}

ذكرى كمال ناصر.. بين الحلم والواقع عاش واقعيًا

راسم المدهون 11 أبريل 2022
استعادات ذكرى كمال ناصر.. بين الحلم والواقع عاش واقعيًا
كمال ناصر (1924 ـ 1973)

في ذاكرة من عملوا في الإعلام الفلسطيني، يتفق الجميع على مخاطبة الجميع بلقب واحد هو الأخ، ويستثنون شخصًا بالذات ينادونه بمشاعرهم تجاهه، ولكن أيضًا بتقديرهم لشخصيته ودوره وخبراته، ذلك الشخص هو الشهيد كمال ناصر، الذي كان أخًا حقًا للجميع، ولكن الجميع اتفقوا على أن لقبه الذي يستحق هو: الأستاذ.
هو المثقف والصحافي والناطق الرسمي باسم منظمة التحرير الفلسطينية الذي لم يمنعه منصبه الرسمي من التصرف كمثقف في مدينة مفتوحة كبيروت، وأن يكون أحد نجومها، وأن يرتاد مقاهي المثقفين في صورة دائمة، رغم ما يحمله ذلك من مخاطر دائمة على حياته ما لبثت أن تحققت ليلة العاشر من أبريل/ نيسان 1973، حين اقتحمت مجموعة من عناصر الموساد الإسرائيلي بيته وأردته قتيلًا برصاصها.
الشاعر الرقيق الذي كانه كمال ناصر هو أيضًا المناضل الذي أطلق رصاصات من مسدسه باتجاه مجموعة اغتياله مسجلًا بذلك شجاعة الفكر الذي حمله طيلة حياته، وعبَر عنه بأساليب وأدوات متعددة.
كمال بطرس ناصر، الذي ولد في مدينة غزة عام 1924، ترعرع في بير زيت، وعاش حياة مزجت بين الاهتمامين الأدبي والسياسي، في زمن كان عنوانه الأبرز فلسطينيًا مقاومة الانتداب البريطاني، ومقاومة مشروع الانتداب في تمكين الحركة الصهيونية من تحويل فلسطين إلى "وطن قومي" لليهود، فهو عاش طفولته وصباه الأول في عصف الثورات والانتفاضات الوطنية التي عاشها وطنه، وبالأخص "ثورة البراق"، ومن بعدها "ثورة القسام" عام 1935، التي مهدت لثورة فلسطين الكبرى عام 1936. هي رحلة في الأهوال ومواجهتها مثلما هي رحلة في تحصيل المعرفة ومراكمة الوعي والخبرة معًا، ما جعل مسألة الانتماء السياسي تأخذ عنده مكانة تتجاوز "الترف"، أو الممارسة الثانوية، إلى الرغبة في تأكيد الحاجة الدائمة لمواكبة المجموع الشعبي والتأثير فيه. لعلَ هذه الرغبة بالذات هي التي دفعت الشهيد كمال ناصر لأن يكون منتميًا بالمعنى المباشر والحزبي، وأن يعي منذ البدايات الأولى لتجربته دور المثقف في بلد يواجه كل تلك المؤامرات والصعاب، وما نتج عنها من اضطرابات كبرى، بل ومن معارك ومذابح تلاحقت حتى أحاقت بوطنه وشعبه، وكانت نتيجتها المأساة الوطنية الكبرى التي وقعت في مايو/ أيار 1948. تلك المرحلة شدّته إلى تجارب من سبقوه من شعراء فلسطين الكبار: إبراهيم طوقان، وعبد الكريم الكرمي "أبو سلمى"، وشهيد معركة "الشجرة" عبد الرحيم محمود، أي مواكبة ذلك الوعي الحاد والصاخب الذي حققته قصائد طوقان الشهيرة "الثلاثاء الحمراء"، و"الفدائي"، وقصيدة الكرمي الكبرى "لهب القصيد"، وصرخة عبد الرحيم محمود، التي لا تزال تجوب وعي الفلسطينيين:
سأحمل روحي على راحتي
وأمضي بها في مهاوي الردى.
هو دور يتكئ على الثقافة والفكر، وسيأخذه بعد ذلك إلى ممارسات يومية لا تقل أهمية، أبرزها الصحافة، والصحافة الحزبية بالذات، حيث تعاون مع هشام النشاشيبي على إصدار جريدة "الجيل الجديد" في القدس عام 1949، ووجد نفسه بعد ذلك يشارك في تأسيس "حزب البعث" في الضفة الغربية، وينتخب نائبًا عن رام الله، وليصدر جريدة "البعث".
هي نشاطات لا تبتعد عن دراسته الجامعية، حيث تخرج في الجامعة الأميركية في بيروت، وحصل على الإجازة في العلوم السياسية عام 1942.



سنوات الستينيات كانت حافلة بنشاطه السياسي في سبيل تحقيق القضايا والشعارات العربية الكبرى، ومنها بالطبع الوحدة العربية، وهو قد رأى مثل الأغلبية من أبناء جيله الترابط العضوي بين استعادة وطنه فلسطين، وبين تحقيق الوحدة العربية، فهما هدفان يتبادلان التأثير. ومن يعود لقراءة قصائده التي كتبها في تلك الفترة يرى اهتمامه بمتابعة الأحداث السياسية العربية الكبرى، وما شهدته من محطات، وحرصه على المساهمة فيها خصوصًا بالشعر. إنها رؤية المثقف ورؤية الشاعر بالذات. فكمال ناصر لم يتوقف عن الشعر، وإن تباطأ في كتابته ونشر بعض ما كتب على غلاف مجلة "فلسطين الثورة" الأخير، وكان يمازح الشعراء والكتاب كل مرة بأن يقول لهم اذهبوا وتعلموا كتابة الشعر.
هو شخصية وطنية حظيت بشعبية ومكانة خاصة، بالنظر لما تمتع به من فرادة جاءت من انتمائه للأدب والصحافة بالذات. هو بهذا المعنى ظل حاضرًا في الحياة الثقافية العربية، من خلال علاقاته اليومية، خصوصًا في بيروت ما قبل يونيو/ حزيران 1967، أي تمامًا في المرحلة الأسطع ازدهارًا، والتي شهدت معارك الأدب وتطوراتها الكبرى، وفورة صدور المجلات الأدبية التي كانت تعبر عن طموح وحلم من ينتمون لتيار أدبي معين، وهي الحالة التي شهدت في الوقت نفسه ازدهار صناعة الكتاب نشرًا وتوزيعًا، ثم أيضًا حضور أسماء أدبية لامعة توافدت على بيروت من مختلف البلدان والعواصم العربية، باعتبارها ملجأ للعيش والإبداع والانتشار.
حضور كمال ناصر في تجربة العمل الوطني الفلسطيني، وخصوصًا في اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، وكناطق رسمي أيضًا لم يتكرّر بعد ذلك، فهو ترك بصمته الشخصية المميزة من خلال مواقف كان يعبر عنها في افتتاحيات مجلة "فلسطين الثورة"، التي شغل منصب رئيس تحريرها، والتي كثيرًا ما كان يكتبها وفق قناعاته ورؤيته الشخصية، ولا تلبث بعد ذلك أن تتحوّل لمواقف رسمية للمنظمة. وأتذكر على سبيل المثال لا الحصر موقفه المميز يوم اتخذ الرئيس المصري الراحل أنور السادات قراره الشهير بطرد الخبراء السوفييت من مصر، حين كتب الراحل افتتاحية كانت مثار نقاشات واسعة في الأوساط السياسية الفلسطينية والعربية لما حملته من موقف واضح وحاسم عبّر عنه عنوان المقالة: دفاعًا عن أنفسنا، وليس دفاعًا عن السوفييت، فكان بذلك يقرأ موقف القيادة الفلسطينية، وموقف الراحل ياسر عرفات، ويرغب في إطلاق هذا الموقف من دون أن يتسبب في إحراج قيادة المنظمة.



وفي العودة إلى ما تركه لنا من قصائد، نرى أن تجربته الأهم هي في ديوانه الوحيد الذي نشر خلال حياته "جراح تغني"، وفيه نعثر على صوت شعري يمزج العاطفة الفردية بالحلم الوطني والقومي، ويحرص في الوقت ذاته على تأكيد انتمائه للشعر بوصفه فنًا يتجاوز راهنيته العابرة إلى تقديم رؤى فنية وفكرية تطمح للتقدم في الحياة والسياسة والمجتمع.
كمال ناصر ذهب في الأشياء كلها نحو أقاصيها، فآمن بفكره السياسي والاجتماعي حتى الارتقاء به إلى حدود الحلم، وحمل في الوقت ذاته، وبالحماسة نفسها، حلمه الإبداعي كأداة تعبير، ولكن أيضًا كغاية جمالية وفنية. ورأيناه في سعيه كله يمشي نحو أحلامه وأهدافه من دون انتباه إلى تحقيق مناصب شخصية. وأتذكر أنه يوم تأسيس "الإعلام الفلسطيني الموحد"، وإصدار مجلة "فلسطين الثورة"، كان أول من اقترح على الجميع أن يتولى غسان كنفاني رئاسة تحريرها، وهو ما اعتذر عنه غسان بدوره.
وبين الحلم والواقع، عاش كمال ناصر واقعيًا إلى حد الانخراط في العمل الوطني اليومي، وحالما إلى درجة التماهي مع عزوفه عن الرغبات الخاصة والطموحات الشخصية، فكان في الحالتين رجلًا يمشي في اتجاه الحياة، كما يشتهي، وكما يليق به، وكما احتفى به الفلسطينيون في وداعه إلى مثواه الأخير.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.