}

فيلم "المروج البيضاء" الإيراني.. مرثية بصرية مؤلمة لغياب الاخضرار

عزيز تبسي 21 أغسطس 2022
استعادات فيلم "المروج البيضاء" الإيراني.. مرثية بصرية مؤلمة لغياب الاخضرار
لقطة من فيلم "المروج البيضاء"

(1)
تنتقل المخيلة بذكر اسمها إلى اللون الأخضر بتدرجاته البهية الآسرة. وما اقترانها باللون الأبيض إلا إحالة إلى المصير الذي آلت إليه.
نراها وقد أمست جزرًا صخرية، غابت عنها ملامح الحياة. وندخل عوالمها مع جولات جامع الدموع (رحمات)، لنلتقي بجماعات بشرية منكسرة عزز عزلتها ماء مالح يزداد ملوحة مع مرور الزمن، وفق شهادة امرأة عجوز عبرت في فيلم "المروج البيضاء" الإيراني (2009).
يبدأ الفيلم بمشهد تنظيف أدوات جمع الدموع، مشهد يتكرر في جميع محطات الفيلم، كأنه اختبار لأدوات السلطة، وإعلان جهوزيتها لإنجاز أعمالها.
ينتقل بعده (رحمات) إلى إحدى الجزر لحمل دموع أهلها، التي سيذرفونها على جثة شابة لا عائلة لها سوى أمها، وصفها جميع الرجال الذين التقاهم بفائقة الجمال، يطلبون منه نقلها لدفنها في جزيرة أخرى لخلو الجزيرة من مقبرة "لو كان عندنا مقبرة، لقام الشباب بنبش قبرها ليلًا"، وفق تعبير القوّال وعازف الطنبور.
تهيأوا للانتقام من جمال ميت تجرأ يومًا على التبختر أمام عيونهم. إذ لا ينسى المستبدون العقاب، بل يؤجلونه، لعجز قباحتهم عن مواجهته، فعدوانيتهم لا تشبع من قتله والشماتة في موته، بل يستعدون للانتقام من جثته "من الجيد أنها ماتت، الرجال شعروا بالإذلال منها".
يعبر الفيلم عن فشل المهمة المؤسطرة، بتفريغ الألم الإنساني المتحول إلى دموع، وإيهامهم بإيصالها إلى من سينتزعون أسباب الحزن، إذ لا يكف الناس عن البكاء، كما لا يتوقف (رحمات) عن جمع دموعهم، كأنهم أسرى دائرة شريرة لا يمكن التحرر منها إلا بتحطيمها.
تحفز (رحمات) بعد ابتعاد القارب عن الشاطئ، وكشف عن وجه الفتاة لرؤية جمالها الذي سمع عنه.




وإذ به يرى شابًا حيًا، استبدل شابان جثتها بالشاب "نسيم"، الذي ساعدهما على إخفاء جثتها، مقابل خروجه من الجزيرة للبحث عن أبيه راعي الأغنام، الأب الذي غادر الجزيرة حين كان نسيم طفلاَ.
حمل تسلل "نسيم" إلى السرد المؤسطر رغبة تفكيك الأسطورة من داخلها، بكشف حيلها وخداعها.


(2)
نشأت الأمة الإيرانية، كعديد الأمم المستعمرات، في جوف اتفاقات إمبريالية هندست الجغرافيا، وتجاهلت من يعيشون فوقها، وتكونت من شعوب عدة متمايزة عرقيًا ولغوياَ (الفرس، والأذريون، والعرب، والأكراد، والطاجيك، والتركمان، والأرمن، والبلوش..)، واستولدت داخل غرفة جراحة قيصرية، ولقنت أبجديات الحداثة على يد قابلة استعمارية، لتتأذى في الحرب العالمية الثانية من احتلالين سوفييتي وبريطاني، ومن ثورة بيضاء قام بها الشاه، وأفضت بعد أقل من عقدين إلى ثورة شعبية سرعان ما تحولت إلى ثورة مضادة، وأجهزت على الآلاف ممن شاركوا فيها بالقتل في الشوارع، والإعدامات في الأقبية، والطرد إلى المنافي، أعقبتها حرب مع العراق أزهقت أرواح ملايين الشباب، ليجد الشعب نفسه في زمن السلم، أو الهدنة، في زنازين سلطة سياسية تتحجب بالدين، وتحاصرها عولمة إمبريالية توسعية عاجزة عن التحكم فيها، وصد حتمية مساراتها.

محمد رسولوف في مهرجان سان سيباستيان (19/9/2009/فرانس برس)


السيناريست محمد رسولوف من مواليد مدينة شيراز 1972، أي من الجيل الذي نشأ وتفتح وعيه في الشروط التي هيمنت على المجتمع الإيراني، بعد استحواذ آية الله الخميني، والحزب الجمهوري الإسلامي، على السلطة.
لا يحتاج فهم وتفسير الأنظمة الاستبدادية إلى الاستعانة بالأساطير، لهذا عزم الكاتب جعفر بناهي، وكاتب السيناريو والمخرج محمد رسولوف، على منازلة السلطة المدججة بالأساطير والخرافات بحكايات بسيطة حبرّت بآلام الناس وعذاباتهم وحيواتهم المدمرة، فمن العبث مواجهة السلطة التي تؤسطر ذاتها بأساطير مضادة، وبوابة مواجهتها تبدأ بنزع الأسطرة عنها، وإظهار زيفها وتفاهتها.
تحدث (رحمات) عن عمله إلى نسيم "أجمع دموع الناس منذ ثلاثين عامًا (ربما مصادفة أن جمع الدموع يتوافق مع زمن حكم الحزب الجمهوري الإسلامي (1979 ـ 2009)، زمن إنتاج الفيلم)، لكن في كل مرة أبدأ فيها الطقوس، وأجلس مع شخص يحمل حزنًا ودموعًا، أشعر وكأنها أول مرة لي". ويختم عبارته بجملة تكثف الخداع "علينا احترام الدموع".


(3)
قسم الفيلم إلى محطات، انتقل إليها (رحمات) جامع الدموع، الذي يقوم بوظيفته بحيادية محترف مهنة يتكسب منها، لا يظهر أي انفعال مع ما يراه، متخذًا دور الشاهد المندمج في عمله، مستسهلًا التضحية بالناس للوصول إلى تصورات ميتافيزيقية عن خلاص خادع.
لكن هذا لم يمنعه من المساومة في لحظة مصيرية، عندما أدار القارب ليعيد الشاب (نسيم) إلى جزيرته "إذا حاولت إرجاعي سيعلم الجميع أنك حاولت النظر إلى جسد الميتة"، ولا الشروع في القتل لحظة يرميه بالبحر، ثم يستجيب لتوسلاته، وبأنه لا يعرف السباحة، فيعيده إلى القارب.





استجوب (نسيم) وهو مهزوم، مبلل يلهث من آثار المياه التي دخلت رئتيه، وهي اللحظة المواتية لأهل السلطة من الجلادين والمحققين لانتزاع الاعترافات من سجنائهم. يعرف منه اسم والده، الذي لم يتعرف إليه في جولاته بين الجزر. يأمره بعدها بأن يبقى صامتًا؛ أنت بعد اليوم أصمُّ أبكمُ، ليشعر الناس الذين سنلتقيهم بالأمان ويستمروا في الكلام. يقدمه لأهالي الجزر كابن. إشارة للزيف الذي بنيت عليه العلاقة بين السلطة ومحكوميها.
يسأله نسيم وهما يعبران إلى إحدى الجزر: "أحقًا في استطاعتك تحويل الدموع إلى لؤلؤ؟". لا يجيبه (رحمات)، لا للحفاظ على أسرار المهنة، كما يتوهم الفتى، بل للتفاهة التي تؤول إليها الدموع: اللا شيء. لربما هذا ما دفع نسيم إلى سرقة قسم من الدموع، ووضعها في آنية تخصه، لاختبار تحولاتها، إذ ليس من السهولة التحرر من الأسطورة التي تقدمها السلطة عن نفسها.
التقيا في الجزيرة التالية شابًا أعمى يجثو على رمل الشاطئ ويجمع طيورًا ميتة "أمست الحياة شديدة الملوحة، عندما تغطس الطيور برأسها يصيبها العمى، وتموت جوعًا".
في هذه الجزيرة، يكلف العريس الشاب "خوجسته" حمل أمنيات سكان الجزيرة التي أفرغوها في أوان زجاجية، لنقلها إلى جنية تسكن أحد الآبار، بشرط أن يسلمها الأمانة ويصعد قبل بزوغ الفجر. وحينما يتأخر يقطعون الحبل الذي يرفعه، فيسقط ليموت في البئر مع أسراره.
نلتقي في الجزيرة التالية بشابة أراد أهلها تزويجها بعجوز...لا يكترث أحد بنداءاتها وتوسلاتها "لا أريد أن أكون عروسًا". توضع على محمل خشبي يقوده عراف بعيدًا عن الشاطئ، ويتركها لمصيرها "تهانينا.. البحر عريس جيد".
يعود العراف إلى الشاطئ ويبلغ والد العروس أنه رأى ابن رحمات يتعقب الفتاة في البحر. هذا يعني أن نسيم يعرف السباحة، على عكس ما ادعى حين رماه رحمات في البحر. رحمات يعلم ذلك، لكنه خشي من عودة نسيم إلى الجزيرة وإبلاغ أهلها بكشفه لجسد الشابة الميتة.
يقبض على الشاب نسيم، ويوثق بالحبال إلى عمود خشبي لتنفيذ عقوبة الرجم.
يقترب منه (رحمات) ويهمس له "دعني أتدبر الأمر، ويرمي أول الحجرات، ويعقبه الرجامون. يلتقط الأب الافتراضي استغاثات نسيم "لا تضربوني"، ويعدها معجزة إلهية فكت عقدة لسان الأبكم، وأن الله قد غفر له، وعلينا الغفران كذلك.
يحمله إلى القارب ويغادران الجزيرة. لنرى بعدها أن فعلته الإنقاذية لم يكن سببها محبة الأب الافتراضي، وإنما للحفاظ على صورته المؤسطرة أمام أهالي الجزر التي يزورها. ولهذا يأبى تطبيبه، ويتركه ممددًا في القارب، ويمضي لمعاينة الرسام المدفون في الرمل الذي أمر الشيخ بعقابه لأنه يرى البحر أحمر. يكلف أخويه بتنفيذ العقوبة بأخيهما، وإقناعه بتغيير أقواله، لتفويت ما ينتظره من عقوبات، ليصل قرار الشيخ بعد محاولات لثنيه عن قول ما يراه، بإخراجه من الجزيرة، لأن مرضه معد.
عمل المخرج على تغييب السلطة بحضور ظاهر يدل عليها سياسي ـ أيديولوجي (مشايخ ـ قضاة ـ أعضاء الحزب الجمهوري الإسلامي)، أو أجهزتها القمعية (شرطة ـ رجال أمن ـ جيش)، إلا أن طغيانها يهمين على الفيلم من أول مشهد إلى الخاتمة، بالحضور المرعب المسموم لرحمات، بوجهه القاسي الخالي من التعابير والانفعالات، بصوت تنفسه المخنوق بأكاذيبه وخداعه، بقلة كلامه ونظراته الذئبية التي تجوس في الأمكنة والوجوه.
يسكن الجزيرة الأخيرة رجل واحد كأنما احتجز فيها على غير إرادته. ما إن يرى الزورق حتى يحمل حقيبته، وينزل من محرسه المشيد في أعالي تل صخري.





يبلغه رحمات، فور لقائهما، أنه حمل له سجينين، وأنه سيغادر فور استلامهما، لكن الرجل يرجوه البقاء معه، لأن عنده أحاديثَ يريد إبلاغه بها، ويعاتبه أنه طالما حنث بوعده بجلب عروس له. يلبي رحمات طلبه، ويمضيان إلى المحرس بعد تقييد السجينين بالسلاسل الحديدية.
تمر إشارات من حياة الحارس التي يرويها تدل أنه والد نسيم راعي الأغنام، الذي هرب من جزيرته بحثًا عن عالم مختلف، إذ به يحبس في أرض ليست إلا أهوارًا مالحة، وأنه اشتاق إلى قطيع أغنامه، وإلى المياه العذبة، واللون الأخضر. وينهي أمانيه ببكاء أشبه بالعويل، فتزف لحظة عمل رحمات ، الذي كان يسمع بوح الرجل بحيادية لازمته طيلة الفيلم. حمل رحمات أدواته لأخذ دموعه، ليكرس احترامه الزائف للدموع، متجاهلًا الأسباب التي تدفع الناس إلى البكاء، معبرًا عن جلافة قوة تنفيذية بلا قلب ولا روح.
يغادران المحرس مع الفجر. يتفقد الحارس السجينين، ويبلغ الحارس أن الشاب ميت، فيحمله أبواه الافتراضي والحقيقي، كأنهما أدوات عمياء لقوة لا مرئية، فوق طوف خشبي، ليغرقه بعدها والده الحقيقي في بحر أظهرته جذوع الشجر التي تشير إلى مواقع الجثث، كمقبرة جماعية، في حين يجلس والده الافتراضي يدخن غليونه بلا مبالاة، كأنه أتم مهمته بدفع الأب إلى قتل ابنه ودفنه.
تحول الأب الذي فر من جزيرته وأغنامه بحثًا عن عالم أفضل إلى سجين وسجان وحفار قبور، ومروض للسجناء المخالفين. ضاعت حياته في انتظار جنين الحمل الكاذب بالثورة.
يزور رحمات أخيرًا على دراجة هوائية، إيذانًا بالتحول من عالم الزورق والبحر المالح إلى اليابسة التي حوت القليل من الخضرة، ليلتقي عجوزًا تقوده زوجته الشابة على كرسي، هي ذاتها الفتاة التي ضحي بها بتزويجها من البحر. يمسح جراح قدميه المتورمتين، ثم يريق زجاجة الدموع عليهما، وبعد مغادرة العجوز وزوجته، يعيد الدموع إلى الزجاجة، ليظهر في المشهد الختامي راكعًا أمام البحر، يخرج زجاجة الدموع ويفرغها في المياه، تعبيرًا عن اكتشافه المتأخر عدم قيمة الدموع، وعبثية خرافتها. هو مشهد تسووي لا لزوم له، إذ لا تنتقد الأنظمة الاستبدادية ذاتها، ولا تقبل مراجعة أخطائها، ولا تطلب الصفح عن جرائمها، فكيف سيكون الحال مع استبداد يرى ذاته ظل الله على الأرض.
قدم صناع الفيلم مرثية شعرية ـ بصرية مؤلمة عن غياب الاخضرار والمياه الحلوة عن مروج استُبدلت بمياه مالحة، وبياض صخور ملحية عقيمة.
بسرد بصري نزع الحُجُبَ عن الواقع، وبالتركيز على الألم الإنساني العميق، بإحلال الصورة مكان الكلام، والعين مكان الأذن، تجنبوا السقوط في عاطفية أخلاقية، بما تضمره من سطحيات الوعظ الأجوف. اكتملت المشهدية المروعة بموسيقى محمد رضا درويشي، الذي أبدع موسيقى مزجت بين الغناء الشعبي والأصوات المفردة، والموسيقى التعبيرية الحديثة.
نشاهد الفيلم ونكتب عنه، في الوقت الذي رمي فيه كاتب قصته، المخرج جعفر بناهي، وكاتب السيناريو ومخرجه، محمد رسولوف، في جوف أقبية الحرس الثوري، ليتابعا ما تبقى من حياتيهما في العتمة، أو في إحدى المروج البيضاء. هنا، نذكر بآلاف طلبة الجامعات والفنانين والمثقفين الذين لخيبتهم استكثر عليهم الاستبداد العربي: المروج البيضاء.


(حلب، تموز/ يوليو 2022).

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.