مدخل
ذات يوم، كان المخرج فيديريكو فيلليني يراجع البروفات النهائية من سيناريو فيلم "ليالي كابريا"، الذي يتضمن شطرًا من حياة العاهرة "جيوليتا ماسينا". كان فيلليني خجولًا على عكس جرأة أفلامه، بل ومنطويًا على نفسه لا يميل إلى التجمعات، رغم تكدس أفلامه بمئات المجاميع والكومبارس. والحقيقة أن فيلليني لم يُجرب عوالمه المتخيلة على أرض الواقع، وكان عليه الاستعانة بأشخاص خبروا ذلك الواقع بأنفسهم ليتسنى له تحويله على طريقته الفيللينية، لا سيما الحوار الذي كان من أكثر الأشياء المؤرقة للمخرج الطامح دائما وأبدًا إلى كلمات من لحم ودم. اقترح عليه بعض المُقربين اسم الكاتب والشاعر، بيير باولو بازوليني. هنا، دخل بازوليني إلى عالم السينما محملًا بإرثه الأدبي، وحيواته العديدة الصاخبة، فأثار كثيرًا من الجدل بأفلامه التي انقسمت الآراء في شأنها؛ فبينما عدَّها بعضهم تحفًا فنية لا مثيل لها، لم يرَ فيها فريق آخر سوى العهر والفجور. مجموعة من الأفلام، والقصائد، والروايات، والمعارك، أيضًا، بجانب المواقف السياسية والإنسانية، استطاع من خلالها تجاوز الفناء الجسدي إلى رحابة الخلود.
واليوم، تحتفل إيطاليا والعالم بمرور مئة عام على ميلاد هذا الفنان الرجيم.
الفقر النبيل
اليوم، هو الخامس من مارس/ آذار 1922، والمكان مقاطعة بولونيا شمالي إيطاليا. في إحدى دور الضيافة العسكرية، رزق ضابط المشاة، كارلو ألبرتو، بطفله الأول من زوجته المُعلمة الريفية سوزانا. هناك، تجد لوحة رخامية تخليدًا لذكرى ميلاد الفنان بازوليني، في المدينة التي لقبت بـ"مدينة الدهون والمثقفين"، بسبب أطباقها الدسمة من المطبخ البولوني، وكونها من أشهر المدن ذات الزخم الثقافي منذ أسسها شعب الأتروسكان عام 534 قبل الميلاد.
كان جد بازوليني لوالده ينحدر من عائلة نبيلة، بينما عائلة أمه ريفية متواضعة، استنزف الأب ميراثه في القمار فالتحق بالجيش، ومن ثم قُدر على أسرته الصغيرة حياة التنقل والترحال من بولونيا إلى بارما، كونجليانو، بيلونو، حيث ولد شقيقه جيدو ألبرتو. ولما كان دخلهم الوحيد يعتمد على راتب الأب، فقد جربوا نوعًا من المعاناة لم تخلُ من أطياف البرجوازية، وهي الفترة التي دعاها بازوليني بـ"الفقر النبيل"، كما كان يُحب أن يطلق على نفسه لقب البرجوازي الصغير الذي كرره في قصائده.
في صباه، ومقتبل شبابه، مارس بازوليني العديد من الأنشطة، من بينها الرسم والقراءة وكرة القدم، وعين قائدًا لفريق الكرة في الجامعة. أثناء ذلك، واجه أمرين سيكون لهما اليد الطولى في ترسيم حياته وموته المفجع؛ أولهما التعرف على جسده وعشقه للجنس نفسه، ثانيهما الشعر الذي راح يكتبه في صورة رسائل للأصدقاء والأقارب، إلى أن قرأ رامبو فأغرم به، وفتن بتمرده المستحيل، وعلاقته بالشاعر بول فيرليني، ثم هروبه الرومانتيكي إلى أفريقيا.
شهدت سنوات شبابه أيضًا بعض الأحداث التي ساعدت على تشكيل وعيه، كالحرب العالمية، ودخول النازيين إلى إيطاليا، والتحاقه بالحزب الشيوعي، وطرده منه، ومقتل أخيه في إحدى المعارك، ثم سجن والده بسبب الديون.. "مع نهاية الحرب، بدأت أكثر فترات حياتي مأساوية، وفاة أخي، وحزن والدتي، فوق البشري، وعودة والدي من السجن ـ محاربًا قديمًا مريضًا سممته هزيمة الفاشية ـ طاغية لا حول له أطاشت صوابه الخمرة الرديئة، شاعرًا بحب متزايد تجاه والدتي التي لم تحبه قط، وأصبحت منشغلة بحزنها الخاص، وقد أضيفت إلى كل هذا مشكلة حياتي وجسدي، وكما في الروايات فقد هربنا أنا وأمي في شتاء 1949 إلى روما".
اختراع الحياة
حين بدأ بازوليني الإخراج بفيلمه "أكاتوني" (1961) كانت تجربته الأولى في استخدام الكاميرا، فلم يسبق له أن التقط ولو صورة فوتوغرافية! في حوار أخير قبل وفاته يصرح: "حتى يومنا هذا لا أستطيع التقاط صورة جيدة". وحين عمل مدرسًا في قرية ريفية استهوته اللهجة الفريولية للأهالي، فاستخدمها في كتابة الشعر، الأمر نفسه حدث لبازوليني مع الرسم وكرة القدم وحتى السياسة؛ كلها أوجه للحياة التي أحبها بازوليني، والتي من كثرتها يريد الطفل النهم في داخله معايشتها كاملة "طفلًا صغيرًا أبدًا/ كي أحضن في نظرة واحدة/ ذاك الزحام الذي يفتنني".
كتب برتولوتشي عن عمله معه كمساعد مخرج يقول: "فيما كنت أراقب بيير باولو وهو يصور، شعرت وكأني أشهد اختراع السينما"، إنها الخلطة التي تميز سينما بازوليني عن غيره ـ حتى وإن وجدت في داخلها أطياف لسينمات أخرى، فالأمر مختلف عند بازوليني؛ فحين تقرأ أجزاء من سرده في الرواية، أو الشعر، ستجد مساحات كبيرة مخصصة للعناصر السينمائية، وفي أفلامه أنت على موعد دائم مع وجبة أدبية، الهدف الرئيسي في كل الأحوال، كما يقول "الوصول للحياة بشكل أكمل، وعيشها من خلال إعادة خلقها".
لكن هذا الخلق كان ينحرف أحيانًا عن السياق، ربما فيلم "حظيرة الخنازير" (1969) من أكثر الأمثلة دلالة على ذلك؛ فبرغم ما يحمله من جماليات بصرية وتجريبية طغت عليه الذهنية بشكل أضر به كثيرًا، وجعله بمثابة خطبة سياسية لأحد الشعراء، فالشعر هو البطل المُحرك عند بازوليني، سواء في الحياة، أو الكتابة، أو السينما.
سينما الشعر وشعر السينما
في كتابه الشهير "الجمهورية"، وضع أفلاطون ضوابط ومعايير تمنح فئات حق المساهمة في بناء المدينة الفاضلة، وتستبعد الآخر، الشعراء من ضمن المستبعدين، إذ وجدهم أفلاطون لا جدوى منهم، ونتاجهم كما رآه أرسطو لا يصدر عن العقل، بل عن الشعور، ومن ثم فهو وهم "لا يعكس جوهر الأشياء، لأنه محاكاة للمحاكاة، وتقليد للتقليد". من جانبه، رد أرسطو على أستاذه بكتاب "فن الشعر"، فلم يستنكر فكرة المحاكاة، بل احتفى بها.. "فالمحاكاة غريزة في الإنسان تظهر فيه منذ الطفولة، والإنسان يختلف عن سائر الكائنات في كونه أكثرها استعدادًا للمحاكاة، وبها يكتسب معارفه الأولية".
الشعر عند بازوليني يتأرجح بين هذا وذاك؛ ولربما عمِد إلى إغفال النظريات والمفاهيم، فـ"الانحلال والانحطاط لهما طبيعة شاعرية" متخذًا من المادية الجسدية طريقًا لفهم الانعتاق والتورط في الوقت نفسه.. "لقد كان شعورًا بما لا يمكن حيازته، بما هو جسدي، شعورًا لم يُخترع له اسم بعد"، لا شك في أن هذا الاختراع غير المُحدد هو المحرك الأساسي في تجربة بازوليني، سواء في الكتابة، أو السينما، على أن هذا المحرك تطلب عددًا مهولًا من البشر، أو تجاربهم على وجه التحديد التي كشفت له وهمية القطع واليقين، وأن العالم لا يقوم سوى على المتناقضات، ومن ثم لا مفر من التورط مع الجموع المطحونة.
يقول بازوليني: "لقد قيل إني أعبد ثلاثة، المسيح، وماركس، وفرويد، في الواقع تلك كلمات مدروسة لا غير، فمعبودي في الحقيقة هو الواقع". وقد أتاحت له السينما تمثل هذا الواقع كما يريد، لأن الفيلم السينمائي "يضع الحواس في مواجهة الشيء المادي الذي يتم تصويره بطريقة مباشرة". لذلك، لا تخلو أفلامه بكاملها من الشعر، ليس عن طريق الكلمات، أو التشكيل البصري فحسب؛ وإنما على مستوى جوهر العمل نفسه، الذي لن تخطئ شاعريته، ولا شاعرية صانعه.
حين يتضافر الشكل مع المضمون، كما يقول الناقد السينمائي، صلاح سرميني، في تعريفه للسينما التجريبية التي "تخيّرت الاهتمام بالشكل، فهذا لا يُفقدها المضمون، ولكنه مضمونٌ من نوع آخر، أو يمكن القول بأنّ الشكل هو المضمون". بتأمل ثلاثية الحياة، على سبيل المثال: "ديكاميرون ـ حكايات كانتربري ـ ألف ليلة وليلة"، نجد تطبيقًا لهذا المفهوم. ورغم أن سينما بازوليني في عمومها لا تنتمي للسينما التجريبية، فقد احتفت الصورة في الأفلام الثلاثة بالمفهوم التشكيلي البصري، وهو ما يتناسب جماليًا مع الشخصيات التاريخية المسرودة، حيث سُجلت في التاريخ كأيقونات جدارية. اقتطع بازوليني هذه الجدران وصهرها بنمط سينمائي فريد، مؤكدًا على "أن ما يحمل آثار ماضينا الهمجي هو الأعمال الفنية".
التاريخ برواية بازوليني
لم يتخلَ بازوليني في أفلامه عن الخطاب السياسي، ولم ينصرف أيضًا عن استدعاء التاريخ وتعشيقه كالموزاييك داخل الحدث الدرامي. في "أوديب ملكًا" (1967)، يبدأ الفيلم وينتهي من المشهد نفسه، أمام أحد البيوت في العصر الحديث، حيث نشهد حالة ولادة سرعان ما يأخذنا من خلالها إلى أسطورة أوديب الشهيرة، ثم يعود مرة أخرى لفترة زمنية أحدث، والملك أوديب يسير مفقوء العينين بمعاونة صديقه. صنع بازوليني ديمومة للقصة ليبرئ أوديب من جُرمه بعشق الأم وقتل الأب، فهو لا يختلف عنه كثيرًا سوى ببعض المصادفات الدرامية التي يمكن أن تحدث لأي إنسان.. "إن علاقاتي المثيرة مرتبطة بكل ما هو أبوي، تكون هذه العلاقة مثمرة إذا كانت مع الدولة ـ التي تمثل الأب ـ وهذا يجبر الابن على أن يكون احتجاجيًا، وهذا هو مصدر الشعر والفكر والأيديولوجيا، وباختصار مصدر الحياة".
على المنوال نفسه، يأتي فيلم "الإنجيل وفق القديس متى" (1964). الفيلم يُعد من أحد دفاعات بازوليني عن الجُرم البشري.. "عندها، تتضح في أحلام يقظتي الرغبة في محاكاة التضحية التي قدمها يسوع للآخرين"، فهو ينزل بالمسيح من مكانة التقديس والألوهية إلى وضاعة الضعف الإنساني في عمومه. أما في فيلم "ميديا" (1969)، فيستعيد أسطورة الساحرة الإغريقية القديمة، وقتلها لزوجها وأطفالها والعشيق، ليشير إلى نشوة الجانب الوحشي حين تؤكل لحوم البشر بعادية لا تخلو من اللذة. وصفها الناقد السينمائي، توني راينز، بأنها قطعة فنية عدائية، فـ.."الهمجية في أفلامي دائمًا رمزية، إنها تمثل الفترة المثالية للجنس البشري".
تمركزت التاريخية عند بازوليني وفق ثنائية "المقدس/ المدنس"، التي استخدم فيها المونتاج بأنماط مختلفة، وبحرفية عالية، بين البطء والسرعة، وما بينهما، مما أضاف حركة دائمة لا تنقطع على الشاشة، أما كاميرته المُلحة فقد أسبغت بلقطاتها المتريثة على الأشياء والوجوه واقعية مضاعفة وطابعًا رمزيًا لا تُخطئه العين، معتمدًا في توليفته على مقطوعات موسيقية متنوعة لباخ، وموزارت، أو فيفالدي، أحاطت المشهد بهالة كاتدرائية مهيبة.
ما لا يمكن إشباعه
كان بازوليني، ككل الثوريين، ينحاز للضعفاء، وعاش مخلصًا لمحاربة قضية استغلال القوى الرأسمالية للطبقات الفقيرة. رغم ذلك، فقد مارس بازوليني الاستغلال نفسه حين انتقل إلى هذه القوى؛ فهو الذي دفع المال لشباب مُعدمة من بائعي الهوى بمنطق أن "التجربة المباشرة لمشاكل الآخرين قد غيرت بشكل جذري مشاكلي الخاصة، ولهذا فإني أشعر أن في جذور شيوعية البرجوازية يوجد دائمًا دافع أخلاقي، وبمعنى ما إنجيلي". وفق منهجيته المتجددة في الدفاع عن الضعف الإنساني.. "ها أنا، إذًا/ في جلسة بوحٍ سامية/ مع ذاتي/ ذاك الملاك النجس الذي أحبّ..".
في الثاني من نوفمبر/ تشرين الثاني سنة 1975، عثر على جثته مقتولًا بشكل وحشي في منطقة غير مأهولة بالقرب من روما. حدث ذلك بعد العشاء الأخير في ليلته السابقة مع أحد بائعي الهوى الذي اتهم بقتل بازوليني وحُكم عليه. إلا أن الوحشية التي ارتكبت بها الجريمة كان من الصعب تقبلها من صبي بمفرده، الأمر الذي جعل بعضهم يعتقد أن الجريمة مدبرة من أعداء بازوليني، وهم كُثر، سواء على مستوى المؤسسات الدينية، أو السياسية، وحتى الأعراف المجتمعية، وذلك عقب عرض فيلمه الأخير "سالو" (1975)؛ أكثر أفلامه الصادمة التي يمكن مشاهدتها.
استحضر بازوليني في فيلمه عوالم رواية مدرسة الخلاعة "120 يومًا في سدوم" للماركيز دي ساد، كي يناقش فكرة النزعة الاستهلاكية المهيمنة على روما الجديدة، وهو ما يمكن تطبيقه على أجساد البشر أيضًا، بهدف الوصول إلى أعلى درجات الإشباع الوجودي للإنسان، والذي كان يدرك تمامًا أنه لا يمكن إشباعه!