بسبب الحروب المتكررة في القرن العشرين وما بعده، ظهرت أهمية ومخاطر مهنة المراسل الحربي. وقد أعاد مقتل الصحافية والمراسلة الفلسطينية شيرين أبو عاقلة لفت نظر العالم إلى مخاطر تلك المهنة، حيث قتلت برصاصة في الرأس في أثناء تغطيتها اقتحام القوات الإسرائيلية لمدينة جنين المحتلة.
ليست أبو عاقلة هي المراسلة الأولى التي تموت في أثناء تغطية حربية، بل يحدث هذا باستمرار، أن يموت صحافيون ومصورون على جبهات القتال، أو أماكن الصراعات من أجل نقل الأحداث.
بدأت فكرة نقل أحداث الحروب وتوثيقها قبل آلاف السنين، لكنها تبلورت مع الوقت وأصبح هناك شكل محدّد لمهنة المصور والمراسل الحربي. وصورت رسوم الكهوف الأولى التي تعود إلى عصور ما قبل التاريخ، الصيادين وهم يسقطون الحيوانات البرية، وشكلت الروايات المنطوقة عن المعارك الكبيرة والصغيرة نقطة البداية للتاريخ الشفوي. وأضفت كل الحضارات القديمة الطابع الأسطوري على الحروب ومجدت المحاربين والجيوش، ووضعتهم أحيانًا في مكانة إلهية. ووثقت الرسوم المصرية القديمة المعارك المصرية والآلات الحربية على جدران المعابد مثل اللوحة الأشهر للملك رمسيس الثاني في معركة قادش وهو يقود عجلة حربية. وحكت أعمال الشاعر اليوناني الأشهر هوميروس في "الإلياذة" و"الأوذيسة" عن حرب طروادة وعواقبها، كما أحيا وليام شكسبير ذكرى حروب إنكلترا في مسرحياته، وصور جون ميلتون في ملحمته "الفردوس المفقود" المعارك بين جيش الخير وجيش الشر.
البدايات المبكرة لفكرة المراسل الحربي
تعتبر مهنة المراسل الحربي مهنة حديثة نسبيًا في التاريخ البشري، لكن المؤرخين ناقشوا منذ فترة طويلة بداية ظهور الفكرة. وكان ضمن من اعتبرهم المؤرخون مراسلين حربيين قدامى المؤرخ اليوناني ثيوسيديدس، الذي كتب عن الحرب البيلوبونيسية اليونانية القديمة عام 424 قبل الميلاد؛ وكذلك الإمبراطور الروماني يوليوس قيصر الذي وصف غزوه لبلاد الغال القديمة التي كانت تمتد في مساحة فرنسا وبلجيكا ولوكسمبورغ ومعظم سويسرا.
على الرغم من أنه في كلتا الحالتين سجلت الوثائق بعد عدة سنوات من الحرب نفسها إلا أنهما نواة لفكرة المراسل الحربي. أشير أيضًا تاريخيًا إلى ويليام واتس، المؤلف المحتمل لحكايات الملك السويدي غوستافوس أدولفوس، الذي يقال بأنه سجل حكايات حرب الثلاثين عامًا. وجاءت تقارير واتس بعد عدة أشهر من الأحداث نفسها وقام بتأليفها وكتابتها في لندن بعيدًا عن مسرح القتال الأصلي.
الجنود كمراسلين حربيين
عندما اجتاحت الحروب العالم، ظهرت فكرة المراسل الحربي. كان المراسلون الحربيون الأوائل جنودًا يرسلون الأخبار من المواقع الحربية والخطوط الأمامية. يبلغون الأحداث من داخل المناطق المشتعلة. وشهد القرن التاسع عشر تسلم أول مراسلين حربيين لهذا العمل، وهما هنري كراب روبنسون من صحيفة "لندن تايمز"، وتشارلز لويس غرينسون من صحيفة "لندن مورنينغ بوست"، وبعد ذلك لم يعد يسمح للجنود بالعمل كمقاتلين ومراسلين في نفس الوقت.
كانت حرب فيتنام هي الحرب الأولى التي تبث تلفزيونيًا في وقتها الفعلي تقريبًا. منذ تلك الحرب أصبح الفيديو والتلفزيون أدوات أساسية للمراسلين. ومع ظهور العصر الرقمي أصبح بإمكان أي شخص على اتصال بالإنترنت أن يصبح مراسلًا حربيًا إذا كان في قلب مواقع الأحداث.
عندما بدأ الجنود بإعداد التقارير، كانوا على معرفة وثيقة بالمعارك والتكتيكات، ومع استقلال مهنة المراسل الحربي احتاج هؤلاء المراسلون إلى نفس المعرفة والسرعة. كلما اقترب المراسل من المواقع الحربية كانت تقاريره أفضل. قبل أن يسمح للنساء بالحضور إلى مواقع القتال، تسللت مراسلة الحرب العالمية الثانية، مارثا غيلهورن، على متن سفينة طبية، وتظاهرت بأنها طبيبة، لتصل إلى نورماندي بعد ساعات وتصبح أول مراسلة على الإطلاق من بين النساء والرجال تقوم بعمل مثل هذا.
يقول المصور الصحافي الشهير روبرت كابا: "إذا لم تكن صورتك جيدة بما فيه الكفاية، فأنت لست قريبا بما يكفي". لكن دفع المصور نفسه إلى داخل موقع الحرب أكثر يعني أن يكون أقرب للخطر. وقد قُتل روبرت كابا نفسه في أثناء تغطيته الحرب في فيتنام.
بالإضافة إلى المخاطر الجسدية والعقلية، لا يزال المراسلون الحربيون يواجهون ضغوطًا مهنية تخص مواعيد تسليم تقاريرهم ومحتوى التقارير. وتصف صحافية مستقلة محررتها فتقول: إنها ترغب مني أن أغرّد على "تويتر" حتى لو تعرضت لمحاولة اختطاف.
همنغواي مراسلًا حربيًا
لا يمكننا أن نستعيد مهنة المراسل الحربي من دون أن نعود إلى الروائي الأميركي إرنست همنغواي، إذ ارتبطت كتابته بقوة مع الكتابة عن الحرب. لقد اختبر الحرب بشكل حقيقي كمراسل حربي وكتب رسائل من جبهات حربية مختلفة، واستخدم الحرب كخلفية للعديد من أعماله.
خلال الحرب العالمية الأولى تطوع إرنست همنغواي للعمل كسائق سيارة إسعاف في إيطاليا مع الصليب الأحمر الأميركي. وفي أثناء إدارته لمطعم متنقل يقدم المشروبات والسجائر للجنود أصيب بنيران قذائف الهاون النمساوية. يصف همنغواي الحدث في إحدى رسائله فيقول "ثم كان هناك وميض، كما لو كان باب فرن مفتوح. ثم كان هناك هدير قوي مع لون أبيض تحوّل إلى الأحمر".
على الرغم من إصابته، نقل همنغواي جنديًا إيطاليًا مصابًا إلى بر الأمان، وأصيب مرة أخرى بنيران مدفع رشاش. وقد حصل همنغواي على ميدالية الشجاعة الفضية من الحكومة الإيطالية تكريمًا له وكان من أوائل الأميركيين الذين كرموا على هذا النحو.
جمال الغيطاني وحرب أكتوبر
ولد جمال الغيطاني في بلدة جهينة في صعيد مصر وعمل في صناعة السجاد اليدوي قبل أن يبدأ عمله كمراسل حربي من قناة السويس منذ بداية حرب الاستنزاف عام 1969 حتى نصر أكتوبر عام 1973. نقل الغيطاني بشفافية أخبار الجنود والجبهات وأخبار قتال أهالي مدن القناة بحس أدبي روائي، وكتب تقارير ورسائل صحافية عن الجنود وبطولاتهم وأشهرها قصة الجندي عبد العاطي، صائد الدبابات، والتي تحولت إلى حكاية شعبية مصرية.
غطى الغيطاني أيضًا الحرب اللبنانية والحرب العراقية- الإيرانية، واستطاع أن يحوّل الحكايات العسكرية والحربية من مجرد تقارير صحافية إلى قصص عن الإنسان والمكان. وعقب نصر أكتوبر انتقل الغيطاني إلى قسم التحقيقات الصحافية. وفي عام 1993 أسس جريدة "أخبار الأدب" المصرية وظل رئيسًا لتحريرها حتى وفاته عام 2015.
مراسلون فقدوا حياتهم بسبب مهنتهم
هناك قائمة طويلة من المراسلين الحربيين والمصورين الصحافيين الذين فقدوا حياتهم كنتيجة مباشرة لمهنتهم. ونستعيد هنا ذكرى بعضهم.
الصحافي السوري ناجي الجرف
كان هدف ناجي الجرف هو نقل الأحداث من سورية وتوثيقها. بعد التضييق على الصحافيين غادر الجرف إلى تركيا وهناك أخرج فيلمين وثائقيين مناهضين لتنظيم الدولة الإسلامية، أحدهما عن نشاط هذا التنظيم في حلب. أذيع الفيلم على قناة العربية الإخبارية، وشاهده ما لا يقل عن 12 مليون مشاهد، بحسب القناة.
بعد عرض الفيلم ازدادت التهديدات الموجهة ضده. عمل الجرف من تركيا مع جماعة press المناهضة لتنظيم الدولة الإسلامية. وأنهى فيلمًا عن الرقة لكنه اغتيل قبل عرضه. درّب ناجي أكثر من ألف صحافي مواطن وجهًا لوجه وعبر سكايب وأنشأ عشرات اللجان الصحافية لتغطية الحرب، وعلّم المواطنين كيفية إعداد تقرير تلفزيوني وتقرير إذاعي وطريقة كتابة الأخبار.
قتل ناجي الجرف عام 2015 في مدينة عنتاب بالقرب من الحدود السورية، ولم تعلن في وقتها أي جماعة أنها مسؤولة عن الجريمة، ولكن من المرجح أنه فقد حياته على أيدي أتباع أنصار الدولة الإسلامية في تركيا.
الصحافي الفلسطيني عماد أبو زهرة
في 11 تموز/ يوليو 2002 بعد أن رفعت القوات الإسرائيلية الحظر الذي كان ساريًا على جنين منذ 21 يونيو/ حزيران، وفي حوالي الساعة الثانية فجرًا، أدى صوت الدبابات إلى فرار السكان والاحتماء داخل المحال والمنازل المجاورة. ذهب عماد أبو زهرة لتصوير حاملة جنود إسرائيلية مصفحة اصطدمت بعمود كهرباء. كان بمفرده مع صديق له في مواجهة دبابتين إسرائيليتين يحملان الكاميرات؛ كان صديقه يرتدي سترة مضادة للرصاص بينما ارتدى هو سترة قماشية عادية تشير إلى أنه صحافي.
بعد لحظات من التصوير انطلقت النيران من الدبابات وأصيب أبو زهرة في فخذه ونزف بغزارة. حاول الرجلان الاحتماء في مبنى قريب، لكن الدبابات واصلت إطلاق النار عليهما، ومرت 25 دقيقة قبل أن يستقلا سيارة أجرة إلى مستشفى جنين، حيث توفي أبو زهرة في المستشفى في اليوم التالي.
المصورة اللبنانية ليال نجيب
عندما شنت إسرائيل هجمات على لبنان ردًا على غارة حدودية شنتها جماعة حزب الله اللبنانية، أصيبت المصورة الصحافية ليال نجيب بشظايا صاروخ في أثناء تواجدها في سيارة أجرة على الطريق قرب قرية قانا. بحسب التقارير الإخبارية وقتها، كانت نجيب تحاول مقابلة بعض القرويين الفارين من القصف الإسرائيلي لجنوب لبنان. وكانت نجيب تعمل لصالح وكالة أنباء فرانس برس وجريدة الجرس، وهي أول صحافية تقتل خلال حرب لبنان عام 2006.
تعد ليال نجيب من أوائل الصحافيات اللاتي أرسين أسماءهن كمراسلات حربيات ومعها ريما مكتبي ونجوى قاسم، وهي واحدة من سبعة صحافيين قتلوا في لبنان منذ نهاية الحرب الأهلية عام 1990.
الصحافية العراقية أطوار بهجت
في أعقاب عام 2003 أصبحت الصحافية والمراسلة أطوار بهجت واحدة من أكثر الوجوه المألوفة على الشاشات العربية، حيث كانت تغطي الحرب على العراق. في عام 2006 تعرض ضريح العتبة العسكرية المقدسة بسامراء لهجوم أدى إلى تدمير الضريح والمسجد. اختطفت أطوار بهجت في أعقاب الهجوم وقتلت في 22 فبراير/ شباط. كما قتل المصور خالد محمود الفلاحي، والفني عدنان خيرالله، وتمكن عضو رابع من الفريق من الفرار من الكمين.
كان فريقها محاطًا بحشد من المدنيين، لكن بحسب أحد أفراد طاقمها الناجين، أطلق مسلحان طلقات في الهواء مما أدى إلى تفريق الحشد، ثم صاح أحد المسلحين "نريد المذيعة". طلبت بهجت المساعدة لكن دون جدوى، وعندما حاول أعضاء طاقمها الإخباري ثني المسلحين عن خطفها، قتل اثنان منهم.
في يوم السبت 25 فبراير/ شباط 2006 تعرض موكب جنازتها للهجوم مرتين. المرة الأولى من قبل مسلحين أطلقوا النار على المعزين. بعد ذلك زرعت قنبلة على جانب الطريق استهدفت موكب الجنازة في أثناء عودته من المقبرة، وقتل ما لا يقل عن ثلاثة أفراد في الهجمات وأصيب أربعة أشخاص.
أعلن وزير الدفاع العراقي، سعدون الدليمي، في 18 مارس/ آذار 2006 اعتقال ستة رجال يشتبه في تورطهم في مقتل أطوار بهجت، وقال إنه سيعرضهم على الملأ.. ولم يحدث ذلك، ولم يعرف حتى الآن من هم المتورطون في قتل أطوار بهجت.
مراجع:
https://cpj.org/data/people/imad-abu-zahra/
https://www.rcfp.org/journals/the-news-media-and-the-law-spring-2003/fifteen-journalists-die-whi/
https://www.independent.co.uk/news/obituaries/gamal-elghitani-egyptian-author-who-wrote-caustic-political-parables-and-founded-outspoken-akhbar-aladab-a6700481.html?amp
https://www.archives.gov/publications/prologue/2006/spring/hemingway.html