}

"الأرواح الميتة" لغوغول من منظوري الأمس واليوم

سمير رمان سمير رمان 26 يونيو 2022
استعادات "الأرواح الميتة" لغوغول من منظوري الأمس واليوم
نيقولاي غوغول والترجمة الإنكليزية لكتاب "الأرواح الميتة" (Getty)

في 11 يوليو/ تموز المقبل، تمر 150 سنة على نشر نيقولاي غوغول روايته الملحمية "الأرواح الميتة". وبمجرد صدور الجزء الأول منها عام 1842، أصبح الكتاب على الفور في صدارة الكتب الأكثر مبيعًا حينها.
أصبح الكتاب معيارًا قيست وتقاس عليه المؤلفات الأخرى. لا يتحدث هذا النصّ عن الماضي فقط، بل عن الحاضر أيضًا. وعلى الرغم من أنّ الرواية روسيٌّة حتى النخاع، فإنّها في الوقت نفسه تتحدث عن العالم كلّه. فهنا نجد الأدب القوطي، والرواية الرومانسية الإسبانية، والملاحم اليونانية، وغير ذلك. 
كتب إدوارد ليمونوف أنه ليس من قبيل الصدفة أن يسمّى غوغول عمله هذا بالملحمة؛ "فقد رأى في حياة الموظفين شعرًا سلبيًا معينًا في مظهرهم وعاداتهم... حياة الموظفين مشبعة حتى الثمالة بشعرٍ مقرف". ومع ذلك، لم ير غوغول الشعر السلبي في حياتهم اليومية فقط، ولكن أيضًا في الجانب الآخر، حيث لكلِّ واحدٍ شبيهه الخاصّ، جانبه المظلم. جاء عنوان القصيدة صوفيًا "الأرواح الميتة"، فهؤلاء الناس يبدون وكأنّهم أحياء، لكنّهم في حقيقة الأمر أمواتٌ في دواخلهم. هنا، تبدو أفلام الرعب عن الأحياء الموتى، التي صوّرت بأسلوب جورج روميرو، مجرد قصص رعبٍ غبيّة مقارنةً بالرعب الذي رسمه غوغول.




درجت العادة على تدريس الطلاب أنّ الرواية هي كتابٌ ساخر يهزأ من الأخلاق، ومن الشخصيات، ولا يحتوي إلا على أبطال سلبيين. إنّه نصّ مناهضٍ لنظام القنانة بحسب ما قرر بيلينسكي. الكتاب بلا ريب هو من هذا النوع جزئيًا، ولكن هل يمكن للمرء التفكير بالأمور الإيجابية والسلبية عندما يكون الجحيم مسكنه؟ وهل يمكن التفكير بما هو إنسانيّ وأنت وسط حشودٍ من الشياطين والأبالسة.
ولكن لماذا بقيت الرواية مهمة حتى في أيامنا هذه؟ عند الحديث عن رواية غوغول في سياق الكلام عن هوميروس، يمكن القول إنّها بالفعل قصة رحلة مغامرات. للوهلة الأولى، يبدو أنّ أحداث الرواية تدور، كما يقول المؤلف، في مكانٍ غير بعيدٍ عن موسكو وسانت بطرسبرغ، ولكنّها تتجول بنا في واقع الأمر في أرجاء العالم الآخر، عالم الأموات. ولو كان في الجحيم متحفٌ لكان غوغول قد أرسلنا إليه بالتحديد. الضحك هنا غير ناجمٍ عن السخرية والاستهزاء إطلاقًا، بل هو تحدٍّ لكلّ هذه المخلوقات الشيطانية، إنّه سلاح في مواجهتهم بغرض إضفاء طابعٍ إنسانيٍّ على ما يحدث.
ببراعةٍ فائقة، يوازن غوغول بين الحقيقي والصوفيّ. غوغول مُقنِعٌ بشكلٍ مذهل، لدرجة يجعلك تؤمن أنّ الشيطان يدخل المنزل فعلًا، وتصدّق أنّ الفتيات الصغيرات يتحولن بسرعةٍ إلى شياطين! ربما تكون "الأرواح الميتة" حكاية مناهضة للقنانة، ولكن هل الإقطاعيون هناك هم مجرد طغاة وظلَمَة تافهين؟ بالتأكيد لا، فكلّ هذه الصناديق كيانات شريرة، سكنت أجسادًا بشرية. تتأكّد الصوفية باستمرار، فشخصيات "الأرواح الميتة" ترتدي ثيابًا أنيقة، وتتنكّر تحت مظهر سحنٍ بشرية، لكن تظهر في بعض الأحيان ككائنات شيطانية تحت كلّ هذا.
تشيشكوف هو نفسه ميريجكوفسكي، ويأتي بعده، كما لاحظ نابوكوف، شخص بلا ملامح، إنّه الشيطان، ولكن شيطان النذالة والابتذال قبل أيّ شيءٍ آخر. ومع ذلك، ماذا يمكننا أن نسمي هذا الشخص في عالم حقيقي مهووس بعبادة النجاح التي تعني الكثير في نظر الناس؟ إذا تجاهلنا خاتمة الرواية، نجد أنّ تشيشكوف ليس سوى رجل أعمالٍ ذكيّ، عصاميّ، واسع الحيلة، لم يرتكب جريمة قط، ولكنّه ينتزع ببراعة من الدولة فقط ما لم تمنحه. أليس لمثل هؤلاء يصفق الجمهور في وقتنا؟
كم من هذه الشخصيات التي تتبنّى مبدأ "أخذ كلّ قرش!"، نصادفها في حياتنا، وسيصادفها بالتأكيد غيرنا مستقبلًا. شخصيات تهرول، وستهرول، لسحب كلّ ما هو ممكن، وكلّ ما هو ممنوع، فيقتلعون أحيانًا ما يسعون إليه من جذور ليتحولوا بسرعةٍ إلى أثرياء؟ ونتساءل ما وجه الاختلاف بين هذا الـ تشيشكوف والمسؤولين اللصوص ناهبي الدولة والشعب؟
تقول الحكمة: "لا يمكن خدمة الله والمال الشيطاني في الوقت نفسه". تشيشكوف ليس سوى مجرد عبد للمال، يسعى وراء الثروة المادية وقد أعمته عبادة النجاح، ففي النجاح قوة. هنا المركز، وهنا المال، وبالطبع هنا النساء. بالنسبة لغوغول، المقولة الفرنسية الشهيرة "chrchez la Femme/ فتش عن المرأة" مناسبة تمامًا. وهل يختلف تشيشكوف عن ملايين من الآخرين؟ هذا واحد من الأسباب التي دفع غوغول لعنونة كتابه بـ"الأرواح الميتة". تقول الكتب السماوية: ما الفائدة التي يجنيها الإنسان إذا ربح العالم وخسر روحه؟ أو بماذا يضحي الإنسان لينقذ روحه؟".




يقول المتصوف سفيدينبرغ: "فقط بين أولئك الذي ينهش قلوبهم مستوى الغيظ نفسه، والذين يكونون بالتالي موجودين في مجتمعٍ شيطاني جهنمي واحد، هنالك تشابه عام. علاوة على ذلك، تبدو الأرواح الجهنمية قبيحة فقط في عالم النور السماوي، وإن كانت تبدو في عالمها الخاص بشرًا". وها هم بلوشكين، مانيلوف، وسابوكوفيتش، لا يخرجون إلى الضوء، ويمضون حياتهم في ظلمة يرغبون أن تنسحب على الباقين، لأنّه لا جحيم إلا الموجود هنا.
هذا جانبٌ واحد فقط. فنصّ غوغول مبني على أكوانٍ متداخلة، فما هو صوفيّ هنا متشابك مع السياسيّ الذي يتحوّل إلى أسطوريٍّ وساخر، وهكذا إلى ما لا نهاية. ولهذا نرى شخصيات "الأرواح الميتة" شخصياتٍ جهنمية من جانب، ومن ناحية أُخرى هي شخصياتٌ حقيقية تتجوّل من جيلٍ إلى جيل، والآن انتقلوا من العربات التي تجرّها الخيول إلى سيارات المرسيدس والهمر المصفّحة التي تبهر أضواؤها البصر، ومن العزب الريفية إلى مكاتب فارهة في أبنية شاهقة. في "الأرواح الميتة" هنالك بطلٌ إيجابي، ولكنّه ليس الشعب، بل هي روحه نفسها الوطنية والمتدينة بطبيعتها.
كان غوغول يفهم كلّ شيءٍ، ويرى جهنم والشيطان في التفاصيل، ولهذا كان يمهد الطريق لوطنٍ جديد، ليس شيطانيًا هذه المرة، بل بلد عقلانيّ سليم. فهل جاء هذا الوطن فعلًا؟

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.