(1)
حمل اسم بلدة "حديثة" الواقعة في وادي السرحان، جنوب الأردن، وشمال المملكة العربية السعودية، التي اضطر قادة الثورة السورية إلى التوجه إليها، بعد هزيمتهم أمام جحافل قوات الاحتلال الفرنسي. ولد عام 1929 في مخيم الثوار المهزومين، ونشأ بينهم لغاية عام 1937، حيث صدر عفو سلطة الانتداب الفرنسي، فرجع كل إلى قريته، وعاد مع أسرته إلى بلدته "القريَّا"، التي شهدت أول مواجهات الفتى المتحمس مع أبرز شخصية وطنية "سلطان باشا الأطرش"، القائد العام للثورة السورية الكبرى، يوم طالبه وهو على رأس تجمع من التلاميذ بضرورة إخلاء المدرسة، التي كان يسكنها الزعيم الوطني وعائلته، بعد أن قامت قوات الانتداب بتدمير بيته وبيوت الثوار الآخرين... وثانيها مع سلطان باشا الأطرش أيضًا، يوم أبلغه أن عائلته تستحوذ على 85 في المئة من مياه بلدة "القريَّا" لتروي بساتينها، في الوقت الذي يتنازع الأهالي على مياه الشرب. استجاب الزعيم الوطني لمطلبي الفتى، فأخلى المدرسة، وبدأ بإنشاء بيت عائلي، وأمر بفتح المياه، وجمع التبرعات لسحب المياه للبيوت، واقتلاع أشجار التفاح، التي تحتاج لمياه وافرة.
درس في مدارسها، وأكمل تعليمه في مدينة السويداء، حتى أتم مرحلة التعليم الثانوي، والتحق بكلية الآداب في جامعة دمشق. انتظم في حزب البعث في بداية تأسيسه، وخاض معه نضالاته الأولى التي أوصلته إلى السجن ست مرات، في مراحل التعليم الابتدائي والإعدادي والثانوي والجامعة، إلا أن سجنه الأطول كان في زمن الوحدة السورية ـ المصرية، حيث بقي في السجن ستة أشهر، وأفرج عنه بعد الانقلاب العسكري، الذي أطاح بسلطة الوحدة يوم 28 سبتمبر/ أيلول 1961.
ناضل في صفوف الهيئات الطلابية في جامعة دمشق، وعين بعد انقلاب 8 مارس/ آذار 1963، واستيلاء الحزب على السلطة، قائدًا للحرس القومي في دمشق (1966 ـ 1970)، وانتخب عضوًا في القيادة القطرية لحزب البعث العربي الاشتراكي، وقياديًا في الجيش الشعبي.
استمر في متابعة مهماته الحزبية حتى يوم اعتقاله "قيل لي: ربع ساعة وتعود. وعندما رغبت في أخذ ضروريات الاعتقال، أقسم الضابط الذي أتى لإحضاري بأنني لست ذاهبًا الى السجن".
حنث الضابط بقسمه، وِقيد "حديثة مراد" إلى سجن المزة، ليدوم اعتقاله ثلاثًا وعشرين سنة، من 1971 حتى 1994 "لم أفقد في السجن إلا عشرين سنًا، وثلاث درجات في البصر، وقرابة نصف السمع، والقرحة والالتهاب قد سئما السجن فرحلا. والإرهاق في القلب، فقد نفسه".

حديثة مراد في سجن المزة العسكري (يوتيوب)

قضى سنواته الأخيرة بين أفراد أسرته الصغيرة، زوجته وابنه وابنته، وحاول تعويضهم عن سنوات غيابه. يراقب بصمت، ويراجع كتاباته، ويتحدث مع الزائرين المرعوبين من رقابة المخابرات عند زيارتهم له، وعن التحولات العميقة التي حصلت وتحصل في المجتمع، وأثرها على القيم الوطنية والسلوكية.

"كان اللقاء بعائلتي يجسد الصبر مع الشجاعة، المرارة مع الوفاء. أقل من أربع سنوات من الزواج، قابلها عقدان ونصف تقريبًا من الاعتقال. لقد تحملت وربت طفليها أفضل تربية، وخرجت من التجربة بإباء وكبرياء، لكن ذلك كله انطبع في داخلها، فأصبحت أعصابها مرهقة، ومزاجها صعبًا، فأمسى عليّ أن أكون الأقدر على التحمل، وأثبت ذلك بجدارة".
جنبته رؤيته الواضحة للأهداف الوطنية، والانتماء الطبقي للشعب العامل، الانزلاق إلى تقليب القواميس للبحث عن آخر معاني المقاومة، يحلق كصقر خبير، وينقض بجسارة على هدفه: ما قيمة الحديث عن المقاومة "والجبهة صامتة منذ توقيع اتفاقية فصل القوات 1974".
أعاد النظر النقدي في التجربة الحزبية، آخذًا التغيرات العميقة عالميًا وعربيًا ووطنيًا، ليصل بوعيه إلى صيغة التيار التحرري كإطار تفاعلي، بين الجماعات التقدمية واليسارية والديموقراطية، علها تهيئ الشروط الذاتية للوصول إلى مقاربات ناضجة للأهداف الوطنية الثورية وأدوات تحققها.

(2)

حديثة مراد (يوتيوب)

برزت حركة البعث العربي، كواحدة من التنظيمات التي اشتبكت في الحياة السياسية ـ الفكرية، قبل استقلال سورية ودول المشرق العربي، وعبرت عن نفسها بتأسيس الحزب في 7 نيسان/ أبريل 1947. في الحركة والحزب، أشهر أفكاره، وعزز انغماسه في الحياة السياسية بروح كفاحية عالية. وعبر عنها أعضاؤه بشجاعة في أنشطة الجامعات والمعاهد والمدارس الثانوية، بالتحريض في الشوارع، بالنقاشات في الحدائق والمقاهي، بتوزيع المنشورات والحث على التظاهرات، والمبادرات الميدانية لإنشاء التحالفات السياسية، والخوض في الانتخابات النقابية والبرلمانية، والصراعات السياسية والفكرية، مسار أوصله إلى اندماج تنظيمي مع الحزب الاشتراكي العربي الذي قاده أكرم الحوراني، ومكنه بعدها من تشكيل أوسع كتلة برلمانية متجانسة سياسيًا وفكريًا. انتزع المبادرات الطليعية في التصدي للأحلاف العسكرية البريطانية ـ الأميركية، وتنظيم المتطوعين للكفاح ضد عدوانية الميليشيات الصهيونية الإرهابية، والانغماس مع الفلاحين والمرابعين بكفاحات يومية ضد تجاوزات ملاكي الأراضي والمرابين وزبانيتهم. أعلى الحزب من أهمية التنمية الاقتصادية، والوحدة بين الدول العربية، ليكون في طليعة المتقدمين نحو إنجازها، لكن أعضاءه كانوا أبرز ضحايا الشكل المخابراتي لاحقًا، الذي تسبب في تجريد قطاعات هامة من الجماهير من أحزابها المناضلة، وخسران العشرات منهم بين قتيل، ومعطوب الجسد، ومخرب الحواس، ومئات من المهاجرين.

ليغدو بعد مرور أقل من عقدين العامل الفاعل المتفرد في تاريخ السلطة السياسية، التي وصل إليها في انقلاب عسكري تشاركي في 8 مارس/ آذار 1963، تمكن بعده في 18 يوليو/ تموز 1963 من إقصاء خصومه، والانفراد في السلطة، الذي آل إلى حصر الصراع في الجيش، بين ضباط جمعتهم القناعات الحزبية ذاتها، وفرقتهم المصالح الفردية والفئوية، واستمر الجناح المتغلب منهم بإدارتها إلى اليوم.

(3)
ميزت كتابات "حديثة مراد" بين تيار بعثي عريض يلهج بالوحدة العربية، وتحرير فلسطين، ولواء إسكندرونة، ويؤكد على أهمية العدالة الاجتماعية، وبين التنظيم الطليعي المنضبط بلوائح تنظيمية، يتثقف بأهدافه وأساليب تحقيقها، أهداف صيغت بطريقة عمومية لا يمكن الاعتراض عليها: الوحدة ـ الحرية ـ الاشتراكية، رغم احتمالية تفسيرها بعديد الطرق، التي يمكن أن تفضي إلى تشكيلات حزبية متباينة، وصراعات سياسية لا تنتهي.
حمل التنظيم الحزبي العمومية ذاتها، فأدرج بين أعضائه وأنصاره أبناء الأغنياء وملاكي الأراضي، مرورًا بالحرفيين والعمال وفقراء الفلاحين الذين بلا ملكية، وما بينهم من طلاب ثانويات وجامعات، وأساتذة وأطباء. وتنظيم عسكري ضم ضباط، وصف ضباط، وجنودًا.
تنظيم حزبي قابل للانقسام، عند أي خيار مصيري يلامس الوعي بآليات تحويل أهدافه إلى واقع عياني، والمصالح الطبقية المتباينة التي تواضع أعضاؤه عليها.
فتح تقويض الانقلاب العسكري للوحدة المصرية ـ السورية باب النقاشات الحزبية على مصراعيه، ابتداء بإدانة حل التنظيم الحزبي، الذي اتخذته قيادة الحزب، وبرزت إلى جانبها تباينات فهمه للوحدة العربية، بين صيغتها الاندماجية التي سعت السلطة الناصرية إلى تحقيقها بمشاركة قيادة الحزب (عفلق ـ الحوراني ـ البيطار)، وتراجعه بعد التجربة، والانفصال، إلى صيغة الاتحاد، ليعلي من قيمة الفروقات بين البلدان العربية.
وتبعتها الحرية التي ترعرع البعث في تربتها المستنبتة في حضن البرلمان والصحافة الحرة، وحقوق التجمع والتظاهر والإضراب، ليدفنها هو ذاته، في مقبرة قانون الطوارئ والأحكام العرفية. وختمتها الاشتراكية التي تراوحت بين التعاونية، والاشتراكية العربية، والتوجه الاشتراكي، والاشتراكية العلمية، وأفضت به إلى رأسمالية دولة استبدادية انحدرت بسرعة إلى رأسمالية طفيلية اعتاشت على تقاسم الريوع، ونهب الأموال العامة.

(4)

من مؤلفات حديثة مراد (يوتيوب)

تفعلت الحركة السياسية بعد الانقلاب الذي كرس الانفصال، بدينامية عالية، وكانت إدانة الانفصال والعودة الفورية إلى الوحدة أول مطالب القطاعات الشعبية. لكن أبرز قياديي حزب البعث، صلاح الدين البيطار، كان من الموقعين على بيان الانفصال.
عكس هذا حالة الارتباك بين الأفكار المجردة، واختباراتها في الممارسة.
في هذا الوقت، كان "حديثة مراد" في السجن، هو المنتمي إلى الحزب الذي ساهم في صنع الوحدة.
عاش التناقض بين الانقلاب الانفصالي الذي سيتيح له الحرية، وبين الوحدة التي ستبقيه في السجن لزمن مجهول.
"في 28 سبتمبر/ أيلول 1961، حدث الانفصال. هل أفرح لأنني سأخرج من السجن؟ أم أحزن لأن الوحدة قد انتهت؟ لقد تحّكم بي هذا المزيج من المشاعر. فهيئة التحقيق كانت قد أبلغتني بأنني سأظل في السجن من دون أفق مفتوح، إلا أفق واحد، وهو الإعلان بأن الوحدة لن تنهار، لأن مقومات البقاء والتجدد عميقة الجذور، ولأن النظام يجسدها تمامًا. ومعنى هذا هو أن انهيار نظام الحكم هو وحده الأمل. إلا أن هذا الانهيار هو في الوقت ذاته انهيار الوحدة، هكذا صيغت المعادلة منذ البداية، وحدة مفصلة على هذا النظام، أو لا وحدة".
"في أبريل/ نيسان 1961، طلب إلينا أن نشتم قيادة البعث، رغم أنها الأساسية في صنع الوحدة، وأن نعلن انسحابنا من البعث، رغم أن تنظيم الحزب محلول بقرار خاطئ من قيادته. أما بعد الانفصال، وبالتحديد في أكتوبر/ تشرين الأول 1961، فقد رفضت تأييد الانفصال. وقلت: عندما دخلت السجن إنما دخلته إيمانًا مني بوجوب تصحيح الأخطاء، والإبقاء على الوحدة، والآن إنني أفضل أن أموت في السجن في ظل الوحدة، وألا أخرج إلى النور في ظل الانفصال. والمفارقة أنني لم أعذب، ولم أجبر على التأييد، وبعد أيام معدودة تكثفت الضغوط على القيادة العسكرية، فخرجت من السجن. فأي من شكلي التعامل هو الأجدر بنظام الوحدة، وبالنظام النقيض؟".

وجدت الجماعات البعثية المبعثرة نفسها تحت ضغط الانطلاق لإنجاز مهام سياسية تاريخية، في الوقت التي كانت بلا تنظيم، وبلا تصور واضح وموحد عن الهدف السياسي.
من هنا، كان المدخل الحتمي للتدخل المباشر للمجموعات العسكرية المنظمة، لحسم الصراعات التي بدأت تتفاعل داخل الجيش، وبدأت تتلاقى وتنسق في ما بينها للإعداد لانقلاب عسكري جديد يعلن تمسكه بالوحدة، والعمل على استعادتها.
وقع الحزب بتناقض جديد أضيف إلى سجل تناقضاته الخالدة، وقد أخذ بعد الانقلاب شكلًا أكثر وضوحًا، تمظهر بخلاف تنظيمي، لكنه عبر عن حقيقة موازين القوة الجديد داخل الحزب الذي بدأ يستعيد عافيته ويعيد تشكيل هيئاته: خروج التنظيم الحزبي العسكري عن سيطرة القيادة الحزبية المدنية.
أحبط ضباطه محاولة انقلابية أعدت على عجل، وعملوا على إعادة تقييم ولاء ضباط الجيش، التي كانت استهلالًا لتسريح المئات منهم، ليعود جناح منهم وينقلب في 23 فبراير/ شباط 1966 على الجناح المهيمن على السلطة. وجد نفسه أمام تحدي عدوان صهيوني أعقد وأكبر من استسهال انقلابات الرفاق على بعضهم، والتراشق بتهم العمالة والخيانة والتآمر. تسبب العدوان في هزيمة عسكرية مروعة لجماعة سياسية كان الجيش هو أداة حكمها وأساسه. فتحت الهزيمة أبواب السجالات السياسية والفكرية، وتقييم دور الجيش وقيادته، وتحميل المسؤوليات عنها، وإنتاج الخطط لتجاوزها.
أدت الاستقطابات والصراعات داخل الحزب إلى تمييع التحقيق بمجريات هزيمة يونيو/ حزيران 1967، في غمرة النقاشات والندوات عن التطبيق الاشتراكي، وتثوير الجماهير العربية، وحرب التحرير الشعبية. في حين عجز الحزب عن تنفيذ قرار إقالة وزير الدفاع. كافح هذا الجناح بكل الوسائل ليطمس الوقائع ويتجاهلها، ليؤكد على حقيقة علمية تاريخية: لا يمكن إنجاز مهام ثورية بوعي وأدوات غير ثوريين.
ختم مسار الصراع بانتزاع جناح عسكري للمبادرة، وأنجز انقلاب 16 نوفمبر/ تشرين الثاني عام 1970.
لن تجدي معها التأملات والنتائج الساكنة التي بدأ يكتبها "حديثة مراد" على طاولة صنعها من صناديق خشبية في زنزانته.
ـ تبلور نواة طبقة جديدة في صفوف الجيش وأجهزة السلطة، وإن كانت محدودة التأثير وخجولة وتحت المراقبة.
ــ بروز خط سياسي يستجيب للنمو الطبقي الجديد، وينسجم معه.
ـ تعززت الجرأة على مخالفة قرارات الحزب وبرنامجه، بعد فشله في محاسبة المسؤولين عن هزيمة حزيران 1967.
ـ فشل القطع بين الولاء الطائفي، والولاء السياسي.
غفا "حديثة مراد" غفوته الأخيرة في 23 آب/ أغسطس 2018، بجانب غفوة "سالم" في "جبال الصوان"، ينتظران معًا تفتح زهر اللوز في نيسان.

حلب
يونيو/ حزيران 2022.