}

حقائق عن قصة "الأمير الصغير"

سمير رمان سمير رمان 1 أبريل 2024

في شهر نيسان/ أبريل، قبل 81 سنة، صدرت قصة "الأمير الصغير" للكاتب الفرنسي أنطوان دو سانت إكزوبيري، في منتصف أيام الحرب العالمية الثانية. القصة تصور أحداث منتصف القرن العشرين السياسية، وتأتي كموعظةٍ عن الحياة البشرية. وفور صدورها، حازت على شعبية هائلة في أوساط الأطفال والبالغين، على حدٍّ سواء.
في عام 1935، أرسلت صحيفة "باريس المساء" مراسلها إكزوبيري إلى موسكو. كانت الطريق تمرّ عبر بولونيا، التي اكتظت محطات القطارات فيها بعائلات عمال المناجم، ممن فقدوا عملهم بسبب الأزمة الاقتصادية في الثلاثينيات. من بين حشد المسافرين على متن القطار، لفتت نظر إكزوبيري عائلة يغط أفرادها في النوم. وعلى وجه الخصوص، استرعى انتباهه طفلٌ صغير فائق الجمال مستغرق في النوم بين والدته ووالده. فتن الكاتب بجمال الطفل، فكتب في تقريره الصحافي عن رحلته إلى الاتحاد السوفياتي: "آهٍ، يا لروعة هذا الوجه الملائكي! في أسر هؤلاء الكادحين تولد الرقة والسحر بأبهى صورها. ها هو، موزارت الصغير، وها هي آمال الحياة الرائعة، ها هو أمير صغير من الأساطير القديمة. ماذا سيكون هذا الطفل لو وجد من يحميه ويرعاه ليكبر في كنفه؟ أمّا هذا الصغير موزارت النائم فمصيره محتوم".
استعار الكاتب فضول الأمير الصغير من ابن صديقه الكندي، البروفيسور في كلية الفلسفة في جامعة لافال، الذي حلّ الكاتب ضيفًا عليه في مايو/ أيار عام 1942. كانت الأحاديث تدور في معظمها عن الحرب، الأمر الذي لم يعد إكزوبيري يطيقه. قبل الاحتلال الألماني لبلاده، شارك الكاتب في عمليات التجسس التي كانت القوات الجوية الفرنسية تقوم بها. بعد إصابته، إثر هبوط طائرته اضطراريًا، لم يعد في إمكانه ممارسة الطيران. في منزل مضيفه الكندي، كان إكزوبيري يهرب من أحاديث الحرب إلى غرفة الأطفال، حيث كان يمضي الوقت مع ابن صديقه توماس ذي السنوات الثمانية، يعلّمه صناعة الطائرات الورقية، ويثرثر عن تركيبة الكون. بعد وصوله نيويورك، جلس أكزوبيري يكتب قصته عن طيارٍ تعرض لحادث تعرّف بعدها على أميرٍ صغير راح يمطره بأسئلةً صعبة.
تبدأ أحداث القصة بهبوطٍ اضطراري تنفذه طائرة في الصحراء، وهذا في حدّ ذاته تفصيل من واقع حياة الكاتب. في الصحراء، جرى أول لقاءٍ بين الراوي والأمير الصغير. الحادث لم يكن الأول في مسيرة إكزوبيري المهنية، فقد تعرض لحوادث عديدة ناجمة في غالبيتها عن لامبالاته وسوء تقديره. تعلّم الكاتب الطيران أثناء خدمته في الجيش. وفي عام 1923، أثناء تنفيذه إحدى المهام، تعرض لحادثٍ أصابه بارتجاجٍ دماغيّ سرّح على إثره من الجيش. بعد ثلاث سنوات، عمل إكزوبيري لدى شركة طيران تنقل البريد الجوي. وقد روى الميكانيكيون الذين رافقوه في رحلاته أنّه بعد إقلاع الطائرة وتحليقها عاليًا في الجوّ، كان إكزوبيري يتناول كتابًا وينكبّ يقرأه بتركيزٍ يجعله ينسى أنّ الوضع في قمرة القيادة قد تغيّر ويحتاج إلى تدخلّ الطيار. في عام 1936، تعرّض لحادث آخر فوق الصحراء العربية شمال أفريقيا، وبقي أربعة أيام مع طاقمه من دون ماءٍ حتى وجدهم بدو رُحَّل.

أنطوان دو سانت إكزوبيري ومخطوط أصلي موقّع من قصة "الأمير الصغير" (Getty)


أثناء عمله في النقل الجوي، كانت الطائرة التي يقودها تحمل الرقم A- 612. وفي كتاب "الأمير الصغير" عرف الكوكب الذي كان يعيش عليه الأمير بالرقم B-612، وهو كوكبٌ صغير بالكاد يزيد حجمه على حجم طائرة نقل، ولا يتسع سوى لبركانين صغيرين يصل ارتفاعهما ركبة الأمير، بالإضافة إلى كرسي الأمير ووردته الحمراء. الوردة الحمراء تمثّل زوجة إكزوبيري الصحافية والرسّامة من السلفادور، التي التقاها في الأرجنتين عام 1931. كانت علاقتهما معقدة تخللتها فضائح مرتبطة بالخيانة، ولكنها أصبحت أفضل بعد أن سلكا طرقًا مختلفة. وعلى كوكب الأمير الصغير، عادت الوردة الحمراء لتتفتح من جديد. كانت الوردة بحاجةٍ ماسّة إلى رعاية واهتمام الأمير الدائمين. اضطر الأمير إلى الذهاب في رحلةٍ طويلة، وفقط عندما زار الكواكب السبعة أدرك الأمير سرّ العلاقات السعيدة: "يجب الاكتفاء فقط بالنظر إلى جمال الوردة والتمتع بشذاها. وعلى الرغم من أنّ عطر وردتي الحمراء الجميلة يعمّ الكوكب بأكمله، فإنني لم أستطع أن أجعلها سعيدة".




نباتات الباأُوباب في القصّة ترمز إلى الفاشية. الشيء الوحيد الذي يشكّل تهديدًا حقيقيًا على كوكب الأمير الصغير هو الباأُوباب، فبذورها تفسد التربة، وإن لم تقتلع نبتتها مبكرًا في الوقت المناسب، فإنّها ستنمو وتكبر لتفتّت الكوكب وتحوله إلى شظايا. لذلك، وضع الأمير لنفسه قواعد تسير حياته وفقها: "أستيقظ مبكرًا، أغتسل وأرتدي ثيابي، وبعدها أبدأ بترتيب الكوكب. أعرف كوكبًا يقطنه كسول لم ينتزع في الوقت المناسب ثلاث نبتاتٍ صغيرة فخسر كوكبه". رأى المعاصرون في الشجيرات الطفيلية الثلاث دول المحور الثلاث: ألمانيا، اليابان وإيطاليا.
عندما وصف إكزوبيري موت الأمير الصغير، فقد كان في واقع الأمر يصف موت أخيه هو. يتفق الأمير مع الأفعى كي تلدغه، ليتخلص من جسده الدنيوي، ومن ثمّ يستطيع العودة إلى كوكبه. كان راوي القصّة حاضرًا أثناء وفاة الأمير. في قصة "الطيار الحربي"، التي كتبت عام 1942، يصف إكزوبيري كيف مات أخوه الأصغر أمام ناظريه، وهو ما يزال في عمر 17 عامًا، بسبب التهاب غشاء التامور المحيط بالقلب. قبل موته مباشرة، طلب رؤية أخيه الأكبر أنطوان فقال محاولًا أن يواسيه: "لا أشعر بأيّ ألمٍ، ولكني لا أستطيع الصمود. فقط جسدي هو الذي يموت لا أكثر". وفي القصة، يقول الأمير الصغير قبل موته مباشرة: "جسدي ثقيل للغاية، لا أستطيع حمله. إنّ موتي ليس سوى تخلص من قشرةٍ بالية".
في نصّ القصّة المنشور، جاءت نهاية القصة متفائلة، فالراوي يتجاوز مأساة موت الأمير الصغير، ويجد عزاءه في ذكرياته عنه. بيد أنّ النهاية كانت أكثر كآبةٍ في مسودة القصة، ربما لأنّها كتبت تحت تأثير الانطباعات التي ولدتها الأخبار القادمة من ساحة الحرب العالمية في أوروبا. تتحدث خاتمة المسودة عن أحداثٍ شهدها الأمير على كوكبٍ آخر: "على أحد الكواكب فقد أحدهم صديقه، وعلى كوكبٍ آخر يعاني شخصٌ ما من آلام المرض، وفي كوكبٍ ثالث يخوض سكانه الحروب. كلّ هذا رآه الأمير الصغير. الليل لا يرحمه، وكذلك لا يرحمني أنا صديقه".
أهدى إكزوبيري قصة "الأمير الصغير" إلى صديقه ليونيد فيرتو: "أرجو من الأطفال أن يسامحوني لأنني أهديت هذا الكتاب لشخصٍ راشد. أرجو أن تعذروني يا أحبائي، فهذا الشخص هو أعزّ أصدقائي، ويعيش اليوم في فرنسا التي يعاني فيها البرد والجوع، ويحتاج بشدّة إلى المواساة".
على الرغم من أنّ القصّة كتبت بالفرنسية في نيويورك (بعد أن اضطر إلى الهروب من بلاده فرنسا بعد أن غزتها قوات ألمانيا النازية)، فقد صدرت قصة "الأمير الصغير" بالإنكليزية بترجمة كاثرين بودز. من ثمّ، وبعد أسبوعين من نشرها بالإنكليزية صدرت النسخة الفرنسية، ولكن بعدد نسخ رمزي لم يتجاوز 230 نسخة. أمّا في فرنسا، فلم تنشر القصِّة إلا في عام 1946.
بعد صدور قصته، عاد الكاتب إلى ساحات الحرب لينضم إلى قوات فرنسا الحرة الجوية في الجزائر. وفي عام 1944، وخلال تنفيذه مهمة تجسسية فوق مقاطعة بروفانس الفرنسية، أسقطت طائرة إكزوبيري، وقتل على الفور. وبهذا يكون الكاتب قد توفي قبل أن يتمتّع بعائد قصته التي غدت الأكثر مبيعًا في العالم بعد الإنجيل.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.