحرًا عام 1920 إلى تركيا. وفي القسطنطينية، سيكتب أولى قصصه "فندق المستقبل" عام 1922.





انتقل إلى باريس عام 1923، ليمضي هناك الجزء الأكبر من حياته بعيدًا عن الوطن. مارس أصعب الأعمال في غربته: حمّالًا في المرفأ، وعامل غسيل قاطرات، وعاملًا في مصنع (سيتروين) للسيارات. عاش حياة التشرّد، ونام في الشوارع عندما كان لا يجد عملًا. ولكنّه، وعلى الرغم من كلّ هذه الصعوبات، تمكّن أخيرًا من ارتياد جامعة السوربون، ليدرس تاريخ الأدب، وعلم الاجتماع، والاقتصاد. ومع أنّه أصبح كاتبًا معروفًا، إلا أنّه كان يجد نفسه مضطرًا للعمل في سبيل تحصيل لقمة عيشه، فعمل سائق تكسي أجرة في الليل، خلال السنوات (925 ـ 1928). خلال عمله سائقًا، تعمقت معرفة غازدانوف بقاع الحياة الباريسية، الأمر الذي وجد انعكاسه في روايته "طرق الليل" عام 1941. فقط بعد انتهاء الحرب، استطاع غازدانوف تأمين استقلاله المالي بعد النجاح الكبير الذي لاقاه كتابه "عودة بوذا".
صدرت أولى رواياته "أمسية عند كلير" عام 1929، ولاقت استحسانًا كبيرًا من قبل كتابٍ روسٍ كبار مثل بونين، ومكسيم غوركي، وكذلك في أوساط النقاد في المهجر، واعترف النقاد به، إلى جانب نابوكوف، كأكثر الكتاب الشباب موهبةً، فأخذ يكتسب سمعةً أدبية راحت تتعزز بالتدريج.




أراد غازدانوف العودة إلى الوطن، فكتب عام 1935 رسالةً إلى مكسيم غوركي يطلب فيها المساعدة، ولكن غوركي لم يتمكّن من تنفيذ وعده، فقد عاجلته المنيّة عام 1936. في العام نفسه، التقى غازدانوف بالسيدة فينا غافريشوفا، التي تكبره بـ11 عامًا، والتي تنتمي إلى عائلةٍ يونانية. رسميًا، عقد العاشقان قرانهما عام 1953، بعد أن حصلت فينا على الطلاق من زوجها الأوّل.
خلال سنوات الحرب، بقي غازدانوف في باريس المحتلة، ليلتحق عام 1942 بحركة المقاومة ضمن كتيبةٍ شكّلها الأسرى السوفيات. وجدت تجربة غازدانوف في صفوف المقاومة الفرنسية انعكاسها في كتابه: "أتعهد بالدفاع/ Je m’engage a defendre"، الذي نشر عام 1946 في باريس. حصل غازدانوف وزوجته على الجنسية الفرنسية عام 1947. وفي عام 1950، صدرت في نيويورك ولندن رواية "طيف ألكسندر فولف" باللغة الإنكليزية.
على الرغم من الشهرة والاعتراف العام به، لم يستطع غازدانوف التخلي عن عمله كسائقٍ ليليٍّ إلا بعد صدور رواية "طيف ألكسندر فولف"، وترجمتها فور صدورها إلى اللغات الأوروبية الرئيسة.
في عام 1970، شخّص الأطباء إصابته بسرطان الرئة، الأمر الذي تعامل معه الكاتب بصلابة مدهشة، إذ كان يحرص على إخفاء مدى الألم الذي كان عليه تحمّله، حتى عن أقرب الناس إليه. أمّا الغرباء فلم يتبادر إلى أذهانهم أبدًا أنّه مريض على حافة الموت. توفي غايتو غازدانوف في الخامس من ديسمبر/ كانون أول عام 1971 في ميونخ، ووري جثمانه الثرى في مقبرةٍ بالقرب من باريس.


اكتشاف روسيا المعاصرة لغازدانوف



كان غازدانوف كاتبًا مهاجرًا بقي مجهولًا في بلاده لفترة طويلة امتدت حتى تسعينيات القرن العشرين، حيث افتتحت في موسكو عام 1989 "جمعية أصدقاء غايتو غازدانوف"، بهدف دراسة إبداع الكاتب، والترويج لمؤلفاته في روسيا، وفي الخارج. ونجحت الجمعية عام 2001، بمساعدة المخرج فاليري غيرغييف، في رفع نصبٍ تذكاري قرب ضريحه في مقبرة سان جينيفيف دي بوا في فرنسا.


أسلوب غازدانوف



ألّف غازدانوف تسع روايات، و37 قصّة، محفوظة كلها في مكتبة جامعة هارفرد.
في معظم مؤلفات غازدانوف، نجد كيف يتشابك التصوير القاسي للحياة مع بداياتٍ شاعرية ـ طوباوية. أمّا النثر عنده فهو نثرٌ انعكاسي بالدرجة الأولى. ففي حين يأتي السرد على لسان الشخص الأوّل، نرى بقية المواضيع، كالناس والأماكن والأحداث، تأتي عبر موشور تصور الراوي، الذي يصبح إدراكه المحور الذي يربط بين حلقات القصة، التي تبدو أحيانًا غير مترابطة. لا تأتي الأحداث في حدّ ذاتها في مركز الاهتمام، بل ردود الفعل التي تحدثها.



تقوم مؤلفات غازدانوف على موضوعٍ شامل: كالسفر، بهدف الاستحواذ على المحبوبة، كما في رواية "أمسية عند كلير"، والمصير والحياة، كما في رواية "طيف ألكسندر فولف".... ليس هنالك من تناغمٌ في الحبكة، ولكن هنالك، على حدّ تعبير الكاتب الأميركي ـ الروسي مارك سلونيم: "وحدة المزاج". في روايات غازدانوف موضوع مركزي يوحّد ويحافظ في مساحته على عناصر الحبكة غير المترابطة ظاهريًا، والتي يتم الانتقال في ما بينها وفق مبدأ الترابط. لذلك نجد في قصة "اللورد الحديدي" عددًا هائلًا من الورود في سوق باريس التي يفوح عطرها لتنعش ذاكرة الراوي، فقد سبق له أن رأى تلك الكمية نفسها من الورود ذات مرّةٍ في "إحدى مدن جنوب روسيا". هذه الذكريات تحيي ذكريات أحداثٍ سبق أن حدثت لتشكل أساس القصّة.
تكمن السمة المميزة لغازدانوف الكاتب في انجذابه إلى الوجودية، الأمر الذي لوحظ في أعماله اللاحقة. وفي إمكاننا وصف شخوص روايات وقصص غازدانوف بأنّهم متجولون يقومون برحلاتٍ حقيقية ومجازية إلى الموت، رحلات تحمل في جنباتها تقلباتٍ روحية. وكقاعدة عامّة، فإنّ روح الإنسان صعبة المنال بالنسبة للمحيطين به، وغير واضحة دائمًا بالنسبة للشخص نفسه. يتطلب الأمر موقفًا معينًا، وربما يكون موقفًا خطيرًا كي يتضح ما هو مخفيّ. في روايات وقصص غازدانوف، تجد الشخصيات نفسها في موقفٍ متطرّفٍ، فهي ترتكب الجرائم، لأنّها لا تدرك مفهوم "الخطيئة". ومع ذلك، وفي الوقت نفسه، نجد المثل المسيحية قريبة منها ومفهومة بالنسبة لها: حبّ الجار، الرحمة، رفض الافتقار إلى الروحانية. إلى حدٍّ ما، يمكن القول إنّ الشخصيات تعيش في فضاءٍ دينيّ مشوّه، وقد يكون مردّ ذلك شغف الكاتب بالماسونية. وأخيرًا، يتميّز نثر غازدانوف بالتعبير الحسّي، والشعور بأنفاس الحياة، وقيمة كلّ لحظة يعيشها الإنسان.
تحمل روايات غازدانوف سماتٍ مميزة جعلتها مختلفة عن روايات معاصريه الشباب والناضجين. من هذه السمات الاختصار غير العادي، والابتعاد عن البناء التقليدي للرواية (أي الحبكة، الذروة، الخاتمة)، فجاءت أقرب ما تكون إلى الحياة، لتغطي عددًا كبيرًا من المشاكل: الاجتماعية، الروحية، النفسية العميقة، وكذلك الارتباط الجيني والديني والأخلاقي بالأجيال السابقة. لا يهتم غازدانوف بالحدث في حدّ ذاته قدر اهتمامه بخاصية انكسار الحدث نفسه في إدراك مختلف الشخصيات، وبإمكانية تعدّد طرق تفسير ظواهر الحياة نفسها.


روايات الكاتب:

"أمسية عند كلير" (1929)؛ "حكاية إحدى الرحلات" (1934)؛ "رحلة جوية" (1939)؛ "طرق الليل" (1941)؛ "طيف ألكسندر فولف" (1947)؛ "عودة بوذا" (1949)؛ "الحجّاج" (1953)؛ الصحوة (1965)؛ "إيفيلينا وأصدقاؤها" (1968)، و"الانقلاب" (1971)، لم تكتمل.
الأفلام: فيلم "الحياة الرابعة" (2004)، وفيلم "لعبة التخيلات.. غايتو غازدانوف"، للمخرج رافائيل غاسباريانتس.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.