}

من النافع إلى المخيّس.. عن التراث العربي والسجون

باسم سليمان 13 فبراير 2022
استعادات من النافع إلى المخيّس.. عن التراث العربي والسجون
سجن في المملكة المتحدة (Getty)

أبدع الإنسان الحرية، وفي الوقت نفسه أوجد نقيضها بالأسر والسجن، وبينهما كرّت حيوات بشرٍ، وختمت أخرى بالشمع الأحمر. وللسجون في البلاد العربية ديستوبياتها الخاصة بها، أكان ذلك في حاضر هذه البلاد، أو في ماضيها.
عرف العرب في جاهليتهم السجون كمنشآت خاصة عائدة لسلطات تابعة للقوى العظمى في ذلك الزمن، من فرس وروم. كما كان لدى المناذرة في الحيرة، أو الغساسنة في الشام، سجون. وقد سُجن طرفة بن العبد قبل قتله في سجن المشقَّر من قبل عامل النعمان بن المنذر على البحرين. وحبس النعمانُ الشاعر المنخّل اليشكري قبل قتله، وعدي بن زيد في سجن قرب الحيرة يسمى الثويّة، كما جاء في "معجم البلدان". لكن في قبائلهم لم تكن هنالك من سجون، فقد كان الآسر يختصّ بحراسة أسيره، أو تُحفر للأسير حفرة يوضع فيها، أو يرمى في بئر. وسجن الخليفة عمر الشاعر الحطيئة في بئر، اقتداءً بما كان يحصل في الجاهلية. وفي ذلك يقول الحطيئة: أَلقَيتَ كاسِبَهُم في قَعرِ مُظلِمَةٍ/ فَاِغفِر عَلَيكَ سَلامُ اللَهِ يا عُمَرُ.
لقد كان للعرب في جاهليتهم نظام الأسر الناشئ عن الغزو والإغارة على القبائل الأخرى، حيث كان الأسير غنيمة يتم التفاوض عليها لجني المال، وخاصة إذا كان من الفرسان، أو من علية القوم. وإن لم يُوجد من يفتدي الأسرى، كانوا يحرقونهم، أو يرسلونهم إلى رجل في الطائف مختصّ بتعذيب الأسرى وقتلهم بأجر، كما حصل مع معبد بن زرارة(1).




وتمدّنا اللغة بعدد من الألفاظ تكشف بأنّ نظام الأسر لم يكن أقل ترهيبًا من السجون. فقد كان يقبض على الأسير بواسطة الجامعة، وهي قيد مصنوع من الجلد، أو الحديد، يُوضع في يديّ الأسير. وكان هذا في أبسط أشكالها، لكن إن أريد التنكيل بالأسير، فهنالك ما هو أشدّ من ذلك بكثير، ومنها: التكتيف وفق ما جاء في "المخصّص" لابن سيده: شدّ اليدين من خلف. والقرفصة وشدّ اليدين تحت الرجلين. والكرفسة تعني أن يضم الأسير بعضه إلى بعض. والكردسة مثل القرفصة، وقال امرؤ القيس:
فَبَاتَ على خَدٍّ أحَمَّ وَمَنكِبٍ/ وَضِجعَتُهُ مثلُ الأسيرِ المُكَرْدَسِ.
ومن القيد اشتّق التنكيل بالأسير والسجين، فالنكل، هو القيد الشديد. ولقد تعدّدت مسميات القيد الحديدي، فإذا بلغ غاية الثقل سُمي الكبل، وجمعه كبول، كما ذُكر في "المخصّص"، فلا يكاد ينهض الأسير، أو السجين حتى يكبّه الثقل على وجهه. وقد قال قيس بن الحدادية بعدما أسرته خزاعة في غارة لها على اليمامة يستجدي سيدها أن يحرّره:
دَعَوتُ عَدِيًّا وَالكُبولُ تَكُبُني/ أَلا يا عَدِيُّ يا عَدِيُّ بنَ نَوفَلِ.
ومن معاني الأسر العفس، وهذه الكلمة مليئة بدلالات الإذلال، فالناقة المعفوسة هي المحبوسة الممنوعة من الرعي والشرب. والأسر صنو السجن، وقد كانت العرب تطلق على السجن؛ اسم (مخيّس)، وكانوا إذا خيّسوا الإبل منعوها من الرعي وحبسوها للنحر.
وكان الآسر، أو ولي الأمر، يعذّب الأسير، أو السجين، بالقيود، حتى لا يكاد ينهض من مكانه، حتى أنّهم ذهبوا إلى ربط لسان الأسير، إن كان شاعرًا بنسعة(2) تخوّفًا من هجائه، وبذلك أخبر عبد يغوث الحارسي عندما أسر:
أَقولُ وَقَد شَدّوا لِساني بِنِسعَةٍ/ أَمَعشَرَ تَيمٍ أَطلِقوا عَن لِسانِيا.
وقد تمادى العرب في أساليب التنكيل. وممّا يذكره لنا التراث آلةً تُسمى العذراء(3) كانت تُوضع في حلق السجين. وكانت هنالك آلة المقطرة(4)، حيث تجعل أرجل السجناء في خشب مفلوق على سعة الساق، فلا يقدرون على أيّ حركة.


في العصر الإسلامي

من داخل سجن "قارة" في المغرب.. بساطة وجمال التصميم لا تعكس سبب اكتسابه صفة السجن المستحيل الهروب منه 


قال الخليفة عثمان: من يزع الله بالسلطان أكثر ممن يزع بالقرآن(5). هذا القول قول السلطة والسياسة، فالالتزام بالقوانين ـ في الأعم الأغلب ـ يأتي خوفًا من بطش السلطة، لا عن قناعة إيمانية. إنّ تاريخ السجون في الإسلام يبدأ من تشكل النواة السلطوية في المدينة على زمن الرسول الكريم، وإن لم يأخذ صورة واضحة، إلّا مع الخليفة الرابع علي، ومن بعده معاوية. ولقد ذكرت كتب التراث السجون ومسجونيها، وخاصة من أهل السياسة والأدب، فقدمت لنا صورة جيدة عن السجون ومواقعها والمعاملة فيها.




لم يتخذ الرسول محبسًا دائمًا، كما جاء في التراتيب الإدارية للكتّاني، كذلك فعل خلفه أبو بكر، وعندما كان يُضطر لأن يحبس شخصًا، فيقام صاحب الحقّ على ملازمته ومنعه من الفرار حتى يتم البت بأمره. لكن إن كان الأمر متعلّقًا بحقوق السلطة الناشئة في المدينة، فقد كان يُتخذ حبس مؤقت، كما حدث عندما قُرر الاقتصاص من بني قريظة بعد غزوة الأحزاب، فقد اُتخذ لهم محبس في دار ابنة الحارث، وهي امرأة من الأنصار. أمّا في زمن الخليفة عمر، فقد كان الحبس في الآبار. لكن عندما اشتدت الرعية على عمر، كما ذكر في التراتيب الإدارية، اشترى دارًا من صفوان بن أمية بأربعة آلاف درهم، جعله محبسًا للخارجين على القانون. ولا يعلم إن كانت الذلفاء التي سجنت على زمن عمر لتغزّلها برجل، قد تم حبسها في بئر، أو في السجن الذي اشتراه الخليفة عمر من صفوان، ولكن أُطلق سراحها بعد أن تبرّأت من غزلها.
وجاء في "أنساب الأشراف" بأنّ الخليفة عثمان حبس الشاعر ضابئ البرجمي حتى مات في السجن. ولربما حبسه في الدار التي اشتراها عمر من صفوان بن أمية.
ذكر ابن سيده في "المخصّص" بأنّ أول من بنى سجنًا كان الخليفة الرابع علي، وأسماه (نافعًا)، وقد بناه في الكوفة. ويستخلص من اسمه الغاية الإصلاحية منه، لكن هذا السجن لم يكن مستوثق البناء، والهروب منه من السهولة بمكان، فهدمه وأشاد مكانه سجنًا منيعًا، أسماه (المُخيّس)، لأنّ به يُذل المحبوسون، فقد اضطرب الناس في زمنه أيّما اضطراب. ولقد ذكر الأصعمي شعرًا للخليفة الرابع بهذا الأمر:
أَما تَراني كِيِّسًا مُكَيَّسا/ بَنَيتُ بَعدَ نافِعٍ مُخَيَّسا.
لقد أرهب هذا السجن قطاع الطرق والناس، ومن الذين ذكروا خوفهم من المخيّس في أشعارهم كان الشاعر شبيب بن كريب الطائي، كما جاء في "البيان والتبيين" للجاحظ، فقال:
تجلّلت العصا وعلمت أنّي/ رهين مخيّس إن يثقفوني.
تكاثرت السجون مع الدولة الأموية بشكل كبير، واتخذت الأبنية القديمة والمنشأة حديثًا سجونًا. ويورد المسعودي عن دار معاوية المعروفة بالخضراء، بأنّ فيها الشرط والحبوس. ولقد أورد المقريزي خبرًا بأنّ أول من وضع الحرس والسجن كان معاوية. وعندما جاء الحجَّاج بنى العديد من السجون، منها: لعلع والديماس، الذي سجن فيه جُحدر اللص. وقد اشترط الحجاج لكي يفرج عنه أن يصارع أسدًا مجوّعًا، ففعل جحدر وقتل الأسد، فأطلقه الحجّاج. وفي ذلك يقول جحدر:
إِنَّ اللَيالي نَجَت بي فَهيَ مُحسِنَةٌ/ لا شَكَّ فيهِ مِنَّ الدَيماسِ وَالأَسَدِ
وَأَطلَقَتني مِنَ الأَصفادِ مُخرِجَةً/ مِن حَولِ سِجنٍ شَديدِ البَأسِ ذي رَصَدِ.
وممّا ذكره ياقوت الحموي عن سجون الحجاج: قيل بأنّه أحصى في محبس الحجاج ثلاثة وثلاثين ألف إنسان، لم يحبسوا في دم، ولا تبعة، ولا دين، وعدّ من قتلهم صبرًا، فبلغوا مئة وعشرين ألفًا. وأورد المسعودي عن محابس الحجاج بأنّ الحجاج قد توفي وفي سجونه خمسون ألف رجل، وثلاثون ألف امرأة، وكان حبسه حائرًا، لا شيء يسترهم فيه، من حرّ ولا من برد، وكان يسقون الماء مشوبًا بالرماد.




اتبع العباسيون الأمويين في بناء السجون واستخدام القلاع والبيوت كمقار للسجون، فقد حوّل العباسيون دار مروان بن الحكم في المدينة إلى سجن. كذلك فعلوا بقصر عمر بن هبيرة في الكوفة. وكانت السجون من ضمن خطط عمارة المدن التي بناها العباسيون في الهاشمية وبغداد وسامراء. وقد كان للسجون ذكر كبير في خطط المقريزي، وخاصة السجون التي في القاهرة. وقد وصف ما كان يحصل فيها من أهوال.
لقد أناطت السلطات الإسلامية بالسجون من يتولّاها من حراس وأساوير(6) وسبابيج(7)، وعادة ما كانوا من الفرس، أو الهند. لكن بعد ذلك عمّ اسم (جلواز) وجمعه جلاوزة، وهم الشرط المختصّة بحراسة السجن. وقد قدّرت السلطات الموارد التي تحتاجها الحبوس، حيث جاء في "تحفة الأمراء" لهلال الصابئ، بأنّ الخليفة علي هو أول من سنّ الأرزاق المترتبة للمسجونين، من كسوة صيفية، وأخرى شتوية، وطعام. وظلّ ذلك متبعًا حتى أصبحت من بنود الموازنة، كما جاء في "تحفة الأمراء".
لم يغب الفساد عن إدارة السجون، بل كان كثيرًا، حتى أنّ السجون في العصر المملوكي كانت تعهد لأحدهم كي يستخرج من المسجونين أكبر قدر من المال.
وحوت السجون كلّ طبقات المجتمع الإسلامي، من الملوك إلى العبيد، والعلماء والفقهاء، والشعراء والكتاب، والمعارضين السياسيين، وأصحاب الثورات، والذكور والإناث. ويكاد جلّ من عرفناهم من شعراء وعلماء وفقهاء في ذلك الزمن قد سجن، أو قتل بعد سجنه. ونكتفي بذكر بشار بن برد، وأبو العتاهية، والطبيب ابن سينا، والسهروردي، والمعتمد بن عباد الأندلسي، الذي سجن في أغمات في المغرب، وغيرهم كثير.
ولكي يكون لنا تصور يشي بكثير عن أحوال ذلك الزمان، وما يصيب أهل السياسة فيه، لا بدّ من ذكر الخبر التالي: فقد سُئل يزيد بن المهلّب(8): "لماذا لا تتخذ لك دارًا. قال: وما أصنع بها، ولي دار مجهّزة على الدوام، فقيل له وأين هي؟ فقال: إن كنت الوالي فدار الإمارة، وإن كنت معزولًا فالسجن".
أنتج هذا الواقع أدبًا عرف بأدب السجون، وهو مبثوث في الكتب التراثية. وأظهر هذا الأدب معاناة السجين من جهة، والتذلّل إلى السلطات حتى تعفو عنه من جهة أخرى. ولقد عرفنا عبره كثير من أخبار السجون والمسجونين.
ونختم هذا المقال برأي الفقه الإسلامي، الذي نتج عن واقع الحال، فلقد ذكر الكتّاني في "التراتيب الإدارية" عن الماوردي: "الحبس الشرعي ليس هو السجن في مكان ضيق، وإنّما في تعويق الشخص، ومنعه من التصرف بنفسه، سواء أكان في بيت، أو في مسجد. وأمّا الحبس الذي هو الآن، فإنّه لا يجوز عند أحد من المسلمين، وذلك لأنّه يجمع الكثير في موضع يضيق عنهم غير متمكنين من الصلاة والوضوء. وقد يرى بعضهم عورة بعض، ويؤذيهم الحرّ في الصيف والبرد في الشتاء". ولا ريب أنّ هذا الرأي الفقهي فيه من المثالية الكثير، فالواقع كان ينكره جملةً وتفصيلًا؛ وما أشبه البارحة باليوم(9).


المصادر والهوامش:
1- الأغاني لأبي فرج الأصفهاني، تحقيق سمير جابر ـ دار الفكر ـ بيروت.
2- لسان العرب لابن منظور. النِّسْعُ، سَيْرٌ يُضْفَرُ عَلَى هَيْئَةِ أَعِنَّةِ النِّعَالِ تُشَدُّ بِهِ الرِّحَالُ.
3- المخصص لابن سيده: العذراء؛ قيدٌ يوضع في حلق الإنسان، فيمنعه الأكل والكلام وإطباق فكيه.
4- القاموس المحيط للفيروزآبادي: مقطرة السجان؛ هي خشبة فيها فروق على قدر سعة الساق يحبس فيها الناس.
5- النهاية في غريب الحديث لابن الأثير الجزري، الناشر: وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية قطر.
6- القاموس المحيط: الأساوير مفرده أسوار؛ قائد الفرس والجيد الرمي بالسهام والثابت على الفرس.
7- لسان العرب: السبابيج قوم من السند كانوا في البصرة يعملون كجلاوزة وحراس سجون.
8- وفيات الأعيان لابن خلكان، دار صادر ـ بيروت.
9- طرفة بن العبد: كُلُّهُمُ أَروَغُ مِن ثَعلَبٍ/ ما أَشبَهَ اللَيلَةَ بِالبارِحَه.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.