}

نثر الحياة اليومية.. دفاتر المعلم نعوم البخاش (1835ـ 1875)

عزيز تبسي 13 مارس 2022
استعادات نثر الحياة اليومية.. دفاتر المعلم نعوم البخاش (1835ـ 1875)
نعوم البخاش وتحقيق الأب فردينان توتل اليسوعي ليومياته
مقدمة
ظل التدوين التاريخي ممارسة نخبوية استوجب إتمامها توفر حزمة من الأدوات المتكاملة لإنجاز مشروعها، من توفير الوثائق التاريخية، والاتفاق على موقف من الأحداث، واللغة، ونسخ المخطوطات، والمال، واحتكار المنابر التي تمنحها الأفضلية لتعميم أفكارها، والأهم صياغة رؤية متكاملة للوقائع، ووضع مصالح الجماعة المعنية التي تعبر عنها وتقدم إليها خطابها التاريخي وفق صياغة أيديولوجية محددة بمصالح الجماعة الحاكمة. تسربت رغم ذلك إلى كتب التاريخ أخبار الأقوام والجماعات المضطهدة، ثورات القرامطة، والبابكية، وانتفاضات الأمازيغ، والأقباط. كما عبر المنتفضون ذاتهم، بكتاباتهم وأشعارهم، عن مظالمهم وموقفهم من السلطة والحكم.
سعت الجماعات المضطهدة والمهمشة إلى كتابة تاريخها، لكن لم يصل الأمر بها إلى بناء استراتيجية تاريخية موازية للتاريخ السلطوي الذي عبّر دومًا عن مصالح المنتصرين ورؤيتهم للوقائع التاريخية.
في هذا السياق، تصدت المؤسسة الدينية المسيحية في المشرق العربي لإنجاز مهمة التدوين التاريخي، بما امتلك أفرادها من قدرات لغوية وأسلوبية وإمكانات مالية، وقدرة على الحماية الذاتية، كتعبير عن جماعة وجدت ذاتها في الهامش الاجتماعي والتاريخي، لكنها كافحت للاحتفاظ بصوتها الخاص، وموقفها من الوقائع التاريخية.
قدم ابن العبري قراءته في كتاب "تاريخ مختصر الدول"، عبر فيه عن رؤيته لتاريخ السريان والكنيسة السريانية في العصور الوسطى إلى الاجتياح المغولي، وقدم المطران الماروني يوسف الدبس "تاريخ سوريا".
تسلل مع مرور الزمن الناس العاديون إلى الكتابة، أناس غير مختصين بالكتابة التاريخية، من حرفيين وتجار ورحالة وفلاحين ورجال دين.
ساهمت هذه المبادرات في كسر احتكار الكلام، عبر تدوينهم لتجاربهم التي جمعت همس الناس حين يعبرون عن مظالمهم، والحيف الذي يلحق بهم، وصعوبات الحياة ومشاقها، وغياب العدالة في توزيع الضرائب، والمصادرات الجائرة للغلال الزراعية.




برزت بقوة أصوات المضطهدين في المجتمعات الغربية في مدونات تاريخية كبرى كافحت لانتزاع مكان لها، إلى جانب السرديات التاريخية السلطوية. فـ"التاريخ الشعبي للولايات المتحدة"، للمؤرخ الأميركي، هوارد زين، حرص على إيصال أصوات الهنود الحمر، والعبيد، والنساء، والحركات العمالية، والتوسع العدواني للولايات المتحدة الشرقية، من ثلاث عشرة ولاية إلى احتلال وضم الولايات الشمالية من المكسيك (جنوب الولايات المتحدة وغربها). وتصدى الروائي المكسيكي، كارلوس فوينتس، لكتابة تاريخ المكسيك في كتابه "المرآة الدفينة"، الذي عرض فيه تاريخ الشعب والحضارة المكسيكية قبل الغزو الإسباني، واستمر في دأب وصبر إلى التاريخ المعاصر، إلى حرب التصدي للعدوان الأميركي، الذي تمكن فيه جيشها من اقتطاع وضم ولاياتها الجنوبية والغربية (نيومكسيكو، وتكساس، وأريزونا، ونيفادا، وكاليفورنيا، وكولورادو)، وفي هذا إشارة إلى أن الكتابة التاريخية هي حقل صراعي بين المنتصرين والمهزومين، بين الحقيقة والأكاذيب، بين الحقوق والاغتصاب، بين أهل الأرض والمحتلين القادمين دومًا بصيغة فاتحين ومحررين، وهي كذلك زمن التسويات، إذ لا يمكن أن تخاض الحروب إلى الأبد، كما لا يمكن إنتاج ثقافة الحقد والكراهية إلى الأبد الآخر.
تحولت هذه المبادرات مع مرور الزمن إلى نصوص تاريخية موازية للتاريخ السلطوي، إيذانًا بوصول خجول لصوت الناس العاديين "الأصاغر"، بالتقابل مع الصوت المسيطر لـ"الأكابر"، وحيازتهم لموقع لا يزال هامشيًا في المدونات التاريخية:
ـ "تاريخ الشام"، للخوري ميخائيل بريك الدمشقي (1720 ـ 1782): حققه الخوري قسطنطين الباشا المخلصي، وطبعه في لبنان 1930.
ـ "رحلة فتح الله الصائغ الحلبي إلى بادية الشام وصحاري العراق والعجم والجزيرة العربية (1810 ـ 1814)": حققها الدكتور في جامعة السوربون يوسف شلحد.
ـ "ثورة الحلبيين على الوالي العثماني خورشيد باشا (1818 ـ 1820)": المأخوذة عن يوميات المطران أبراهام كوبليان ـ حققها مهران ميناسيان.
ـ "أحداث حلب اليومية (1771 ـ 1805) المرتاد في تاريخ حلب وبغداد": التي كتبها يوسف بن ديمتري بن جرجس الخوري عبود الحلبي، وحققها فواز محمود الفواز، وقدمها كأطروحة جامعية لنيل الماجستير.
ـ "أهم حوادث حلب في النصف الأول من القرن التاسع عشر": نقلًا عن مخطوطة للمطران بولس أروتين، أسقف حلب الماروني (1788 ـ 1850) ـ حققها ونشرها الخوري بولس قرآلي.
أمدّت هذه الكتابات المؤلفين المعاصرين المنحازين لصوت الشعوب والكتابة الديموقراطية للتاريخ، التي استوجبت الإصغاء لأصوات المضطهدين. وصدر في هذا السياق على سبيل المثال كتاب "حركة العامة الدمشقية في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر"، للمؤرخ السوري عبد الله حنا، وكتاب "الرواية السريانية للفتوحات العربية"، للكاتب السوري تيسير خلف، و"الفتوحات العربية في روايات المغلوبين"، للكاتب اللبناني حسام عيتاني، و"حلاق دمشق" للباحثة الأميركية من أصول فلسطينية دانة السجدي، التي بحثت وحللت يوميات البديري الحلاق التي كتبها في القرن الثامن عشر.



نقترب اليوم من هذه اليوميات بوصفها مستودع ذكريات. تجاورت فيها الولائم مع الجنازات، صيد السمك والطيور قرب القتل غير المبرر، الخلافات بين الكنائس مع التراتيل والقداديس، الجائحات المرضية الوبائية بجانب النزهات.
تمنحنا المدونات التاريخية فسحة للتأمل في الماضي، واستخلاص الدروس من تجاربه. علَّنا نتجاوز أسباب الظلم والإجحاف، والوصول إلى مجتمع الحرية والعدالة.

أمام البوابة.. الطريق الشاق للوصول إلى الدفاتر
عثر الأب اليسوعي، فردينان توتل، بمصادفة، على الدفتر الرابع من دفاتر الجمعية، في 3 أيلول/ سبتمبر من عام 1934، عند بائع العاديات "باسيل خوام"، الشهير شعبيًا باسم "باسيل حاحا"، الذي امتلك محلًا يطل على ساحة المطران جرمانوس فرحات. اشترى توتل الكتاب وحمله معه إلى لبنان، حيث قام هناك بتحقيقه في زمن وصل إلى ست سنوات. وعلم أثناء قراءة الأوراق أن والدته كانت من تلاميذ مكتب نعوم بخاش، ووجد اسمها مدونًا في دفتر اليومية. نشر توتل التحقيق في كتاب عام 1940، وطبعه في المطبعة الكاثوليكية في بيروت، ووضع له عنوان: "وثائق تاريخية عن حلب ـ أخبار السريان".




اعتمد الأب توتل على يوميات نعوم البخاش (1855 ـ 1865)، وأسندها بشروحات وتوضيحات من مخطوطات ووثائق أخرى من مراسلات القناصل الأوروبيين المقيمين في حلب، ومعلومات من الثقافة الشفهية، والتجربة الشخصية.
كتب في أوله مقدمة بالعربية، وفي آخره فهارس ومقدمة بالفرنسية لفائدة المستشرقين. تدخل في النصوص لناحية حذف التكرار، وإلغاء التاريخين الهجري والميلادي الشرقي، اللذين أصر نعوم البخاش على التأريخ بهما، إضافة إلى التقويم الميلادي الغربي.
عثر، بعدها، على ثلاثة دفاتر هي الثاني والثالث والخامس، ووجد، بمصادفة أخرى، الدفتر الأول عام 1969 في بيروت، عند السيدة الحلبية "أولغا دلال"، فاستعاره منها، ثم أعاده إليها، فالدفاتر الجديدة لم تحفزه على تحقيق شامل لليوميات، فاكتفى بما نشره. أودع بعدها جميع الدفاتر في المكتبة الشرقية العائدة لجامعة القديس يوسف في بيروت، ووهب بعد ذلك ابن السيدة أولغا دلال الدفتر الذي كان في حيازته إلى المكتبة ذاتها.
عكف بعد ذلك ابن حلب الآخر، الأب يوسف قوشقجي، على هذه الدفاتر تحقيقًا وشرحًا. وأصدرها تباعًا بجهود فردية محضة في أربعة كتب، شكلت بمجموعها 1718 صفحة. انتهى من تحقيق الجزء الرابع وقدمه إلى المطبعة، لكنه توفي عام 1995 قبل إصداره. طبع الجزء الرابع بلا فهارس، وأهمل في المطبعة، ومرت سنوات حتى صادف الأستاذ عبد الله حجار أكداس النسخ مركونة في إحدى زوايا المطبعة، تتآكلها الرطوبة. همّ باستكمال طباعتها وتقديمها للقراء، بعد أن كلف من وضع لها الفهارس، ووفر الدعم المناسب لتجليدها، وتسويقها.
استند على اليوميات عدد من المشتغلين والمهتمين بتاريخ المدينة. المطران نافيطوس إدلبي في مقالاته، والباحث خير الدين الأسدي في "موسوعة حلب المقارنة"، والأستاذة عائشة الدباغ في أطروحتها "الحركة الفكرية في حلب"، التي قدمتها لنيل الماجستير من الجامعة الأميركية في بيروت، الذي أرشدها إليها وأشرف عليها المؤرخ نقولا زيادة، والأب يوسف قوشقجي في كتابيه "الأدب الشعبي الحلبي"، و"الأمثال الشعبية في حلب وماردين".
تمسك المعلم نعوم البخاش بلغة المكان (حلب)، حلبية دارجة بطواعيتها ومرونتها التي استوعبت مئات الكلمات السريانية، التي لا تزال تحملها عدد من أسماء القرى والبلدات والأحياء والأفعال والأطعمة، فضلًا عن العبرية والفارسية والتركية، واللغات الأوروبية الإيطالية والفرنسية على وجه الخصوص. والزمان (القرن التاسع عشر). لم تغره الاستدارة إلى نثر العصر العباسي الموشح بالبلاغة والفصاحة والزخارف التزيينية. كأنه رغب في الاستعاضة عن اللغة القاموسية بالكلام اليومي.
انحازت كتابة يوميات المعلم البخاش إلى الاختصار، وأداء المعنى بأقل الكلمات، كأنما لا وقت لديه للبذخ اللغوي والعناية بالأسلوب، بخضوعه الطوعي لأداء وظيفة حددها لنفسه، يكرر بعض تفاصيلها في الأسبوع التالي، إذ كان يكتب دفتره في نهاية كل أسبوع.
كتب كما يتكلم هو وأهل مدينة حلب، لغة بسيطة عامية، كفيلة بقيادة المعنى من رسغه والعبور به إلى حيز الإدراك وملكاته. ظهرت عليه أحيانًا علامات الخجل، أو الخوف من المساءلة حين اقترابها من المحظورات، فاضطر إلى تدوين العديد من الكلمات بالمقلوب، أو بتعابير غامضة، لا يصعب فكها، والوصول إلى مقاصده منها، لتكرارها في اليوميات، واستدلال معناها في سياق النص، كالعبارات الدالة على "الاعتراف والمناولة": و"الصلاة والمناولة ـ صلوانم"، و"العادة السرية ـ جروخ"، وعلاقات عاطفية يرجح أن تكون جنسية "صار ما صار".

الدخول
نعمة الله البخاش خففها أهل حلب إلى نعوم ونعيم. ولد في حلب. والده إلياس البخاش، ووالدته من أسرة زحلان، لم يذكر اسمها في الدفاتر. لكنه يذكر أسماء خاليه "فتح الله زحلان"، و"نعوم كوريخ زحلان".
لا يعرف تاريخ مولده، لأن سجلات الكنيسة أحرقت في "أحداث" 1850. وتوفي في شهر شباط/ فبراير 1875.
واسم البخاش آت من مهنة ثقب اللؤلؤ، أو بخشه، وفق التفسير الذي اعتمده الأبوان توتل وقوشقجي. في حين أحاله المؤرخ عيسى إسكندر المعلوف إلى عشيرة سريانية مهاجرة من الهند، وهو تفسير أكثر منطقية من ثقب اللؤلؤ، الذي اقتصر تداوله في حلب على الاتجار به.
لم يتزوج، واقترح عليه خوري الرعية الزواج من الشابة (سوسة عزوز)، لكن الأمر لم يكتمل، رغم معرفته بأسرتها، وصداقته مع إخوتها. عاش مع والديه طوال أيام حياتهما. روى أخبارهما، وما أصابهما من أمراض، واهتمامه بهما. لم يكن له أخ ذكر، إذ كرر ذكر أربع أخوات: مدّول.. تصغير محلي لاسم مادلين المنحدر بدوره من اسم مريم المجدلية، تزوجت مرتين، وتوفيت في جائحة الهواء الأصفر بصيف 1837م، ومريم، وكتر.. تصغير كاترين، وكرزة، التي بقيت معهم في البيت للعناية بأبويها، رغم استمرار طلبها للزواج.




تعلم القراءة والكتابة عند الشماس إلياس هزاز. تكرر ذكره في اليوميات، بالمصادفات التي جمعتهما معًا في السوق والحمام، وانتقال التلاميذ بين مكتبيهما. ذكره لآخر مرة في 23 كانون الأول/ ديسمبر 1850 "يوم الإثنين مساء بالليل، توفي معلمي الشماس إلياس هزاز، بريح السكتة، الله يرحمه، وكتير انغميت لفقده".
ووفق ما يرد في الدفاتر، فهو يقرأ ويكتب العربية والتركية والسريانية، ويقرأ اليونانية. أنشأ في 9 تشرين الأول/ أكتوبر 1827 مكتبًا ليعلم القراءة والكتابة، ولم يوضح في يومياته عمله قبل ذلك. عاش على مقربة من بيت سكنه ومكتب عمله، وكان طلبة المكتب من الكبار والصغار، أمهات مع أولادهن، ذكور وإناث، أبناء أغنياء وأبناء حرفيين وفقراء، مسيحيون ومسلمون ويهود.
كتب على الدفتر في نهاية كل أسبوع، بشكل منتظم، باستثناء أيام الجائحات المرضية، وأيام مذبحة المسيحيين في 1850، وكان ينتخب من الطلبة المتقدمين ويوكلهم بتعليم الطلبة المبتدئين، إذ كان عدد التلاميذ يفوق قدرة المعلم الفرد، وقد صنفهم على أربعة مراحل، حدّد لكل مرحلة كتابها التعليمي. يبدأ المتقدم بابن سيراخ، وينتقل بعدها إلى رسائل بولس الرسول، ومنها إلى ديوان الشاعر ابن الفارض، ويختتم بمقامات الحريري.
لم تشر الدفاتر إلى دروس النحو والصرف، إذ اقتصر التعليم على القراءة والكتابة. والطريف أن بعض الأهالي كانوا يتفاوضون مع المعلم على الأجور، ويطلبون تعليم أولادهم الكتابة بلا قراءة، أو القراءة بلا كتابة، تخفيفًا للتكاليف المالية. وكان يقدم وجبة غداء في المكتب، باتفاق مسبق مع أهالي التلاميذ، الذين يسكنون في بيوت بعيدة.
لا تُعرف للمكتب عطلة سنوية، أو فصلية، التعليم مستمر في كل أيام السنة، باستثناء يوم الأحد، والأعياد المسيحية. ويمكن اعتبار الدفاتر سجلًا لأسماء العائلات المسيحية، بعد حرق السجلات في عام 1850، وربما هنالك عائلات لم يعد لها حضور في حلب، مثل حوا، وغضبان، وكلداني، وعجوري، وأرميا.
كان التلاميذ يجلسون على الحصائر التي يتفقد المعلم متانتها، ويجددها كلما شعر بتلفها، يكرر في اليوميات شراءه للحصائر الإدلبية، نسبة إلى مدينة إدلب، كما اهتم بالتدفئة، إذ كان حريصًا على مؤونة الحطب، وتجفيفه وتخزينه.. وطالما اصطحب تلاميذه للتنزه في البساتين القريبة، ويطلب أحيانًا من أهاليهم المشاركة في النزهات. حرص على نقل الأخبار بدقة، وحين يرى خطأ، أو كذبًا، في أي خبر، يقوم بتصحيحه في أول كتابة له، إما بنفيه، أو يكتب ما وصله من النبأ الصحيح. دوّن التعليمات، أو ما يسميه الفرمانات الكنسية، التي عادة ما يقدمها المطارنة، لضبط الحياة الاجتماعية للمسيحيين، كالالتزام باللباس المتواضع، وعدم إظهار الزينة، والكف عن الذهاب بانفراد إلى النهر، وعدم المبيت في البساتين، وضبط تكاليف الخطوبة والأعراس، وعدم الإسراف في الموائد.
أظهر المعلم مواهب خافية، مرة يقوم بتصليح الساعات الجدارية لأصدقائه، ومرة يعزف على الكمان في السهرات.. لا يمكن الوصول إلى هذه "المهارات" إلا بالتعلم والتدريب وتراكم الخبرة، وهي من الصفحات المجهولة في اليوميات.
تعبر اليوميات على كثير من تفاصيل الحياة اليومية لأهل الصليبة، والأزقة القريبة منها، المفاوضات بين العائلات التي تسبق الخطبة، والمشاكل الزوجية، بإحالة بعضها للعجز الجنسي، وحالات الانتحار، والأمراض العصبية والنفسية التي أنهكت أهل المرضى، وسعي الشبان الدائم للبحث عن فرص عمل، ومجازفاتهم بمغادرة المدينة للعمل في المدن القريبة: كلس، وعينتاب، وإسكندرون، والبعيدة: إسطنبول، وبغداد، والبصرة. لم يحفزه هذا لمغادرة حلب للبحث عن فرصة عمل وحياة أفضل. تنقل بين أمكنته الأثيرة، مكتبه التعليمي، والنهر، والبساتين المجاورة له، يودع ويستقبل أصدقاءه المسافرين بأحلام الثراء والرفاه، ليعيد من وقت لآخر عبارة "صار وتصوّر"، للدلالة على الانتقال من عالم اللا مرئيين إلى عالم الظهور، وانتزاع المكان تحت الضوء الاجتماعي.
عبر بعجالة على حيوات مجموعة بارزة من المثقفين والأدباء الحلبيين، الذين برزت أدوارهم المتفاوتة في فضاء الثقافة العربية، أنطون صقال، ورزق الله حسون، وجبرائيل الدلال، وفرنسيس المراش، وعبد الله المراش، لكن لم تستوقفه حياة ومصير أي منهم، رغم أن بعضهم كان من تلامذة مكتبه، جمعته بهم وبآبائهم علاقات صداقة.
استوقفته حياة الأثرياء، ولقاءاته الدائمة بفتح الله غنطوس كبه، التاجر الكبير والوجيه الماروني الذي امتلكت أسرته سفينة نقل بضائع بين موانئ البحر المتوسط يقودها قبطان إيطالي، ومقر إقامة دائمة في مدينة ليفورنو يستقر فيه أحد إخوته. وعبد الله الدلال، ترجمان القنصل الإنكليزي، والتاجر الواسع الثراء، وآل الحكيم الصناعيين البارزين الذين حصلت منسوجاتهم على جوائز في معارض دولية (الذين تعلموا في مكتبه).. وتوسعت لتشمل علاقاته بالقناصل الذين طلبوا منه تعليم أبنائهم، ومنهم قنصل المملكة الإسبانية، "ألفونس دوريكلو".
سعى نعمة الله البخاش إلى الانتقال الطبقي، لكنه عجز في الوصول إليه، ربما لأنه لم يصل إلى "سره"، أو قوانينه، وتوهم أن مجرّد سهره مع الأثرياء، ومشاركتهم أحاديثهم وموائدهم ونزهاتهم، كفيل بفتح الباب للدخول إلى عالمهم، إذ لم يكن موقعه بينهم أكثر من موقع الضيف، بما تحمله كلمة ضيف من معنى الوجود المؤقت.




وحسِبَ أن ادّخار الأموال سيوصله إلى الغنى، وفق قناعة "المال بجرّ مال"، وحفزه زمن الاستقرار الأمني والمالي إلى استثمار أمواله التي ادخرها. اختبر حظوظه بسلسلة من الصفقات التجارية، ربح القليل من الكثير الذي توقعه، إذ تبدّدت أرباحه المأمولة، بين عمولات من كان يكلفهم شراء البضائع من فرنسا، وعمولات أصحاب المتاجر في الخانات. أراد الربح من دون مخاطرة بالسفر، وبلا امتلاك مخزن لبيع مشترياته، وظلت علاقته بها خارجية، كما هي علاقته بكبار التجار الذين جاورهم في السكن. كما جازف بالإقراض بالفائدة، فحقق منها بعض الأرباح، وخسر بالاحتيال. لتظهر التجربة بعد فوات الأوان انسداد الطريق التي اختارها للثراء. عزز عنده هذا التماهي مع البورجوازية التجارية ومصالحها إلى تبني مصالحها والدفاع عنها، لهذا لم يتأخر في إظهار سخريته من إضراب عمال القيساريات لتدني أجورهم التي أكلها التضخم النقدي، ووسمهم بـ"العواطلية"، أي الذين لا يريدون العمل.
اشتهر بخطه الجميل، فكتب بناء على طلب رجال الكنيسة الرسائل إلى أصحاب السلطة المدنية، وكتب رسائل تجارية عرفت منها رسائل تجارية بخط يده لإلياس بليط، وكتب مراسلات عائلية لفتح الله كبه مع شقيقه المقيم في ليفورنو..
نقش الحجر بأعلى أبواب الكنائس وتحت الأيقونات، وعلى حجر شواهد القبور. "والخميس أرسل خلفي مطران الروم كيرللوس لكي أكتب حجر للكنيسة: الله في وسطها فلا تتزعزع. وكتبتها الجمعة والسبت خلصت"، وكتاباته كثيرة في بيوت حي الصليبة، حينما طلب منه أعيان تزيين جدران بيوتهم بالأشعار والحكم وآيات الإنجيل "ونهارها بعت خلفي" نعوم غزالة "لكتابة رفراف الليوان. رحت مساء وبديته من الفارض: أشاهد معنى... إلخ".
أشاهدُ معنى حُسنكُم فيلذ لي
خُضوعي لديكم في الهوى وتذللي.
كما كتب على الثياب والمناديل، تحضيرًا للتطريز فوقها بخيوط الذهب والفضة والحرير، وكتب الفاتحة على حبة أرز، وكان يزوره أهالي المدينة لمشاهدتها، ولم يقبل ببيعها، رغم الإغراءات المالية التي قدمت له.
وحين اعتكف في بيته أثناء جائحة الهواء الأصفر بصيف 1848م، كتب مقامات الحريري "والخميس سكرت، وتخبيت، والخميس راحت عمتي وبقيت وحدي. بعت جبت ورق عبادي (ورق أبيض باسم صانعه في إيطاليا، أو من أصل هندي) وبديت مقامات الحريري".
وكثيرًا ما كان يسمع الصلوات والتراتيل الآتية من الكنسية الأرمنية التي تلاصق بيته.
لا تخفى على من يتابع دفاتره الأربعة اندفاعاته الأبيقورية. تولع بالملذات الفموية، من الطعام والشراب والتدخين، إذ كان يأتي بالعرقتنجي وكركته لتقطير العنب الذي كان قد أوصى عليه من عينتاب، وفرّام التتن ليفرم طرائح التبغ التي أوصى عليها من كلس وعينتاب، وحرصه على مؤونة الجبنة والبسطرمة، والفريكة (الفريكة سنابل القمح قبل اكتمال نضوجها، تشوى وتدخن، ثم تجرش وتطبخ مع اللحم). ويُعد، باجتهاد فذ، عيد سيدة الفريك 15 أيار/ مايو سيدة الزروع، حامية حلب. إضافة إلى ذلك، كان يداوم على حضور السهرات والأمسيات التي تحييها الجوقات الموسيقية.



كان حريصًا على أناقته الشخصية، حيث حلاقته الدائمة عند حلاقه الخاص، ونظافته البدنية بذهابه الأسبوعي إلى الحمام، واستبدال الثياب القديمة بأخرى جديدة كان يختار أقمشتها بعناية، قبل أن يحملها إلى الخياط، من دون أن ينسى ما يلائمها من الشالات والسبحات والأحذية والقباقيب.
البخاش كان شديد الاهتمام بصحته، وصحة أبويه وأخته، لا يتأخر عند ظهور أي عارض مرضي لأي منهم في استدعاء الحكيم أنطوان الجد إلى بيته، ويلتزم بتنفيذ تعليماته وتناول ما يقدمه الحكيم من أدوية. كان رجلًا متدينًا ملتزمًا بأوقات الصلاة والصوم والاعتراف والمناولة، والأعياد، وذكرى القديسين، ومؤمن بشفاعتهم وشفاعاتهن، "آخر هذه الجمعة انفتح صوتي، وكنت طلبت من القديسة فيلومينا أن تفتح صوتي، ونهارها عجيبة فعلت معي وانفتح.. يكون معلوم"، وكان يجهل أن الفاتيكان قد شطب اسم القديسة من لائحة القديسين المكرسين، بعد أن تبين له أن اسمها هو قراءة خاطئة لنقوش على حجر أحد القبور.
عمل في دأب وصبر على إعادة إنتاج جمالية مكان العيش، باهتمامه المتواصل بحديقة منزله، الذي هو مكان مكتبه، حيث أشجار التفاح، والأكي دنيا، والليمون، ودالية العنب، والياسمين، والعسلية.. وزهوره، وطيوره، وكان على موعد متكرر مع الحاج طه وأبنائه لتقليم الدالية والشجر، وتهيئة السواميك لرفع أغصانها وتثبيتهم.
لم يكلفه أحد الكتابة، ولم يسع لنشر ما كتب، كما لم يوص لما بعد مماته أحدًا بتداول دفاتره ونشرها. كتبها ليتذكر طلابه ودوامهم في مكتبه، ويحسب التعويض النقدي لتعبه معهم. انتقل معها لسرد تفاصيل حياته اليومية، في بقعة من مدينة حلب- "حي الصليبة"، حيث قطن القسم الأكبر من "أغنياء" المسيحيين، وثنايا حياته الموزعة على مجرى نهر قويق بين البساتين التي تحف المدينة من شمالها إلى جنوبها، وزيارات أصدقائه وأمسياته وسهراته. يمكن النظر إلى الدفاتر كتأريخ لبساتين مدينة حلب، حيث يرد فيها أسماء أكثر من خمسين بستانًا (الجالق ـ التاقي ـ الريحاوي ـ الشهبندر ـ القبار..).




شاءت الظروف التاريخية أن ينتقل هذا التدوين البسيط، من حاجات الأعمال اليومية، إلى أرض الوثيقة التاريخية. بما وفرته من إمكانية للاطلاع على حياة أهل مدينة حلب، خلال القرن التاسع عشر، بظروفهم السياسية والاقتصادية، وأنماط حياتهم وسلوكهم، عبر خمسة دفاتر وصلتنا عنه في الأعوام (1835 ـ 1875) سرد فيها أخباره الشخصية والعائلية، وأخبار أقربائه (أقام أحد أعمامه في حي الجلوم، وعمل في التجارة، وحقق مكانة مالية عالية)، وأصدقائه، وتلاميذ مكتبه، وما جري في المدينة من وقائع: أحوال الناس، وأفراحهم، وأحزانهم، وطعامهم وشرابهم، ولباسهم وأنماط تسلياتهم، وأمراضهم وطرائق معالجتها، والنوائب الطبيعية، وجوائح الجراد، والأمراض السارية، ومنعكسات الوقائع التاريخية عليهم.
في اللحظة التي قرر فيها المعلم نعوم البخاش الانتقال من تدوين أسماء طلابه وطالباته وأيام دوامهم، والأطعمة التي يحملونها إليه في الأعياد، والخلع التي يمنحونه إياها بعد إتمام تعلمهم ومغادرتهم المكتب، إلى التعليق على الحياة اليومية والأحداث التاريخية، وضع قلمه بوعي ذاتي، أم بغيره في التأريخ، التأريخ من موقع الإنسان العادي، المسيحي، المرمي في الهامش، والمقيد بقوانين أهل الذمة، وتجاوزات الباشاوات العثمانيين، وتعديات فلول الإنكشارية. لكن لا يمكن اعتباره مؤرخًا مسيحيًا، لأن للكنيسة مؤرخيها، لكنه بوعي منه، أو بغيابه، نقل الحياة الاجتماعية لقطاع من المسيحيين إلى الحيز العام.
استنزف حياته وهو يعمل ويجمع النقود، لتسديد أجرة البيت، التي يرفعها المطران باستمرار، ودفع الجزية، والفردة، والضرائب الإضافية التي تشبه "الخاوة" التي يفرضها الباشاوات على الأهالي، كلما نفد المال من صناديق ولاية حلب.
لا يميل إلى تفسير التاريخ عبر ربط الوقائع ببعضها، والاستدلال إلى القوانين التي تنظم حركتها، كأنما سلّم بالحركية التاريخية كقدر لا طاقة له على مواجهته وتغيير مساراته، وهو الفرد الأعزل العاجز عن مواجهة قوى اجتماعية تبصر أهدافها، وترسم لتحقيق غاياتها بامتلاك القوة.
ربما لهذا لم يقم بأي استعادة لثورة (1819 ـ 1820)، التي عاصرها، كما لم يتوقف أمام آثار زلزال 1822، الذي أعقبها، رغم كونهما حادثتين غيرتا مصير أسرته، التي اضطرت إلى مغادرة بيتها العائلي، إلى بيت مؤجر في زقاق الأربعين، قبل انتقالها إلى السكن في حي الصليبة. كما لم يتوقف على ما وقع لأحد أعمامه، "جرجس البخاش"، الذي قطع رأسه عام 1818 مع أحد عشر مسيحيًا في هضبة الشيخ أبو بكر، حين ذهبوا ليحتجوا على هيمنة الكنيسة اليونانية على مقدرات الكنيسة المحلية، ما عرف باسم مذبحة الروم الكاثوليك، حين قام الوالي خورشيد باشا بقطع رؤوس المحتجين، وترك جثثهم مرمية في العراء، منتظرًا تقدم ذويهم بالتماسات لحملها ودفنها وفق التقاليد المسيحية.
نعود مرة أخرى إلى فكرة الإغفال في التدوين التاريخي، وكأن حقائق التاريخ أسيرة "الصفحات الضائعة"، و"الصفحات المنسية"، فضلًا عن الصفحات التي جرى إتلافها لإخفاء الحقائق.
لم ينج منها المعلم نعوم، ولا محققا دفاتره، اللذان التزما الصمت ليشيرا إلى أمانتهما التاريخية للوثيقة التي بين أياديهما، واكتفيا بنمط من التحقيق البسيط، الذي يهيئ الدفاتر قبل تقديمها للمطابع، بتوضيح بعض المفردات العامية، وتحديد مواقع البساتين والأماكن التي مر عليها الراوي وأصدقاؤه، ومعظمها لم يعد موجودًا منذ زمان بعيد. من هذا يمكن النظر إلى اليوميات كشاهد على التحولات العمرانية التي وقعت في مدينة حلب خلال القرن العشرين، كزوال حي "الكتّاب"، الذي كان حيًا للأجانب وبعض أثرياء المسيحيين، الذين اختاروا السكن فيه بعد زلزال 1822.

نعوم البخاش في صورة تخيلية بريشة الفنان التشكيلي أصلان معمو


البداية الحقيقة لافتتاح مكتب تعليم الأولاد كان في 9 تشرين الأول/ أكتوبر 1827، والدفاتر التي توثق ذلك ضائعة. ما يؤكد وجودها إشاراته الدائمة في بداية كل عام دراسي إلى عدد سنوات عمله التعليمي بعدما استقل بمكتب خاص. ضاعت بذلك ثماني سنوات من الكتابة، ولم تصل إلينا.




الأمر الهام الثاني هو أن المعلم نعوم لم يكن من سكان حي الصليبة، وإنما من النازحين إليه من "زقاق الطويل" (يقع الحي بين أقيول وقسطل الحرامي)، حيث بيت أسرته. هناك أمضى طفولته وفتوته، الحي الذي تعرض لتدمير جزئي بعد ثورة حلب على الوالي العثماني خورشيد باشا (1819 ـ 1820)، حيث كان الحي أحد نقاط المواجهة بين الثوار المسلحين المنتشرين في أزقته، والجيش العثماني المرابط في أعالي هضبة ثكنة الشيخ يبرق، التي تعرض الحي لقصف مدفعي منها، وهي هضبة تقع إلى الشرق من حي أقيول.
لم تتوقف زيارات أبيه لتفقد بيتهم وعزمه على ترميمه للعودة إليه والسكن فيه. تكررت هذه المحاولات مرات ومرات، إلا أنها فشلت، من دون أن تتوضح أسباب الفشل. لم يظهر المعلم في يومياته أي أثر لعاطفة، أو حنين للبيت الأول، لكنه يأتي أحيانًا على ذكر "حارة العنكبوت"، وهي زقاق مغلق يقع في محلة العريان، وفيه كنيسة للسريان.
أضمر صمته عن ذلك رغبته البقاء في حي الصليبة، الذي عكس تطلعاته لمجاورة الأغنياء، ومحاكاة طرائقهم في الحياة.
جرت أثناء تدوين الدفاتر واقعتان نوعيتان، الأولى حملة إبراهيم باشا على بلاد الشام (1831 ـ 1839)، التي هزت السكونية التاريخية التي حافظ عليها الحكم العثماني بثبات استثنائي، ثانيهما المذبحة والنهب الذي تعرض له المسيحيون عام 1850، وترافقت مع حرق كنائسهم وبيوتهم ومحلاتهم، التي آذنت بنهاية مدوية لما تبقى من شكليات نظام "أهل الذمة"، واختبرت التحديثات القانونية العثمانية الشهيرة بخط همايوني والكلخانة، لتبين أنها ليست أكثر من حبر على ورق.
اختفت في ظلال اليوميات ثلاث عمليات تاريخية عميقة لم يلتفت إليها المعلم المنغمس في يومياته وتفاصيلها.
- أولها تسارع اندماج السلطنة العثمانية في الاقتصاد الرأسمالي الأوروبي، وتوسع الرأسمالية التجارية الأوروبية، مترافقة مع نزعة عسكرية عدوانية، ومنح القناصل الامتيازات القانونية والتجارية، التي هيأت لهم الفرص للتدخل في الحياة العامة، والتأثير على قرارات الولاة.
والضعف المالي للسلطنة الذي دفعها إلى الاستدانة من المصارف الأوروبية، الذي تزايد بعد تراجع خطوط التجارة البرية بافتتاح قناة السويس، 1869، وسيطرة سفن الملاحة البخارية.
- ثانيها التوترات، أو الاضطرابات الناتجة عن حركات التحرر والاستقلال في اليونان والبلقان، واحتلال الجيش الفرنسي للجزائر، ثم تونس.. وهي المرحلة التي ستختتم بانحسار نفوذ السلطنة العثمانية عن أفريقيا وأوروبا. حاولت البيروقراطية العثمانية تداركها بالالتفات إلى الإصلاحات الداخلية، التي تتوالى بأسماء متعددة كخط شريف، وإصلاحات قصر الكلخانة، والحركة الدستورية، ووجهت جميعها بمقاومة متحد القوى المحافظة الموزعة بين بيروقراطية إدارية ـ عسكرية ورجال الدين الإسلامي.
- عجزها عن حماية طرق التجارة البرية والبلدات والقرى الزراعية. شهد القرن هجرة واسعة للفلاحين إلى المدن، الذي شكل ملمحًا للمقاومة السلبية للفلاحين، بعد تراجع القوة الحمائية للدولة التي تدفع من خزينتها "خاوة" للقبائل البدوية المسلحة، مقابل حماية القوافل المتجهة نحو بغداد والبصرة، ومثلها إلى القبائل التي على طريق محمل الحج الدمشقي.
- ثالثها الهزائم العسكرية المتكررة، بدءًا من الهزيمة المدوية أمام الجيش القيصري، التي لم ينقذها منها إلا التدخل العسكري الإنكليزي ـ الفرنسي ـ البروسي النمساوي، واحتلال نابليون لمصر، وظهور الحركات التمردية على المركز العثماني، كالحركة الوهابية في شبه الجزيرة العربية، وبروز الاتجاه الاستقلالي عند محمد علي للاستقلال بحكم مصر والسودان. وبروز العائلات القوية في أطراف السلطنة، التي باتت تبحث عن استقلال نسبي عن السلطة المركزية.

فترة حكم إبراهيم باشا
دخلت قوات إبراهيم باشا حلب في 17 تموز/ يوليو 1832، وأقام فيها لأيام، ليستريح فيها جنوده. قرر في 19 آب/ أغسطس إنشاء المشفى العسكري، وطلب له الأدوات اللازمة من مصر، ووصل من مصر الدكتور الجراح، كلوت أنطوان بارتلمي، الذي عرف في التاريخ الطبي باسم كلوت بك، الذي أسس في القاهرة مشفى أبو زعبل، ومشفى القصر العيني، ومدرسة الطب، واستقدم إليهم الأطباء من فرنسا. عاين فور وصوله المدينة ومحيطها، واختار هضبة في شرق حلب لإنشاء المشفى، في المنطقة المطلة على العرقوب من جهة الشرق، وبساتين كرم الكسمه من جهة الغرب، وأدخل نظام الحجر الأربعيني "الكرنتينا"، وهو نظام يؤدي وظيفة الحماية الصحية من انتشار الأوبئة، وكان أول من أدخله نابليون بونابرت أثناء حملته العسكرية على مصر.
رفع إبراهيم باشا بعض المظالم عن المسيحيين، واختار مستشارًا لماليته، "حنا بحري" الحمصي الأصل، وابنه جرمانوس بحري، لإدارة مالية حلب. سكن في منزل في حي الشرعسوس، وهو حي لسكن الأغنياء المسيحيين، وكان يسمى الصليبة الصغرى، وهو بالمناسبة الحي الذي ولد فيه أحد محققيّ اليوميات، الأب يوسف قوشقجي.
ساهمت قرارات إبراهيم باشا في رفع المظالم بانخراط الشبان المسيحيين المتعلمين في الوظائف الحكومية.. وتحرير نظام الضرائب من وساطة المتسلمين الذين حازوا على موقع امتيازي بوصفهم وسيطا جبائيا مسلحا، بين عموم الجماعات المنتجة والدولة، إذ نظر إلى أن الدولة هي جابية الضرائب بشكل مباشر عبر موظفيها وإداراتها. وفرض التجنيد الإلزامي.. الذي استدعى مداهمات البيوت من دون مراعاة التقاليد الاجتماعية لاعتقال الشبان وإلحاقهم بمعسكرات التدريب، فضلًا عن أعمال السخرة لتشييد المنشآت الكبيرة التي قررها، كالمشفى والثكنة الضخمة التي شيدها على هضبة الشيخ يبرق، التي دفعت جنوده إلى اعتقال الحرفيين وتقييدهم وسوقهم إلى العمل.
"يوم السبت مساء، صار تمسيك لأجل فعالة ونجارين من النصاره، ونزلوا الصليبة وكمشوا ليلتها مقدار 332 من النصاره، ونخبوا منها من 50 إلى 57ـ ويكتفوهم بمناديلهم ولفاتهم حزم...."، أو في حملات جمع الجراد من الأرياف المحيطة بحلب، وهي حملة دائمة أثناء الاحتلال العثماني، إلا أنها كانت أشد صرامة في فترة حكم إبراهيم باشا، حيث الحكم منضبط بمعايير النزاهة النسبية، لهذا الجميع دعوا لجمع الجراد، ولم يقبل الاستثناء لأحد، فنجد في الحقول البطريرك بطرس جروه، ومطران الروم شاهيات، إلى جانب الخواجه فتح الله كبه، والخواجه عبدالله الدلال، والخواجة نعوم حمصي، وإلياس ضاهر، وشكر الله خوري، قبل أن يتدخل القنصل الفرنسي ويطلب من إسماعيل باشا، ابن اخت إبراهيم باشا الذي يحكم حلب نيابة عن خاله، إعفاءهم مقابل مبلغ نقدي، يكون بمثابة أجرة عمال يقومون بالمهمة بدلًا عنهم "أنا ووالدي نمنا مرتين في المقطع ومرة في جبرين"، أو إلزام إبراهيم باشا أثرياء المسيحيين الزراعة في الأرياف، لأجل تنميتها. فيذهب عبد الله الدلال للزراعة في السفيرة، ويذهب آخرون إلى مناطق أخرى.




بسبب الإساءات التي تعرض لها المسيحيون بعد انسحاب قوات إبراهيم باشا من حلب والتهديدات التي تعرضوا لها، عزم العديد منهم على الهجرة إلى مصر... حتى تدخل الوالي العثماني الذي حل محل إبراهيم باشا، واجتمع بأعيان المسلمين، ليبلغهم بضرورة التوقف عن الإساءة إلى المسيحيين الذين يحظون بحماية السلطان واحترامه.

إنشاء حي العزيزية
يبدأ حي العزيزية من أرض المشنقة "المركز الثقافي العربي" إلى جبل النهر، منطقة قفراء، لا يجرؤ أحد على المرور فيها بعد غروب الشمس، خوفًا من اللصوص وقطاع الطرق. في عام 1868، فتحت الحكومة مكتبًا لتعليم الناشئة بعض الصنائع اليدوية، كالخياطة والحياكة، أطلقت عليه اسم "إصلاح خانة"، أرادت أن توفر له ميزانية مالية تقوم بتكاليف إنشائه ولوازمه، فأعلنت أنها ترغب في بيع الجبل المطل على النهر "جبل النهر"، وهو من "الأراضي الأميرية الموات"، بتعبير اليوم "من الأملاك العامة"، فأقبل على شرائه جماعة من التجار المسيحيين، واقتسموه في ما بينهم.. يكتب نعوم البخاش في يومياته "اشتروا جبل النهر بـ47 ألف غرش، لعمار حواش تاجر وأسود وأرسان، وغيرهم".
استدعاه بعد بضعة أشهر جرجي ثابت، وطلب منه كتابة على حجر، ليضعه في مدخل عمارته، ويذهب إلى مقالع بعيدين، ويكتب على حجر "ما شالله"، ويتبعه طلب من فتح الله بليط لكتابة أخرى، فيذهب مرة أخرى إلى مقالع بعيدين، ويكتب "الحافظ الله"، وتوالت معها بيوت أنطون تاجر، وباسيل ضاهر، وآل الحمصي، ومكربنة، وجنبرت، وكورنلي، والخوري، والشعراوي، والخياط، والأخرس، وشلحت، وأسود، وعبه جي، وغزالة. جرى بعدها تشييد مخفر العزيزية بأموال الأثرياء المسيحيين، ومن ثم تأثيثه وفرشه من تبرع زوجة جورجي خياط... حقق حضور المخفر الأمان لتوسع السكن، وأنشئت عام 1886 كنيسة الكلدان في المكان المعروف اليوم بعبارة الكلدان.
يمكننا تحديد بعض البيوت "بيت شكر الله الخوري ـ مدرسة الزنابق، في خلفه بيت سالم الذي ألحق في سبعينيات القرن الماضي بمدرسة الزنابق"، بيت ثابت، أو تابت "مدرسة القديسة كاترين، إعدادية القدس" ـ "بيت أرسان"، "مبنى جمعية التعليم المسيحي، أو ربما ندوة المرأة الحلبية"، أحد بيوت حمصي "المشفى الإيطالي"، أحد بيوت غزالة "نادي حلب"، بيت الدلال، أو أحد بيوت الدلال هو في موقع جمعية مار منصور.
ما تظهره اليوميات أن المقاعد حديثة في كنائس البلاد العربية على الأقل، بدأت في النصف الثاني من القرن التاسع عشر. غير المقاعد الموضوعة على طرف القوس المحيط بالإيقونوستاز المخصصة لجلوس قراء الأناجيل والمرتلين. كان الناس يصلون وقوفًا، أو سجودًا، وحين يتعبون يجلسون على الأرض، أدخلت المقاعد الخشبية بعد ترميم الكنائس وتجديدها إثر حرقها 1850.

مسرحية "بريجيت"
تعد مسرحية "بريجيت" ليوسف نعمة الله جدّ (1843 ـ 1903) أول عرض مسرحي متكامل في مدينة حلب، حضرها والي حلب، عثمان باشا، ومجموعة من أعيان المدينة، وقدمت على مسرح المدرسة المارونية في حلب عام 1872. وتبارى شعراء المدينة في تقريظها بقصائد عديدة. وبلغ استحسان الحضور للمسرحية، وزيادة الإقبال على حضورها، إلى إعادة تمثيلها "والإثنين 3 شباط/ فبراير 1872، سكرت المكتب ورحت للكوميديا عند الموارنة رواية ’بريجيت’".
كما ذكر أماسي المطرب "باسيل حجار"، أو الحلوى التي يعرفها الناس إلى اليوم باسم "عرموش"، من غير أن يعلموا أن اسمها آت من اسم صانعها الحلواني "ميشيل عرموش"، الذي عمل مساعدًا للطباخين الفرنسيين الآتين مع حملة إبراهيم باشا، وتعلم منهم صناعة بعض الحلويات الغربية.
كما يروي في اندهاش وصول قافلة لآل سرسق، العائلة اللبنانية الثرية، التي تسببت بضائعها في إغلاق أزقة وشوارع الصليبة. والنزهات في البساتين، حيث امتلك بعض الأثرياء بيوتًا لهم يقضون فيها شهرًا في الصيف. ويذكر المثل الشعبي "عنصر واطلاع وصلّب وانزل"، نسبة لعيد العنصرة الربيعي، وعيد الصليب، الواقع في أواخر الصيف وبداية الخريف. وأنتجت حياة الهواء الطلق ثقافة الهواء الطلق، التي أساسها التخلي النسبي عن الخصوصية، التي أنتجتها عزلة البيوت المغلقة والأسوار العالية، أن تَرى وتُرى، إظهار الملابس الأنيقة الباذخة، الأطعمة الشهية، التخفف من انضباط العادات والتقاليد. وتظهر كذلك هشاشة الجماعة غير المحمية بالقوانين، المهددة بالاعتداء، والتحجيم. شهدت نزهات البساتين العديد من حالات خطف نساء، والسرقات التي لم ينجُ منها كبار الأثرياء، والتعدي الكلامي، والطرد من المكان.



لم تسجل اليوميات أي علاقة للمعلم نعوم البخاش بالمقاهي، رغم وجود مقهيين، في الحي الذي سكنه، مقهى السيسي المطل على ساحة الحطب، ومقهى أبشير باشا المقابل لحمام بهرام.. ربما لأنه حمل النظرة الإزدرائية للمقاهي، حيث يجتمع الأصاغر من حرفيين وعمال ومسافرين وأناس مجهولين، آثر عليها اللقاء مع ناس بهويات معروفة.




احترف الرجل الحياة البسيطة، متصالحًا مع ذات لا طموح لها، وارتضى العيش في الهامش الآمن، الهامش الذي لا هامش بعده إلا العدم. طمح إلى أن يكون من الأثرياء، من دون امتلاك زمام نشاطهم ومثابرتهم ومبادراتهم وجرأتهم، ومجازفاتهم...امتلك بيتًا من مدخراته في محلة زقاق الأربعين، لكنه لم يسكنه، وسرقت معظم مدخراته عام 1850. سعى في أواخر حياته لامتلاك بيت في الصليبة، ليكون بجوار الأثرياء الذي توهم أنه أمسى منهم، في الوقت الذي بدأ هؤلاء يغادرون إلى بيوتهم الفخمة المشيدة حديثًا في حي العزيزية، ويرسلون أبناءهم إلى أعمال تجارية بعدما أسسوا لهم الوكالات، وشيدوا لهم قصورًا في مرسيليا، والإسكندرية، ومانشيستر.
علينا ألا نتغافل عن موقفه المتخاذل حين هرب في عام 1850، واحتمى في بيت صديقه المسلم، تاركًا خلفه أبويه العجوزين وأخته، من دون أن يسأل عن مصيرهم. والمؤلم أنهم هم من بحث عنه، وتركوا له الأخبار والإشارات المطمئنة ليعود إليهم. وهو ما أغفل سرده في اليوميات، ليعود بعدها إلى متابعة التعويضات الشكلية عن البيوت المنهوبة، حيث ستذهب أمه دوريًا للقاء اللجان، واستلام بعض الفرش واللحف، في حين سيمتنع هو عن الذهاب، وسيكتفي بمتابعتها كشاهد صامت، اختار الورق لتدوين احتجاجاته.
مر الزمن، وقرع أصدقاؤه باب بيته مصطحبين أبناءهم لتسجيلهم كتلاميذ في مكتبه، وهو في مكانه عازب بلا زوجة وأبناء.
صارع مصيره الوجودي بمكتب بات يغادره تلاميذه إلى المدارس الحديثة التي افتتحتها الكنائس، لتقدم للتلاميذ ما يزيد عن القراءة والكتابة والحساب واللغات الأوروبية والفنون التطبيقية والموسيقى، وبأجور زهيدة، وربما بالمجان..
مر الزمن، حيث لم يبق في مكتبه سوى بضعة تلاميذ (وصل العدد لسنوات عديدة إلى أكثر من ثمانين تلميذًا)، ما اضطره إلى قبول ما رفضه طيلة حياته المهنية، التعليم في المدارس التابعة للكنيسة، بالإضافة لتعليم مكتبه، ليتمكن من إعالة بيته، الذي ضاعف المطران إيجاره السنوي. شعر كل يوم بحصار يطوقه، الحصار الذي عجز عن التحرر منه في سنوات شبابه، وهزمه في سنوات شيخوخته. وجد أخيرًا من يشتري بيت العائلة في "زقاق الطويل"، وكان المبلغ الذي دفعه المشتري أقل من الأجرة السنوية لبيته في الصليبة.
لم يكتب للسلطة، وصمم بإرادة سلبية العيش بعيدًا عنها، كما لم يقترب منها رغم إقدام العديد من أصدقائه للعمل معها في فترة حكم إبراهيم باشا، وكانت وراء ارتفاع مكانتهم المالية. كتب عام 1836 الفاتحة على حبة أرز، ولم يقبل بيعها لأحد، واحتفظ بها لنفسه، وكان يريها لأصدقائه المسيحيين والمسلمين.، لم يكتب لغاية الحصول على ثناء أغنياء المسيحيين، رغم علاقته المتينة مع أغلبهم، فحافظ على مسافة الكبرياء التي تحول من دون التملق وخفة القول. وكثيرًا ما شهدت علاقاته بهم انقطاعات ومعاتبات لمواقف وسلوكات لم ترضه، ولم يقبل بها، هذا ما وقع له مع عائلة "كبة" الثرية التي انقطع عن زيارتها لما يقارب العام، رغم المودة التي حملها كلا الطرفين لبعضهما... عائلة "فتح الله كبه"، وأخوه نعمة الله كبة، المقيم في ليفورنو في إيطاليا، وقريبهم روفائيل كوبا، الذي وصل إلى موقع رئيس أساقفة مدينة ليفورنو في إيطاليا بين (1833 ـ 1840)، العائلة التي تحول اسمها بعد ذلك إلى "كوبا".
لم يمتلك جرأة "رزق الله حسون"، الذي أرسله والده إلى دير بزمار للدراسة اللاهوتية، فتسلق الأسوار وهرب قائلًا "لم يبق شيء هنا لأتعلمه"، ويعكف على إطلاق جريدته "مرآة الأحوال"، ولا مخاطرة "جبرائيل الدلال" الذي كان من تلامذة مكتبه، ليدير صحيفة "الصدى" في باريس، التي عبرت عن رأي حكومة نابليون الثالث، وانتقل بعدها إلى إدارة صحيفة "السلام" في القسطنطينية، وانتقل إلى فيينا بناء على طلب المدرسة الملكية لتدريس اللغة العربية، وعاد أخيرًا إلى حلب ليدرس في المكتب الإعدادي، ليقع في أحبولة أحد الوشاة، الذي ذكّر الباشا العثماني بقصيدة "العرش والهيكل"، التي كان قد كتبها منذ سنوات بعيدة، والتي كانت كفيلة باعتقاله ورميه في السجن والموت، ولا نقدية وخيال "فرنسيس المراش" ليواجه بكتاباته الجسورة الثقافة السائدة ومن وراءها.
التزم نعمة الله البخاش بحدود رسمها لنفسه بعناية، فلم ينشغل بتغيير العالم نحو الأفضل، بعدما أظهر عجزه عن تغيير حياته الساكنة. اقترب من كل العوالم المحيطة به، من دون أن ينغمس فيها، أو يقع تحت إغراء اكتشاف أعماقها. وكأنه اكتسب هذه السطحية من ذهابه اليومي إلى نهر قويق الذي لا عمق له، وقضى عمره بين بساتينه في أقصى الشمال على حدود جسر الزيت وجسر القري والجنوبية التي أوصلته إلى الوضيحي.
لا نسمع أصوات الآخرين في اليوميات، حيث كرس بسرده سلطته المفردة، ودخل التاريخ ليحتل موقع الشاهد والقاضي والمتفرج.
مات وحيدًا، إذ سبقه أبواه، وأخواته، ولم يبق إلا أخته كرزة. عانى في الأشهر الأخيرة من تشنج في جسمه، وكان يبصق دمًا... "كتبت ومصنج". يبدو أنه عانى من نزيف داخلي، لم نستطع الوصول إلى أسبابه.
تمنى جنازة فخمة، من تلك الجنازات التي كان يراقبها مع أهله وجيرانه من أعالي سطح بيته، ويطلقون على موتاها "والله صارلتو جنازة فرجة".. مات في يوم شتائي بارد... ودفن في مقبرة السريان التي تحولت أرضها إلى كاتدرائية "سيدة الانتقال". وحين طلبت البلدية نقل المقابر إلى خارج المدينة، سعى المقتدرون لنقل رفات ذويهم إلى المقبرة الجديدة في جبل السيدة.
لم يجد القائمون على تنفيذ تعليمات البلدية له أهلًا ليهتموا بنقل رفاته ورفات عائلته، فجمعت بعد انتظار عظام الموتى، ودفنت في حفرة واحدة، ولم يبق أثر من نعمة الله البخاش سوى دفاتر الجمعية، نقرأها لنترحم عليه، ونتأمل بهدوء وبصيرة صفحات من تاريخ المنسيين.

حلب في نيسان/أبريل 2021.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.