}

تخيّلْ تتجدّد.. الجغرافية الخيالية في المعرفة الإنسانية

باسم سليمان 30 مايو 2022
استعادات تخيّلْ تتجدّد.. الجغرافية الخيالية في المعرفة الإنسانية
لوحة مستوحاة من رحلة عبدالله بن قلابة

ليس غريبًا أن يكون أكثر ما وصلنا من حيثيات وجود أسلافنا في التاريخ البشري من سرديات، هو من طينة الخيال والتخييل: الأساطير والخرافات والقصص. وحتى ما صنّفناه كسرديات تاريخية، أو سياسية، أو علمية، تمييزًا لها عن المتخيلات، والتي كنا قد اعتبرناها الإرهاصات الأولى لعلومنا المعاصرة الأمبريقية التي تؤمن بأن معرفة الإنسان تستند إلى الحواس والخبرة والتجارب العملية، لم تخل أبدًا من شطحات الخيال. قلنا بأنه ليس غريبًا، لأنّنا في زمننا المعاصر ننتج من سرديات الخيال والتخييل ما يربو بكثير على ما أنتجته البشرية من خيال، من لحظة وجودها على هذه الأرض. وهذا هو لوقيانوس السميساطي(1) يكشف لنا حال الكتابات الخيالية في القرن الثاني الميلادي: "حين كنت أقرأ لجميع هؤلاء الكتّاب، لم أكن ألصق بهم أي جريمة لما اقترفوا من كذب، لأنّني كنت واثقًا بأنّ مثل ذلك كان شائعًا، حتى لدى من يتعاطى الفلسفة". لم ينج لوقيانوس من غواية الكتابة الخيالية، على الرغم من أنّه انتقد الخيال في الكتابة التاريخية لانعدام الدقة، لكنّه حصّن نفسه، كي لا يقع عليه نفس الانتقاد الذي ساقه في حق الآخرين، فيقول: "... فقد تعمدت الكذب. بيد أنّ أسلوبي فيه كان أصدق... وهو اعترافي بأنّني كاذب".
إنّ ميزة ما كتبه السميساطي بأنّه تخييل لأجل التخييل، فهو وإن كان متهكمًا وساخرًا من سرديات الخيال الأسطورية التكوينية والتفسيرية للكون، إذ يعتبر أوديسيوس سيد الكذابين، فمع ذلك، نسج على المنوال نفسه لرحلة أوديسيوس التي تتقاطع مع سعي جلجامش في رحلة البحث عن الخلود. يبتدئ لوقيانوس رحلته/ قصته بالقول: "شرعت رحلتي ذات يوم من أعمدة هرقل، وانحدرت صوب الأوقيانوس الهسبيري/ الأطلسي... أمّا دوافع رحلتي فكانت القلق الذهني، ورغبتي في الوقوف على شيء جديد، ومعرفة حدود الأوقيانوس، ومن يقطنون الجانب الآخر منه". إنّ هذا التخييل يكشف لنا الدوافع المعرفية التي حثّت الإنسان على استخدام الخيال، الذي يحمل في جانب منه تسلية محضة، لكنّه في الجانب الآخر وسيلة معرفية يلجأ إليها الإنسان، موسعًا قواه العقلية والحسية، كي يحوز المعرفة بعيدًا عن محدودية معطيات العلم والواقع. هكذا نجد أفلاطون عندما أراد شرح مفهوم الواقع الحقيقي/ عالم المثل، لجأ إلى حكاية الكهف الخيالية، مع أنّه كان يرى بأنّ الفعالية التخييلية مليئة بالأوهام والخداع. هذه النظرة عارضها تلميذه أرسطو الذي ثمّن الخيال، واعتبره آلية معرفية جوهرية لاكتناه المعرفة.
ولكي نبيّن الفروق بين الخيال من أجل غايات خارجة عنه، والخيال لأجل ذاته، فلنجرِ مقارنة بين خيال أفلاطون، وخيال لوقيانوس. عندما شرع أفلاطون(2) في شرح نظريته في الوجود، ذهب إلى تخيّل مدينة فاضلة، بنظام حكمها، وجندها، ورعاياها، والأدوار المناطة بالذكور والإناث فيها. كانت هذه المدينة المتخيلة أسًّا لكل مدينة يوتوبية لاحقة. إنّ خيال أفلاطون أصبح جغرافية عقلية تضاف إلى الجغرافية الطبيعية التي تُبنى عليها المدن.




لكنّ الفرق بين جغرافيات الخيال عند أفلاطون ولوقيانوس يكمن في أنّ جغرافية لوقيانوس تبتدع عالمًا جديدًا مجهولًا مناقضًا للجغرافية الطبيعية المتعارف عليها في زمانه. فالخيال الأفلاطوني هو وسيلة إلى المثالية تنكر في الوقت نفسه وضعية واقع المحاكاة، لكن مع لوقيانوس نحن مع جغرافية خيالية مستقلّة لا تبتغي مثالًا، ولا تذمّ محاكاة. وما نقصده أنّ لوقيانوس أبدع الأصول العملية للتخييل الحرّ، غير المؤدلج دينيًّا وسياسيًّا، فمعه أصبح الخيال والتخييل من أجل ذاته.

صورة متخيلة للفيلسوف لوقيانوس السميساطي 


لم يخلق لوقيانوس عالمه من العدم، فعندما يصف جزر الفلّين والجبن العائمة، والحوت الذي في جوفه عوالم غريبة عجيبة، وكيف صعد إلى الفضاء، وشاهد سكان القمر، وسكان الشمس والحرب القائمة بينهما، ترك لعلاقة الشبه بين الأمكنة الخيالية المكتشفة، والأمكنة الواقعية، بابًا من أوجه الشبه، بحيث لا يصبح الخيال خارج المنظومة الفكرية والمعرفية بالمطلق، لكنّه حرّر الخيال من كلّ تبعية.
إنّ الخيال ملكة عقلية للإنسان لم تخل منها معرفة، ولا فنّ، حتى أنّه أنشأ جغرافية متخيّلة تضاف إلى القارات والبحار الحقيقية، فقد رسم لها الخرائط، كما فعل روبرت لويس ستيفنسون عندما كتب "جزيرة الكنز"(3). لقد ساعدته الخريطة التي رسمها من أجل تسلية ابن زوجته، وكي تكون منطلقًا ملهمًا لكتابة روايته. بهذه البساطة، ساعد رسم تخييلي لخريطة جزيرة في ولادة رواية، وكان لها الأثر الكبير على قرائها، وعلى الفنّ الروائي بشكل خاص.


الجغرافية الخيالية في التراث العربي


يمتلئ التراث العربي بالأمكنة الخيالية التي لم تطأها قدم إنسان إلّا في الخيال. وعندما نطالع المؤلّفات الجغرافية التراثية نلقى كثيرًا منها، وخاصة عندما تشحّ المصادر المعرفية أمام الجغرافي، فيعتمد على خياله في تكملة صورة المعمورة. لكن تلك الأمكنة المتخيلة لم تكن مقصودة لذاتها، فأي معطى معرفي واقعي جديد سيقصيها من حيز المعرفة والتداول، على العكس من رحلة عبدالله بن قلابة(4)، الذي قاده بحثه عن جمله الضائع إلى الوصول إلى مدينة إرم ذات العماد، التي بناها شداد بن عاد. يسرد لنا التراث كيف بنى ذلك الملك الذي ملك الدنيا مدينته الساحرة بالذهب والفضة والجواهر، لكن تلك المدينة اختفت وأصبحت خرافة يتناقلها القاصون حتى عثر عليها ابن قلابة. ولكي يثبت صدقية روايته، حمل معه من جواهرها التي ما إن تكسرها حتى تفوح منها روائح المسك. سمع الخليفة معاوية بذلك، فاستقدمه ليقصّ حكايته، وليتأكّد منه، قام بسؤاله: "هل رأيتها في المنام، أم في اليقظة؟" فأجاب ابن قلابة، أنّه رآها في اليقظة، وأنّ الجواهر التي تفوح برائحة المسك هي دليل على صحة الرواية. لم يُعثر على المدينة على الرغم من أنّ ابن قلابة أشار إلى قربها من جبل عدن، فقد ظلّت مدينة خيالية تزيد سعة الأرض وتعداد مدنها.




يحكي لنا ابن طفيل قصة حي بن يقظان(5)، وكيف أنّه ولد في جزيرة من جزائر الهند التي تقع تحت خط الاستواء. وهي جزيرة يتولّد فيها الإنسان من غير أم ولا أب. وقد ذكرها المسعودي بأنّها من جزر الواق واق، وفيها شجر يثمر نساء. وكان ابن طفيل يعدّها من أعدل بقاع الأرض، على خلاف رأي جمهور الفلاسفة والأطباء الذين يعتقدون بأن أعدل مناطق الأرض هو الإقليم الرابع الذي يوجد شمال خط الاستواء.
لا ريب أنّ لابن طفيل مقاصد دينية صوفية، وسياسية، وأخلاقية، وفلسفية، في حكاية حي بن يقظان، حاله كحال أفلاطون في مدينته الفاضلة، لكنّ الجزيرة التي تكلّم عليها مستقلّة عن رؤاه، مثل كهف أفلاطون عن مثالياته، فوجودها الخيالي سيظل قائمًا، مهما اندثر من أفكار أو رؤى ابن طفيل، وأيّ بحار سيمرّ من تلك المنطقة جنوب الهند، وكان مطلعًا على قصة ابن يقظان، ستراوده أحلام اليقظة، بأنّه سيكون محظوظًا ويلمح جزيرة الخلق.
كان سندباد "ألف ليلة وليلة" يزيد خراج غيم الرشيد عبر مغامراته التي اكتشف فيها جزرًا وبلادًا وحوتًا على ظهره جزيرة، وطائر العنقاء، ووادي الماس، وكثيرًا غير ذلك من أمكنة، وأشخاص، وكائنات متخيلة، لكن الأهم من خراج الرشيد كانت حكايات شهرزاد، التي أقامت جغرافية خيالية لذاتها. فقد كان الهدف منها زيادة سعة وجود الإنسان، وقد كان أبو تمام يقول "اغترب تتجدّد"، فأصبح القول مع شهرزاد: تخيّل تتجدّد.
قالت العرب: "أعذب الشعر أكذبه"، فهل ما زالت تلك المقولة صحيحة، مع وضع إشارة شطب وهمية على كلمة (أكذبه)؟ لقد قدّم لنا الشعر العربي القديم، وخاصة الجاهلي، معلومات عن تلك المجتمعات التي أصبحت كعاد التي زارها ابن قلابة. ولولا كذب الشعر المعرفي، لكنّا نقف تجاه تاريخنا على أرض مالحة تذوب ما إن يلامسها الماء.


إبستمولوجيا الخيال(6)

"معجم الأمكنة المتخيلة" لمؤلفيه ألبرتو مانغويل، وجياني غوادلوبي


يذكر ابن فضلان في رحلته إلى بلاد الصقالبة مشهدًا خياليًّا عن أهل السماء الذين يتقاتلون، ولم يكن ذلك الخيال إلّا رؤيته للشفق القطبي. أوردنا هذه المثل لنبيّن أنّ الخيال هو أسلوب لحيازة معرفية تتجاوز أدوات العقل في تلك الأزمنة. وهذا ما يؤكّده جونثان غوتشل في كتابه "الحيوان الحكاء"، ولم يكن كلامه إلّا اقتباسًا مقوننًا وفق آليات القول في عصرنا. فعندما أراد أفلاطون شرح معنى العالم الحقيقي قصّ حكاية الكهف. كذلك فعل لوقيانوس عندما أوجد الآلية التي صعد فيها هو وبحارته إلى الفضاء عبر دوامة إعصار كبير. وإن تتبعًا للعوالم الخيالية، وكيفية تفسير موجوداتها، من أساطير الخلق البابلية، إلى روايات الخيال العلمي مع جول فيرن، وهـ. ج ويلز، وإسحق عظيموف، يستطيع أن يستوعب مغامرة عباس بن فرناس في الطيران، فقبل إقدامه على ذلك، لابدّ أنّه قد قرأ كيف طار السندباد مع العنقاء.




ذهابنا مع أفلاطون في نظريته المزدرية للخيال يجعل من الصعب إدراك الخيال كوسيلة معرفية لجأ إليها الإنسان عبر مسيرة تطوره. الإنسان استطاع من خلال الخيال أن يتجاوز محدودية معرفته وإدراكه وحواسه، إلى جانب ندرة الوسائل التقنية التي كان يملكها، بأن يقدّم تراثًا من المعرفة. لقد بدأنا من زمن بفكّ شيفراته. فالثور الذي كان يهز الأرض ما إن يحرّك قرنيه، تحوّل إلى مقياس ريختر للزلازل. والحوت الذي كان يبتلع الشمس أصبح تقويمًا لكسوف الشمس، وكلمات السحر التي كان الشامانات يتلفّظون بها أصبحت لدينا ذات مسمى آخر، هو الكيمياء. هذا هو الخيال الذي كان كالشمس التي أشرقت على البشرية.
من هذا المنطلق، سنمدح كثيرًا ألبرتو مانغويل، وجياني غوادلوبي، لإنجازهما؛ "معجم الأمكنة الخيالية"(7)، فعبر سبر وبحث مضنٍ قاما بجمع الجغرافية الخيالية في السرديات الأدبية، وكأنّنا أمام موسوعة جغرافية علمية محكّمة، حيث ذكرا البلدان، والمدن، والمناطق، والقرى الخيالية. لقد أخذا في عين الاعتبار أن يحصرا قاموسهما فقط بمجال الكرة الأرضية، مستبعدين كل ما هو خارج الكرة الأرضية، وذلك لضخامة مادة الجغرافية الخيالية. ولربما استلهما فكرة عملهما من مقولة لجميس جويس: "لو اختفت دبلن من الكرة الأرضية لأمكن إعادة بنائها من عوليس". هذا العمل دفع البحوث الأدبية إلى الانتباه إلى الخرائط الخيالية التي رُسمت لتلك الأمكنة، أكان بخرائط حقيقية كالتي نراها في الأطلس الجغرافي، أو في الوصف في ثنايا الكتب، أصبحت هذه الخرائط إحدى الجوانب النقدية في الدراسات الأدبية مثلها كمثل أي نص سردي تخييلي(8).
ميّزنا في البداية بين استخدام أفلاطون للخيال كوسيلة لغاية، واستخدام لوقيانوس للخيال كغاية في حدّ ذاته. الآن، لم يعد لهذا التمييز من داع، فقد ثبت لنا بأن الخيال، إن كان وسيلة، أو غاية، خدم البشرية، وما زال يخدمها، في سعيها الحثيث لمعرفة ذاتها، ولمعرفة الكون.

المصادر:
(1) ـ أعمال لوقيانوس السميساطي المفكر السوري الساخر في القرن الثاني ميلادي، ترجمة: سعد صائب ومفيد عرنوق. دار المعرفة – دمشق 1987.
(2) ـ الجمهورية، المدينة الفاضلة، أفلاطون، ترجمة عيسى الحسن. الأهلية للنشر، عمان 2009.
(3) ـ https://thamesandhudson.com/news/the-writers-map-read-an-extract/
(4) ـ المستطرف في كل فن مستظرف، شهاب الدين محمد بن أحمد بن منصور الأبشيهي، تحقيق محمد خير طعمة الحلبي، دار المعرفة بيروت 2008.
(5) ـ حي بن يقظان، ابن طفيل، دار الهلال، بيروت 1993.
(6) ـ يعود أصل مُصطلح الإبستمولوجيا لكلمة يونانية الأصل، وهي (Epistemology)؛ مكوّنة من مقطعين (Episteme)؛ وتعني المعرفة، و(Logos)؛ وتعني السبب أو الحجّة.
(7) ـ THE DICTIONARY OF IMAGINARY
PLACES -by Alberto Manguel & Gianni Guadalupi
(8) ـ https://blogs.loc.gov/maps/2016/06/imaginary-maps-in-literature-and-beyond-not-all-those-who-wander-are-lost/

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.