}

عن سرديات الرائحة وحاسة الشم.. منذ أفلاطون إلى يومنا

باسم سليمان 1 سبتمبر 2022

قد يكون تاريخ الرائحة صراعًا ما بين حاسة الشّم من جهة، والعين والسمع من جهة أخرى، وذلك من خلال تجلّيهما السوسيولوجي، حيث يرتبط الشّم بالجسد، والسمع والبصر بالعقل. لقد عدّ أفلاطون السمع والبصر الحاستين الشريفتين، فالموسيقى متعلّقة بالسمع، والهندسة مرتبطة بالبصر، وكلاهما من نتاج العقل. تعود إلى أفلاطون قوننة هذه الأفضلية للحواس، دافعًا بحاسة الشّم إلى أسفل الترتيب، معتبرًا إياها ممثلة للجسد سجّان الروح التائقة إلى عالم المُثل، ومهاجمًا الرائحة، إذ عدّها أحد أسباب التلاعب بالعواطف والقرارات العقلية، مستندًا إلى أنّ العاهرات هنّ من يتعطّرن، لذلك على الإنسان الفاضل أن يهتم بالحواس الشريفة التي تغني عقله ويعفّ عن تلك التي تثير الانفعالات والعاطفة والتي تشوش الصفاء العقلي. هذه الفكرة عن دور الرائحة عاطفيًّا صحيحة نسبيًّا من وجهة نظر العلم(1) وقد أشار إلى ذلك ألدوس هسكلي، بأنّ الروائح سيكون لها في المستقبل الديستوبي للإنسان دور في التحكّم في عواطف الكائنات البشرية وسلوكياتها(2). لا ريب أنّ أفلاطون لم يجد حلًّا للاستعصاء المفاهيمي لحاسة الشّم/ الرائحة، فهي ذات طبيعة كيميائية تحليلية، ومنحى فرداني حميمي وغامض، أسواء صدرت من جسد الإنسان، أو غيره من الكائنات والموجودات.
يقيم كل من ماكس هوركهايمر وتيودورأودورنو تفريقًا بين الرؤية والشّم، ففي الأولى يبقى المرء نفسه، وفي الثانية فإنّه يتحلّل. وأكثر من عّبر عن هذا التحليل كان باتريك زوسكند في روايته العطر! هل هذه النقطة هي ما أرعبت صاحب المُثل؟ فرأى في الرائحة ما يجعلها تنبؤ عن الأمثلة التي يسمح بها كل من السمع والبصر، لذلك استبعدها. لم يتخلّف الفلاسفة عن تبنّي تلك النظرة من بعده، فقد أهملوا حاسة الشّم وإن ذكروها، فكان ذلك للإدانة فقط، كما فعل كانط.
إنّ الرائحة لم تكن كما نعرفها اليوم، فقد كانت في شقّها الأكبر معبّرة عن النتانة ومسبّبة للأمراض، أكانت صادرة عن الكائن البشري، أو غيره من الكائنات والموجودات، فكان لا بدّ من مجابهة هذا الأمر بشقّها المتبقي عبر التطهّر الجسدي وذلك بإلغائها، أو بإخفائها عبر استخدام العطور الثمينة والبخور في المعابد والطقوس الدينية. لقد لعبت النظافة وأدواتها دورًا مهمًا في تاريخ الرائحة، إلى جانب صناعة العطور التي تجاوزت منذ اللحظة التي استخلص فيه ابن سينا روائح الزهور، تاريخها المرتبط بالروائح المنتجة من الحيوانات، كالمسك وطيب الزبّاد والعنبر، والتي كان يعتقد أنّها تحيل إلى الرغبة الجنسية وما يتعلّق بها من محظورات وسرّية، فليس غريبًا أن نجد إميل زولا ينخرط في ربط العطور الحيوانية بالرغبة الجنسية: "لقد أسلمت نفسها للملذّات المحرّمة مستعينة بذلك بقطعة من المسك"؛ هكذا أدّت النظافة والروائح المنتجة من الزهور والنباتات إلى تبديل النظرة نحو الرائحة.
هذا المنحى التصاعدي الإيجابي في فهم الرائحة دُعم بشكل جذري، عندما فكّ الارتباط بين الروائح البشعة والأمراض، التي كان منشؤها نظرية الكيوف الطبيعية، والتي طوّرها أرسطو حيث كانت ترى في اعتدال المناخ وطيب الهواء من أسباب الصحة، وعلى العكس من ذلك كانت ترى في تطرّف المناخ وسوء الهواء أحد المسبّبات المهمة للأمراض. ولأجل أن نفهم هذه المفارقة لنتذكر بأنّ الملاريا تعني الهواء الفاسد. كان المذهب التجريبي الإنكليزي في العلم مساعدًا في إعادة النظر إلى أهمية حاسة الشّم، وخاصة مع الكشوف الطبية حيث حُلّ الارتباط النظري المحتوم ما بين الرائحة البشعة والأمراض والجراثيم عام 1880.





لم تبدأ بشائر إعادة الاعتبار للرائحة إلّا مع التنوير الأوروبي، حيث بدأت الأصوات تنادي بأهمية العواطف والحدس في المعرفة، كما فعل روسو وغوتة، وانضمّ إلى هذا الحلف الرومنسيون الذين شنّوا حملة شعواء على العقل وحواسه الشريفة؛ السمع والبصر، مؤكّدين من جديد على أهمية الجسد وشواغله من لمس، وشمّ، وذائقة. لم يبتعد التحليل النفسي في بداياته عن النظرة التحقيرية للرائحة، فقد ربطها بالدوافع الدنيا للإنسان من ناحية، ومن ناحية أخرى استند التعليل الفرويدي(3) على الداروينية بأنّ تراجع دور حاسة الشّم يعود إلى انتصاب الكائن البشري، حيث سادت حاستي السمع والبصر على غيرها من الحواس، بموجب الشكل الرأسي الذي أخذه الإنسان، مخلفًا وراءه عالم الكائنات الأفقية التي تدب على أربع، فالرائحة إرث بغيض قد ورثناه من أسلافنا الحيوانات.
تدخّلت الديانات السماوية في تاريخ الرائحة، ودعت إلى الطهارة الجسدية التي تزيل روائح الجسد مع ضبط استخدام الرائحة الجندري، فقد سمح للرجل بأن يكون استخدامه للعطر فواحًا في حين حرِّم على المرأة أن يتجاوز شذى عطرها غرفة النوم. هذا لجهة الروائح الطيبة، أمّا النتنة، فالإقصاء واجب ديني. ولكي نفهم خطورة المنظور الذي كانت ترى به الروائح ما علينا إلّا التأمّل في أسباب اختراع السماعة الطبية، الذي لم يكن بداية من أجل سماع أصوات الجسد الداخلية، بل لإبعاد الطبيب عن روائح جسد المريض، وذلك لأنّ المعتقدات الطبية وحتى وقت قريب كانت تعدّ الرائحة وسيلة لانتقال الأمراض، فليس قناع الغراب المحشو منقاره بالأعشاب ذات الرائحة الطيبة إلّا خطّ دفاع أول في مواجهة الطاعون.

يقيم كل من ماكس هوركهايمر وتيودورأودورنو تفريقًا بين الرؤية والشّم، ففي الأولى يبقى المرء نفسه، وفي الثانية فإنّه يتحلّل  


لم تتحرّر الرائحة على الرغم من كل ذلك، فقد كانت المفاهيم المبخسة لها ولحاسة الشّم تطاردهما، وكان علينا أن ننتظر المذاهب الحداثية والمابعد حداثية في القرن العشرين حتى يعاد تقييم الرائحة كشاغل وجودي مهمّ وفعّال في حياة الإنسان، وإن كان في جانبه الأكبر غير مدرك بشكل مباشر.
إنّ تاريخ الرائحة خليط من الخرافات، والمعتقدات الفلسفية، والعلمية، والأحكام الأخلاقية، فنجد سقراط يذهب إلى أنّ الرائحة تحدّد الانتماءات الاجتماعية والطبقية مضافًا إليها العنصرية. أورد دافيد لو بروتون في كتابه(4) فصلًا عن الرائحة، ناقش فيه التصورات العنصرية المستمدّة من رائحة أجساد شعب ما أو فئة من الناس، فقد وصِف العرب واليهود، بأنّ لهم رائحة الجيف، والسود بالنتانة. وقد ذكر الطيارون الذين حلّقوا فوق المدن الألمانية الرائحة البشعة التي تنبعث من تلك المدن والتي نعتوها بالرائحة الحيوانية. في حين وصف الياباني الإنسان الغربي، بأنّ له رائحة الجبن النتن.
تعتبر حاسة الشّم من المنظور التطوري من الأجزاء القديمة للدماغ، وهي على علاقة غير مباشرة مع اللحاء المخي الجديد للدماغ، أي مع القدرة اللغوية والوعي الذاتي، لكنّها على اتصال مباشر مع ردود أفعالنا اللاشعورية. هذا التفصيل الفيزيولوجي للشّم يكشف لنا الترابط الضعيف بين الرائحة واللغة، التي مركزها الجانب الأيسر من الدماغ. في حين أن العلاقة بين الشّم والجانب الأيمن متوطدة جدًا، حيث الانفعالات والعواطف ويضاف إلى ذلك أنّ التعالق بين الشّم / الرائحة والذاكرة كبير جدًا وخاصة الذكريات المتداعية واللاشعورية. وإذا نظرنا إلى السلوك المنعكس عن رائحة ما، فهو أقرب لردود الفعل، حيث يأتي الحكم العقلي لاحقًا على خلاف البصر والسمع، ومن هنا استند أفلاطون في تفضيله للسمع والبصر على بقية الحواس واتبعته الثقافة الإنسانية في هذا التفضيل، حتى نستطيع أن نقول بأنّ المدونة اللغوية للروائح قليلة جدًا ومستعارة من بقية الحواس كرائحة واضحة/ العين، ورائحة دافئة/ الملمس، ورائحة شجية/ السمع، ورائحة لاذعة/ الذوق. وحتى الصفات المرتبطة بإدراك رائحة ما مأخوذة من أسمائها: عطر، نتانة... هذا الجفاف اللغوي لأسماء الرائحة ليس واقعيًّا، بل نتيجة حملة تطهيرية شاركت فيها الفلسفة والأديان بحقّ حاسم الشّم والرائحة.




ومن هذا المنطلق نستطيع أن نفهم إشارة مارك برادلي(5) إلى الندرة النسبية لأدبيات الرائحة(6) في العصور القديمة ولكي نوضح هذا التطهير الممنهج، فقد أوضحت الأبحاث بأنّ الشعوب التي ما زالت تحافظ على تقاليدها القديمة وخاصة في تلك الجزر البعيدة عن تأثير الحضارة المزدرية للرائحة، تملك ذخيرة لغوية للرائحة تتجاوز مخزوننا من الكلمات المتعلّقة بها. يقال عن الشّم بأنّه حاسة الصمت، لكنّ الرائحة تتكلّم، وسنوجه عنايتنا إلى صوتها في الأدب، وكيف تم التعبير عنها.   

 


الرائحة آلة سفر إلى الماضي
تعد رواية "البحث عن الزمن المفقود" للروائي الفرنسي مارسيل بروست(7) مفصلًا هامًا في أدبيات الرائحة، فمن خلال رائحة ومذاق ملعقة من الشاي والكعك، انفتح الماضي على مصراعيه عبر تداع حرّ أمام بروست. لقد كان السؤال المضني، أين يذهب الزمن؟ مجابًا عليه من خلال الرائحة المرتبطة بالذاكرة العشوائية والعرضية للعقل البشري، فهناك يختبئ ما مضى من العمر. هذه الفكرة أصبحت تعرف بأثر بروست، حيث أكّد العلم الترابط التواشجي بين الرائحة والذاكرة.
تعد رواية باتريك زوسكند "العطر قصة قاتل" (1985) من أهم أدبيات الرائحة. ففي أحد مشاهد الرواية عندما كان جان باتيست غرنوي طفلًا تحت رعاية الراهب تيرييه الذي شعر بأنّ هذا الطفل يخضعه لسلطة تحلّله، وتفكّكه، ولا تترك منه شيئًا مستورًا. لقد كانت هذه السلطة هي الأنف الخارق لغرنوي الذي يستطيع عبر الشّم أن يخترق تحصينات الذات البشرية للراهب: "... كان يبدو أنّ هذا الاستكشاف الشمي يخترق حتى جلده، ويدخل في العمق".
ولكي نفهم الرعب الذي استولى على الراهب تيرييه من قدرة الطفل غرونوي الشمّية على كشف دواخله، لا بدّ أن نذكر أن الطب من أبقراط مرورًا بابن سينا قد استند إلى شمّ روائح المريض من أجل الكشف عن علله، فلا غرابة أن يجزع الراهب أمام قدرة غرنوي الشمّية. في رواية "موت مربّي النحل" للارس جستافسون(8) يخاف الكلب من مالكه، ولا يتعرّف عليه من خلال رائحته المعتادة، فبعد إصابته بالسرطان أصبح الكلب لا يجري نحو مالكه، إلّا بعد أن ينظر مالكه في عينيه والتكلم إليه مباشرة. لقد اشتم الكلب رائحة الموت المنبعثة من جسد مالكه المصاب بالسرطان، فأخافته تلك الرائحة.
إنّ لكلّ جسد رائحته الخاصة. ويذهب بعض العلماء إلى اعتبارها وراثية، لكنّ الرائحة حالة ثقافية نفهم من خلالها توجهات المجتمعات. إنّ النظافة المبالغ فيها أو التعطّر، تهدف كلّها إلى إخفاء الجسد تحت انعدام الرائحة أو حجاب من العطر يخفي روائحه. ففي رواية "مائة عام من العزلة" لغابرييل غارسيا مركيز تدمن إحدى الفتيات العذراوات الاستحمام هازئة بكل العشاق، مزجية وقتها بقتل العقارب بين أحجار القرميد في الحمام، فيقودها هذا التطهير المستمر إلى أن ترتفع في الهواء وتختفي. فعلى ماذا ارتكز ماركيز في ذلك؟ ارتبطت الرائحة بالرغبة الجنسية، ولكي يتم تثبيط هذه الرائحة اقترح أحد الأطباء في القرن التاسع العشر الاستحمام كحلٍّ مجهض لهذه الرغبة. إنّ المشهد الذي أورده ماركيز يخدم الفكرة السائدة في ذلك الزمن عن الطهارة التامة والتي تكون بإزالة الرائحة بالمطلق.




إنّ ثيمة الرائحة قد بدأت في الظهور رويدًا رويدًا في الأدب متجاوزة التقسيم الكلاسيكي بين رائحة طيبة وأخرى سيئة. ولربما رواية زوسكند هي من جعلت من الرائحة بنية سردية متكاملة، لأنّها ناقشت المعضلة الوجودية لغياب رائحة الجسد بشكل جذري، فقد كان حال غرنوي الذي لم يجد أمام مشكلته الوجودية، أي انعدام رائحة جسده، إلّا أن يقتل كي يستخلص روائح ضحاياه، وينسبها لجسده الذي بلا رائحة. أمّا الروايات السابقة التي ذكرناها أعلاه ونزيد عليها رواية فوكنر "بينما أرقد محتضرة"، ورواية "عوليس" لجيمس، فقد كانت الرائحة أحد مداميك الرواية، وليست حبكتها الرئيسية قائمة على الرائحة كرواية زوسكند. قد يكون السبب في ذلك بأنّ الروايات السابقة كتبت في أزمنة ما قبل حداثية أمّا مع رواية "العطر"، فقد كانت الحداثة وما بعدها قد وقفت في وجه الازدراء الطويل الأمد بحقّ الرائحة.
تطرح الكاتبة دانوتا فجيلستيد(9) في مقال عن جماليات الرائحة كيف استطاعت ثلاث كاتبات، توني موريس، وجامايكا كينكايد، وجينيت وينترسون من خلال البحث في الرائحة البشعة ومقابلها العطر عن الكشف عن الأنساق الثقافية ومضمراتها في المجتمع، بحيث نستطيع أن نقول وفق كوجيتو ديكارت تعبيرًا عن محتوى مقال دانوتا الذي من الممكن اختصاره بالقول: (أنا لي رائحة؛ إذن أنا موجود). إنّ تغييب الجسد يسمح دومًا بانتهاكه، واستعباده، وإقصائه، وذلك الأمر يتم في جزء منه عبر الرائحة، أسواء بإلغائها عبر التطهّر، أو باستبدالها بعطور نباتية كما حصل في القرنين الماضيين وإقصاء كل عطر بمنشأ حيواني. وهذا التغييب للرائحة أكثر ما طال جسد الأنثى المشتهى والمغيّب خلف غلالة من اللارائحة أو الرائحة المرمّزة طهرانيّا. إنّ ما قدمته الروائيات من خلال تحليل دانوتا يكمن في حق الجسد الأنثوي أن يكون معبرًا عنه بروائحه الخاصة أو المستعارة، فالحرية تبدأ من الأنف، فقل لي كيف تشم، لأخبرك من أنت.

 تعتبر رواية "البحث عن الزمن المفقود" للروائي الفرنسي مارسيل بروست مفصلًا هامًا في أدبيات الرائحة


الثقافة العربية والرائحة
تعود كلمة المسافة/ البعد إلى (ساف) التي تعني (شمّ)، فقد كان الإعرابي إن ضل طريقه في فلاة، أخذ التراب وشمّه وبذلك يعرف اتجاهه. هذه الدلالة اللغوية تخبرنا بأنّه كان لحاسة الشّم أهمية كبرى، لم يبق منها إلّا هذا المعنى اللغوي وجدع الأنوف، كما حدث مع قصير الذي لم يجد من طريقة يثبت بها للزبّاء خيانته/ خروجه عن صراط عمرو بن عدي، إلّا أن يجدع أنفه، كأنّه البدوي الذي أخطأ طريقه في البادية، فعوقب بقطع أنفه، لأنّه فشل في استخدام حاسة الشّم.
إنّ ما ذكرناه في مقدمة المقال عن تاريخ الرائحة يكاد ينطبق على تراثنا العربي، فقد تبنّى العرب نظرية الكيوف الطبيعية وشقّوا فسطاطها ما بين روائح نتنة، أو ذات دلالة جنسية وطبقية، أو روائح طيبة. ومع ذلك كان لهم مع العطور قصة جميلة. ارتبطت العطور بالمخيال العربي بأبي البشر آدم عليه السلام. حيث ذكر الطبري في تاريخ الرسل والملوك: "أنّ الله تعالى عندما أهبط آدم عليه السلام إلى الأرض، جعل لا يمر بشجرة من شجر الجنة، إلّا أخذ غصنًا من أغصانها، فهبط إلى الأرض وتلك الأغصان معه، فلما يبس ورقها؛ تحات، فكان ذلك أصل الطيب". هذه الرؤية الإسلامية، قامت على تقاليد جاهلية مفتونة بالعطر، فقد ضمّخ الشعراء الجاهليون قصائدهم بأبيات تتكلّم عن طيب عطر محبوباتهم. وهذا الأعشى يقول:

إذا تقوم يضوع المسك أصورة/ والزنبق الورد من أردانها شمل.

فيما امرؤ القيس يصف كيف تستيقظ محبوبته، فلا يغيب عنها العطر في نومها وصحوها:                                                                                          وَتُضْحي فَتِيتُ المِسكِ فوق فراشها/ نؤوم الضحى لم تتنطق عن تفضل.




لم يكتف العرب أن يكون العطر ريحًا طيبة، بل ميثاقًا لأحلافهم، كما في حلف المطيّبين، وقسمًا لا يحنث به، فها هو دريد بن الصّمة، قد أقسم أن لا يتطيّب حتى يدرك ثأره. ومن أشهر العطور الذي ضرب به المثل: "أشأم من عطر منشم". إذ كانت العرب قبل الخروج في حروبها تتعطّر، وكأنّهم رغبوا، حتى وهم موتى، أن تفوح منهم الروائح الطيبة. لقد كان عطر منشم فألًا سيئًا لمن تعطّروا به، فقد كثر بينهم القتل، لكنّهم ماتوا معطّرين بالطيب.
وإذا يممنا شطر وجهنا نحو العصرين الأموي والعباسي، نطّلع في كتاب "الفهرست" لابن النديم على العديد من المؤلفات التي تتناول العطر وصناعته، فقد ألّف العديد من الكتّاب رسائل في العطر، نذكر منهم: الكندي، ويحيى بن خالد البرمكي، والمفضل بن سلمة. وقد كلّف المتوكل جحظة البرمكي بتصنيف كتاب له جاء بعنوان "في العطر".
شاعت العطور منذ القديم عند العرب، وكانت عبارة عن عجينة صمغية تحتوي المادة العطرية كالزبّاد الذي اشتهرت به عدن، ومن ثمّ تطورت صناعة العطور عبر نقع الزهور في زيوت وشحوم، فتمتصّ خلاصتها العطرية، إلى أن كان التقطير بواسطة الإنبيق. عرف العرب العديد من أنواع العطور منها؛ المسك والغالية التي راجت على يد أمراء بني أميّة. وقد احتفى العصر العباسي بالعطور، فبلغت شأنًا كبيرًا من الإتقان في الصنع، فأصبحنا نجد العطور كماء الورد، حيث يكون الحامل للعطر هو الكحول؛ وهي تشبه العطور المستخدمة حاليًّا.
لقد أخذ العرب العطر إلى أمداء أخرى عبر الكتابة به على القراطيس والكاغد وممن ترك لنا إضاءة مهمة في ذلك، كان الشاعر عمر بن أبي ربيعة(10). فبعد أن علم بزواج الثريا من غيره وهو في اليمن، دفعه الشوق إليها، أن يخطّ لها كتابًا جعل مداده من أخلاط العطر، وكان مطلع كتابه:

كتبتُ إليكِ من بلدي/ كتابَ مُوَلَّهٍ كَمِدِ. 

وعندما قرأت الثريا كتاب عمر، وتنسّمت روائح العطر التي تفوح منه ردّت إليه: أتاني كتابٌ لم يَرَ الناسُ مثلَه / أُمِدَّ بكَافُورٍ ومِسْكٍ وعَنْبَرِ. ويذكر الباحث عمر فرّوخ، بأنّ عمر بن أبي ربيعة كان له عطر خاص، يعدّه أحد عطّاري مكّه، ولا يصنع مثله لأحد. قد يكون ما ذكرناه عن كتابة عمر بن أبي ربيعة بالعطر من الأدلة القليلة التي أتتنا من العصر الأموي، لكنّ الأمر قد شاع في العصر العباسي. لم يدّخر العرب طريقة لإظهار شغفهم بالعطور، إلّا وطرقوا بابها. وما الكتابة بمداد مصنوع من العطر، إلّا إحدى هذه الوسائل وخاصة في أشعار الغزل والحكم والأقوال البليغة، فقد نقشت جارية إسحاق الموصلي على جبينها بالمسك: والعشق والكتمان ضدّان لا يجتمعان.

 مع رواية "العطر"، كانت الحداثة وما بعدها قد وقفت في وجه الازدراء الطويل الأمد بحقّ الرائحة


تنوّعت العطور بشكل كبير في العصر العباسي، حتى أنهم استخدموها في الكتابة، فقد كتبوا بالمسك والسّك والعنبر والغالية والحنّاء. وكأنّهم أرادوا بذلك أن يقرنوا طيب الكلام بطيب الرائحة والذوق. كانت الكتابة بالعطر نقلة جمالية أخرى للخطّ العربي، استكمل بها إظهاره بالحواس الخمس، فمن صورته البديعة التي أنشأها الخطاطون، إلى تصويته بالغناء والشعر كأحسن ما يكون، إلى نقشه على الفواكه، فيلمس ويذاق. ومع الكتابة بالعطر دخل الخطّ العربي حاسة الشّم. أمدّنا الوشاء في كتابه الموشى بشذرات جميلة عن ما كان يُكتب بالعطور على الجبين والخد. لقد تعشّق العباس بن الأحنف جارية كتبت على جبينها بالمسك:              

العين تفقد من تهوى وتبصره/ وناظر القلب لا يخلو من النظر.

يتابع الوشاء أخبار من خطّوا بالطيب،  فيذكر جارية كتبت بعطر الغالية على جبينها:         

إذا حجبت لم يكفك البدر فقدها/ وتكفيك فقد البدر إن حُجب البدر.

لعب العطر دورًا اجتماعيًّا وثقافيًّا في التراث العربي، فإلى جانب الرائحة الطيبة المنبعثة من الأجساد، كان شعرًا وخطًّا وعشقًا. هذا الدور الكبير للعطر في التراث العربي دلالة على الإخفاء المتعمّد للرائحة وخاصة روائح الجسد.
إنّ التكلّم عن المدونة الأدبية للرائحة في تاريخنا الراهن يكشف لنا مقدار التعثّر في مقاربتها، فهي لم تتجاوز عناوين الروايات، أو النظرة الكلاسيكية لها، القائمة على التقسيم بين الرائحة الطيبة من ناحية، ومن ناحية أخرى البشعة، النتنة، مضافًا إلى ذلك التقسيم الجندري لها بين ذكر وأنثى، حيث رائحة المرأة الطيبة ورائحة الرجل المرتبطة بعرق العمل وخاصة في الشعر. وإن استندنا إلى كتاب الناقد رضا أبيض في كتابه "كتابة الرائحة في نماذج من الرواية العربية"، والذي قارب فيه ثيمة الرائحة في بعض الروايات العربية، كرواية "تلك الرائحة" لصنع الله إبراهيم و"رائحة القرفة" لسمر يزبك، و"رائحة الجنة" لشعيب حليفي وغيرها. نجد أن تحليل أبيض يسجل لنا فقر واقع أدبيات الرائحة في الرواية العربية وإن كان بشكل نسبي، لكنّه دال على أنّ سرديات الرائحة ما زالت على الشط تغترف من تراث الرائحة التقليدي وتؤكّد هيمنة البصري والسمعي على رؤيتنا الوجودية: "ستحفظ لنا مثل هذه الروايات ذكرى تشكل الرائحة في أبنية وخطابات روائية، لكنها لن تكون ذات فاعلية وقوة وتأثير ما لم يتعهد الخطاب النقدي ومضاتها واختراقاتها بالقراءة والاهتمام، وما لم يتعهدها الخطاب الإبداعي ذاته بالإنصات تناصًا وحوارًا وتجاوزًا".
وختامًا لهذا المقال لا بدّ من التنويه إلى أنّ حاسة الشّم جسر بين نوعين من الحواس المنفصلة عن علاقتها بالأشياء كالسمع والبصر، والمتصلة معها كاللمس والذوق، فالشّم من ناحية منفصل عن الشيء مصدر الرائحة، لكنّه في الوقت نفسه متصل به من خلال آلية عمله الكيميائية، فعندما يتنسّم الأنف رائحة عبير زهرة ما، فإنّه يلتقط ذرات الرحيق المتطايرة منها. هذه الطبيعة المزدوجة لحاسة الشّم هي من دفعت بروتون إلى القول: "إنّ الشّم هو الحاسة الأقل تغيرًا، والأقل قابلية للوصف من بين جميع حواسنا، في نفس الوقت الذي يعدّ فيه حاضرًا للغاية، ومؤثرًا للعمق في سلوكنا".


المصادر:
1-  الرائحة أبجدية الإغواء الغامضة، بيت فرون. هيئة أبو ظبي للثقافة والتراث 2010.
2-  عالم جديد شجاع، ألدوس هسكلي. عالم الكتب- القاهرة 2016.
3-  قلق في الحضارة – سيغموند فرويد. الطليعة للنشر- بيروت 1977.
4-  أنتروبولوجيا الجسد والحداثة، دافيد لو بروتون. مجد المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع – بيروت 1997.
5-  https://bmcr.brynmawr.edu/2015/2015.09.51/

6- https://journals.sagepub.com/doi/10.1177/0301006616688224
7-  https://news.harvard.edu/gazette/story/2020/02/how-scent-emotion-and-memory-are-intertwined-and-exploited/
8-  أنتروبولوجيا الجسد والحداثة، دافيد لو بروتون. مجد المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع – بيروت 1997.
9- https://cvc.cervantes.es/literatura/cauce/pdf/cauce24/cauce24_37.pdf

10- العرب في حضارتهم وثقافتهم إلى آخر العصر الأموي، عمر فروخ. دار العلم للملايين- بيروت 1966.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.