}

كارولا نيهر.. الفنانة الألمانية التي استجارت من النازية بالستالينية

سمير رمان سمير رمان 9 يوليه 2022
استعادات كارولا نيهر.. الفنانة الألمانية التي استجارت من النازية بالستالينية
كارولا نيهر في برلين (1930/ Getty)

ولدت الفنانة الألمانية كارولا نيهر/ Carola Neher في الثالث من شهر نوفمبر/ تشرين الثاني عام 1900 في مدينة ميونيخ الألمانية، ولم يأت عام 1920 حتى أصبحت واحدة من ألمع الفنانات في مقاطعة فايمر الألمانية.
في عام 1922، لعبت كارولا الدور الرئيس في فيلم "أسرار محل الحلاقة/ THE MYSTERIES OF A HAIRDRESSER'S SHOP"، والذي كان اختراقًا خطيرًا في عالم السينما، ليصفها كثيرون وقتئذٍ بأنها عاصفة حقيقية في السينما، لتصبح واحدة من أشهر الفنانين في أوساط الناطقين بالألمانية، وممثلةً لامعةً في عصرها.
سيرة كارولا مهمّة، لأنّها حكاية ولع فنانة بالفكر اليساري، وبالمسرح اليساري، وبالتعاون مع بريشت، الأمر الذي قادها إلى الاتحاد السوفييتي، لتصبح هي وزوجها وابنهما ضحايا هيئة إدارة معسكرات الاعتقال سيئة الصيت (غولاغ).
قالت أنّا أخماتوفا: "تبيّن أن خيارات كارول كانت كالمستجير من الرمضاء بالنار". أجل إنّها قصة درامية لفنان اتخذ خياره، ومات ضحيته.
كانت نيهر نموذجًا للمرأة العصرية. أخذت دروسًا في الملاكمة، وقادت السيارة، وحلّقت بالطائرة. ونظرًا لموقعها المميز في عالم الفنّ، فقد كتب لها برتولد بريشت دور بولين في أوبرا من ثلاثة فصول.




في عام 1924، تعرّفت نيهر إلى الشاعر والدراميّ ألفريدو غينشك، ولكن زواجهما لم يدم طويلًا، إذ توفي الزوج فجأة عام 1928. وفي عام 1932، تزوجت كارولا للمرة الثانية من الشيوعي الروماني أناتولي بيكر. وككثير من مثقفي زمنها، رأت كارولا في الاتحاد السوفييتي وطنها الثاني، فهرب الزوجان إلى موسكو عام 1934 بعد اشتداد بطش النازية.
لم تتحقق الآمال التي علقتها الفنانة على الاتحاد السوفييتي، فقد اعتقل زوجها أولًا عام 1936، ومن ثمّ ألقي القبض عليها أيضًا من قبل قوات الأمن الداخلي. أعدم بيكر رميًا بالرصاص بتهمة المشاركة في محاولة اغتيال ستالين، فيما حكم على كارولا بالسجن عشر سنوات.
في عام 1942، ماتت المرأة التي ألهمت حياتها يومًا ما المخرج بريشت، بمرض الحمّى المعوية في سجن مدينةٍ نائية في مقاطعة أورنبرغ، الذي تحول اليوم إلى سجنٍ معروف بـ"الدلفين الأسود"، يُرمى فيه المحكومون مدى الحياة.
ترعرع ابن كارولا في الاتحاد السوفييتي من دون أن يعرف أيّ شيءٍ عن مصير أبويه. بعد عقود، تمكن الابن من المغادرة إلى ألمانيا الاتحادية، ومن ثمّ عاد إلى الاتحاد السوفييتي ليبحث في أرشيف الاستخبارات الروسية "كي. جي. بي" عن مصير والديه.

المهجر الألماني
يقول رودريغ بولتس، مدير معهد غوته، إنّ كارولا كانت نجمة مسرحية لامعة بلا شك، ولكن كثيرين يعرفونها فقط من خلال حياتها بعد الثلاثينيات. في العشرينيات لمعت في ألمانيا، ولاقت نجاحًا منقطع النظير في أوساط المخرجين، ولدى الجمهور، على حدٍّ سواء.




مصير كارولا هو مصير كثير من المهاجرين الألمان، الذين اضطروا إلى ترك بلادهم. فقبل أكثر من ثمانين عامًا، اعتقل الملايين وأعدموا، ووصلت الأمور إلى درجة مات معها قرابة 80% من الألمان في المهجر (في الاتحاد السوفييتي غالبًا).
كان برتولد بريشت مهجّرًا أيضًا، ولكن في سويسرا، فكتب بعد أن علم باعتقال كارولا رسالة إلى الكاتب الألماني، ليون فويخ فانغر، المتوجه إلى الاتحاد السوفييتي، يرجوه فيها السعي لدى ستالين لمساعدة كارولا، لكن الردّ كان مخيبًا للآمال: "أنا سعيد للغاية بالفعل أنّك قررت أخيرًا أن تكتب لي. أثناء تواجدي في الاتحاد السوفييتي، كانت نيهر مسجونة هناك، وتبيّن أنّها شاركت في مؤامرة زوجها القذرة. لا أعرف التفاصيل... لقد أنهيت للتو كتابًا صغيرًا حول موسكو، وقد كتبته بحيث يفهمه البروفيسور والطبّاخ. يقتلني الفضول لمعرفة رأيك في الكتاب".
عند النظر في إمعان إلى هذا القدر القاتم، نفهم معنى أن تصبح ضحية، كما ندرك ضرورة فضح أولئك المسؤولين عن هذه الفظائع على الملأ. ليس من يرتكب الجريمة هو المجرم وحده، بل يمكن أن يصبح أيٌّ منّا مجرمًا عندما يتنصّل من تقديم المساعدة عندما يكون في إمكانه فعل ذلك. لقد كانت نيهر مشهورة، ولديها معارف من أصحاب النفوذ، ولكنّ أحدًا منهم لم يبادر إلى مدّ يد العون لها. قد يكون من المستحيل أحيانًا تقديم العون، غير أنّ رفع الصوت ممكنٌ، وهو أمرٌ كان هامًّا أثناء وجودها في السجن. حاولت كارولا أن تشرح لابنها غيورغ الوضع، ولكن رسائلها كانت تضلّ طريقها إلى الصغير. كتب ذات يومٍ رسالةً إلى إدارة بيت رعاية الأطفال، حيث يعيش ابنها، جاء فيها:
تحية إلى بيت رعاية الأطفال،
أنا الموقعة أدناه، والدة الطفل بيكر المولود في موسكو عام 1934، والذي يتواجد لديكم في بيت رعاية الأطفال. بما أنني في السجن منذ قرابة العام والنصف العام، وحيث أنّني لا أعرف عن ابني شيئًا، أرجوكم أن تجيبوا عن أسئلتي التالية:
كيف ينمو ابني جسديًا وعقليًا؟ كيف هي أحواله الصحية، وكم بلغ طوله ووزنه؟ هل تعلّم القراءة والكتابة؟ أنتم تتفهمون أنني أتطلع إلى اليوم الذي أستطيع فيه مراسلته مباشرة. وأتساءل إن كان يعرف عن أمّه عمومًا؟ وإن كان يرسم؟ أرجوكم أرسلوا لي بعضًا من رسوماته!
التوقيع كارولا نيهر
1/3/ 1941.
لم تتلقّ الأم إجابة أبدًا.

أيام المعتقل
كانت كارولا المرأة الوحيدة ضمن 28 مهاجرًا وقعوا رسالة احتجاجٍ ضدّ أول خطوة احتلال أقدمت عليها النازية لمنطقة السار الفرنسية، فحرمت على الفور من جنسيتها الألمانية. وهكذا، وجدت نفسها في الاتحاد السوفييتي في قبضة الديكتاتورية الستالينية.




في موسكو، وعندما بدأت أول قضية ضدّ ما سمّي "محور تروتسكي ـ زينوفسكي المعادي للسوفييت"، اعتقلت نيهر وزوجها، مع الحلقة المحيطة بهما. أعدم جميع الرجال، في حين حُكِم على كارولا بالسجن لمدة عشر سنوات. ونتيجة إصابتها بمرض التيفوس، توفيت في ظروف مرعبة في هذا السجن الرهيب.
بعد مرور سنواتٍ على خروجها من السجن، روت زميلتها في الزنزانة لابن كارولا، غيورغ بيكر:
كنّا نستلقي معًا في الصف نفسه. الجميع كان مريضًا بالتيفوس، بلا ماء، بلا صابون، ومن دون أيّ شكلٍ من أشكال النظافة. اشتدت وطأة المرض على كارولا، وارتفعت حرارتها فوق الأربعين، ولم تعد تقوى على النهوض. في اليوم التالي، نقلت إلى ما يسمّى الحجر الصحي، ثمّ جاءت امرأة روسية ونقلت لنا أنّ كارولا تحتضر، وتتمنى لنا حياةً طويلة.
غاب ذكر كارولا لسنوات طويلة. أمّا ابنها فلم يكن قد بلغ وقت اعتقالها السنة ونصف السنة من عمره بعد. نشأ في بيت رعاية الأطفال، ولم يعرف شيئًا عن والديه إلا بعد مرور عقودٍ من الزمن.

بريشت
على الرغم من الإهمال، فإنّ ذكرى كارولا نيهر حفظتها أبيات شعرٍ للألماني برتولد بريشت:
عندما علّمتك قبل سنوات
كيف تغسلين وجهك في الصباح
بالماء وقطع الجليد في كأس من الزجاج،
تغمرين وجهك في الكأس،
وتفتحين عينيك، وتجففين وجهك
وأنت تقرأين قصاصات ثبّتت على الجدار،
فيها أسطر من دورك الصعب،
عندها قلت: أنت تفعلين هذا لنفسك،
فكوني مثالًا يحتذى.
والآن أسمع أنك رميت في السجن.
رسائلي التي كتبتها دفاعًا عنك،
بقيت من دون جواب.
والأصدقاء الذين سألتهم عنك
يلوذون بالصمت، وأنا لا حيلة في يدي.
ما الذي ينتظرك في الغد؟ هل ستفعلين لنفسك شيئًا ما
من دون أن تفقدي الأمل،
وهل ستتحركين يومًا برشاقة مثالية كما كنت تفعلين دائمًا؟

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.