}

سيمفونية العناصر.. شجن الماء والهواء ورقصة النار وبلل التراب

محمد جميل خضر محمد جميل خضر 18 سبتمبر 2022
استعادات سيمفونية العناصر.. شجن الماء والهواء ورقصة النار وبلل التراب
العناصر الأربعة

في كتابه "الأسطورة والمعنى" (1978) الصادرة ترجمته العربية عن دار "ابن خلدون" العراقية عام 1986، يذهب الفيلسوف الفرنسي كلود ليفي شتراوس (1908 ـ 2009)، إلى وجود علاقة عضوية بين الأسطورة والموسيقى، وحين يشرع بتفصيل تلك العلاقة، يورد التشابه، أو التماثل من جهة، والتجاور، أو القرب من جهة ثانية.
بدأتُ من هنا لأنني ربطتُ في عنوان موضوعي بين الموسيقى والأسطورة، فمفردة (ٍسيمفونية) تأخذنا مباشرة إلى الموسيقى، ومفردة (العناصر) تأخذنا (أحيانًا) نحو الأسطورة، فالشائع والمتداول أن التعامل اليومي مع العناصر الأربعة (التي كان يعتقد أنها وحدها عناصر الوجود: الماء والهواء والنار والتراب)، يرتبط ارتباطًا وثيقًا بأزمان الأساطير، وبالطرائق التي واجه من خلالها أجدادنا تقلبات الواقع حولهم: تغيّرات الفصول، غضب الطبيعة، أنواء البحار، يباب الأرض، كواسر البراري والكائنات الضخمة في قيعان المحيطات، وعواصف الريح، خصوصًا عندما تكون ريحًا شماليةً مدمّرةً ماحقة.
طروحات شتراوس حول العلاقة العضوية بين الموسيقى والأسطورة وردت في أكثر من كتاب له، منها كتابه "النيئ والمطبوخ" the raw and the cooked، الصادر عام 1964، وفي كتابه "الإنسان عاريًا" L'homme Nu (لم أقع على ترجمة إنكليزية للكتاب الصادر عام 1971)، وكلاهما صادران ضمن سلسلة "أسطوريات" التي تتضمّن، إلى ذلك: "من العسل إلى الرماد" (1967)، و"أصل آداب المائدة" (1968).
وهي آراء تتمحور حول فكرة رئيسية عنده مفادها أن المعنى الكليّ الشامل الجامع الموجود في الموسيقى هو نفسه الموجود في الأساطير، وأنهما يحتاجان إلى إعادة تركيب ذهنية تبدأ من أول المقطوعة/ السيمفونية/ الأوبرا وحتى نهايتها، ومن أول الأسطورة حتى نهايتها، حيث التنويع يحدث داخل إطار الوعي الكلّي لمحتواهما ودلالاتهما.
ثيمة الصراع بين قوى عليا وأخرى سفلى، على سبيل المثال، بين الشمس (النار) والقوى الخفيّة أو السريّة، هي ثيمات موجودة هنا وهناك، ويستشهد كمثال على ذلك بـ(الفوجة) التي انتشرت زمن الموسيقي الألماني يوهان سباستيان باخ (1685 ـ 1750).




والفوجة هي شكل موسيقي ظهر في الأصل في عصر الباروك، ولكنه تجلّى لاحقًا بوصفه أحد أشكال الموسيقى البوليفونية التي تتعدد فيها الأصوات مع وجود صوتٍ سائدٍ أعلى، يحمل في طياته وطبقاته حبكة الحكاية ولحنها الرئيسي. وكلمة فوجة جاءت من اللفظ اللاتيني fuga، أي "طيران".
"سيمفونية العناصر" لا يعود (كعنوان) خارج مقتضيات المنطق الذي تقوم عليه العلاقة بين الأسطورة والموسيقى من جهة، وبين الأسطورة والعناصر من جهة ثانية. فأساطير الأولين هي، بحسب مقتضى الحال، تفسيرهم لما يمور حولهم، بحثهم عن معنى جامعٍ تستطيع عقول اندماجهم اليومي بالناموس الكونيّ المهول، أن تستوعب قواه الخارقة، وتؤنسن عناصره، فها هم الإغريق القدامى لا يكتفون بربط العناصر الأربعة بالظواهر الفيزيائية للعالم المادي فحسب، بل يوسعون دلالاتها، ويربطونها بسماتٍ أساسيةٍ كامنة في طبيعة الإنسان، وعند بني البشر. فتصبح الأرض، برملها وصخرها وترابها، وما تمتاز به من صلابة وامتداد، وفق هذا الربط، مؤشرًا على الجوانب الفيزيائية والحسية للحياة. بينما يدلّ الماء الذي يتصف بالانسياب والتغير الدائم على العاطفة والتعاطف. كما لم يعد الهواء يمثّل الغلاف الجوي وما نتنفّسه فقط، بل بات عند الإغريق يعني العقل والذكاء والإلهام. ولم تشر النار إلى الشمس والاشتعال فحسب، بل إلى العاطفة الإبداعية والحماس المدمّر أيضًا.


الفطريّ والمكتسب
يقول شتراوس: "أشعر أن الموسيقى والرياضيات هما وحدهما اللتان تحتويان على بعد فطريّ، وأن على المرء أن يكون لديه جهازٌ وراثيٌّ خاص كي يتقن أحدهما" ("الأسطورة والمعنى"، ص 76).
ولعل في بعض سياقات الموسيقي الفرنسي داريوس ميلو (1892 ـ 1974) ما يعزز فكرة شتراوس حول فطرية الموسيقى، تمامًا كما هي فطرية الرياضيات. فميلو يروي مرّة لصديقه شتراوس أنه كان يسمع منذ اللحظات الأولى لدخوله في النوم، نوعًا من الموسيقى غير المألوفة بالنسبة له، ولم يسبق له أن استمع لما يشبهها، ليتبيّن له لاحقًا أنها موسيقاه الخاصة. ما باح به ميلو لصديقه وابن بلده شتراوس يجعلنا نستنتج، ربما، أن مقطوعته الشهيرة "الثور فوق السطح"، إنما هي رؤيا (بالألف) منامٍ ساحرٍ قضاه ذات شباب بين ربوع الأمازون، وتحديدًا في مدينة ريو دي جانيرو البرازيلية، حيث أقام هناك ما بين عاميّ 1917 و1919، بدعوة من صديقه الشاعر الفرنسي بول كلوديل (1868 ـ 1955)، رئيس البعثة الدبلوماسية الفرنسية هناك آنذاك، الذي استدعى ميلو لكي يشغل وظيفة سكرتير ومستشار فني له. فالباليه الإيمائي الذي ألّف ميلو موسيقاه لا يتضمّن حكاية متماسكة، لا بداية فيه ولا نهاية، بل هو عبارة عن مجموعة مشاهد تكاد تكون سوريالية وساخرة، يتتابع فيها على الخشبة ظهور شخصيات من دون هدف، ومن دون علاقات تجمعها. وحدها الموسيقى تحقق اللقاء! أليس هذا هو حال الأحلام ورؤى الليالي المفعمة بالسحر وحوارات العناصر؟ أليست هذه هي الفطرة في أنصع ذوبانها بما حولها ومن حولها، وفي أندى تجليات اشتباكها بالماء والهواء والنار والتراب؟





إن موسيقى توزّع أنغامها وتبني لحنها خلال النوم هي بلا شك موسيقى مدّت أذرع سحرها نحو محيطها، تمددت فإذا بها تطاول النجوم، وتقيم هناك في حديقة المجرّات، حفلًا طقسيًا لطلاسم السلّم الذي يربط الأرض بالسماء، ويحوّل الموسيقى من لحظة فطرية إلى حسابات جبريةٍ ورقميةٍ دقيقة.

لوحة "النهر" (بيير أوغست رينوار)


بين الفطريّ والمكتسب طوّر الإنسان أدواته؛ أكل معبّرًا عن حاجته الفطرية لسد جوعه وإسكات أمعائه، ولكنه اكتسب مع توالي الحضارات إضافة الملح إلى الطعام. ومنذ عام 6050 قبل الميلاد، وخلال موسم جفاف ما، بدأت، في الصين، علاقة الإنسان مع الملح. "مع تبخر المياه من البحيرة، انكشف الملح. أما المصريون فحصلوا على ملحهم من مستنقعات النيل، وابتدأت نكهة التاريخ تظهر. الرواسب الجوفية كانت بعيدة المنال، والملح المتناثر على السطح غير كافٍ. لا يمكننا صنع الملح في أجسادنا، لذلك كان على البشر أن ينظروا إلى بيئاتهم لسد الحاجة، فقاموا باتباع مسارات الحيوانات للوصول إلى رواسب الملح. لم يقتصر دور الملح على إضفاء النكهة على الطعام، بل أصبح له تأثيرٌ كبيرٌ على الدول من الناحية الاقتصادية والسياسية، وحتى السياحية. أصبح من الممكن نقل الطعام مسافات كبيرة. وعندها، بدأت تجارة الملح تحيي المنطقة، فالملح يساعد على تخزين الطعام، بتمديد فترة صلاحيته، لأن الصوديوم يقضي على الرطوبة المسببة للبكتيريا في الأطعمة، يجففها ويسمح بتخزين الأغذية من دون تبريد لفترات طويلة من الزمن. وبذلك أصبح في إمكان المزارعين قطع مسافات كبيرة أثناء نقل منتجاتهم. هذا ساعد ذلك في تقليل الاعتماد على التوافر الموسمي للغذاء. كما ساهمت قدرة الملح على الحفاظ على الطعام في تأسيس وتطوير الحضارات، ليصبح أحد السلع التجارية الرئيسة في العالم". (شذى تيسير النجار، "الملح.. أساس نكهات الطعام في الماضي والحاضر"، 12 ديسمبر/ كانون الأول 2021، "ضفة ثالثة").




فطرة الحفاظ على البقاء تعزز اكتسابنا لمعارف جديدة، وترفع من حجم توقعاتنا نحو العناصر الرئيسية الأربعة. تطوّر موسيقى انبثاقنا من حاجاتنا، باتجاه فلسفة هذه الحاجات، وضخّها بالشعر والسرد النبيل.


حدائق العناصر..

"نساء في الحديقة"؛ كلود مونيه


في أثينا، عقد الفيلسوف اليوناني إبيقور (341 ـ 270 قبل الميلاد) صفوفه داخل تضاريس حديقةٍ غنّاء، وهناك درّس عدم وجود (أو على الأقل لا مبالاة) الآلهة. وبعد حوالي 700 سنة تقريبًا، اعتنق القدّيس أوغسطين المسيحية في حديقة. كذلك استخدم الأرستقراطيون البريطانيون الحدائقَ ليتباهوا بنباتات الأراضي التي استعمروها. ويستخدم سكان أميركا الأصليون الحدائقَ اليوم ليحافظوا على نباتات أسلافهم. لقد أنشأت كل ثقافة في كل عصر الحدائقَ لأسباب عملية مثل تأمين الغذاء والدواء، لكن كانت لها كذلك دوافع أكثر عمقًا، مثل الجماليات والروحانيات. والسؤال هنا: ما الذي يجعل الحدائق بهذه الخصوصية؟" ("ضفة ثالثة"، "البستنة مع هايدغر.. من اللغز إلى الحقيقة عبر الأرض"، إف بيلي نوروود، 18 أغسطس/ آب 2022، ترجمة: سارة حبيب). والحقيقة أن الزرع يدخل في قلب ثنائية الفطريّ والمكتسب. بهذا المعنى، خاض أجدادنا صراعًا مريرًا وطويلًا مع مفردات وجودهم، قبل أن يتمكّنوا من تطويع النبات لحاجاتهم وتوجهاتهم، لاحقًا، للاستقرار في أمكنة ثابتة قادرة على منحهم أسباب البقاء غير المحتاج للغزو والترحال، وفق حتميات وجودية قاهرة، لم يكن لديهم ترف الفكاك منها.
في كتابه "فلسفة الحدائق" (2006)، يقترح الفيلسوف البريطاني ديفيد إي. كوبر (1942) علاقة تبادلية بين الحديقة والإنسان، قادرة على توليد "المعنى"، أو بالأحرى قادرة على خلق توازن بين حاجة البشر العضوية الفطرية للحديقة كي نحصل على زنبقٍ بألوان زاهية، أو بندورة بصفات جديدة، وحاجة الحديقة لنا كي ننبش عن أسرار جمالها، ونعاينها بوصفها متلقيًا محايدًا يحتاج إلى تهليلنا كي يصبح لها "معنى". بالأحرى، وبحسب مقترح كوبر "الحديقة أشبه بفسيفساء رومانية لا يُكشَف جمالها إلا بعد تنقيبٍ آثاري". بالتالي، لا تنطوي الفسيفساء على معنىً أكثر من التندرا السيبيرية، إلى أن يتم اكتشافها من خلال الجهد البشري؛ ينطبق الأمر ذاته على انكشافِ الطبيعة في حديقة. وعندما نأخذ اقتراح كوبر بعين الاعتبار، تصبح الحديقة عملًا فنيًا عميقًا. في النتيجة، يُفترض "معنى" الحديقة بوصفه "تجليًّا لعلاقة الإنسان مع اللغز". إن الحديقة تؤمن لنا لقاءً مباشرًا، إنما غريبًا، مع الطبيعة؛ لقاءً يمنحنا تلميحًا بدهيًا عن جوهرها، لكنه يتركنا عاجزين عن التعبير عن هذا الجوهر باللغة" ("ضفة ثالثة"، "البستنة مع هايدغر.. من اللغز إلى الحقيقة عبر الأرض"، إف بيلي نوروود، 18 أغسطس/ آب 2022، ترجمة: سارة حبيب).





إن الوجود يتطلب، بحسب الفيلسوف الألماني الإشكالي مارتن هايدغر (1889 ـ 1979)، مفاوضة "العالم" و"الأرض". و"الأرض" (بالمعنى الهايدغري) مقدسةً، أو سامية. وهي تعكس سلطةً بالمعنى الذي ينطوي عليه وحيٌ إلهيٌّ، أو نصٌّ مقدّس. والسؤال هنا: هل في إمكاننا أن نقتبس رأي هايدجر ونتلمّس في الحديقة بوصفها قطعة من الأرض، قيمةً ما مقدّسة؟
في الحدائق نباتات تضرب جذورها في تراب الأرض تحتها، وهي تحتاج الماء والضوء كي تبقى، وكي تكبر بعد ذلك وتتألق ثمارها بألوانها البديعة، وفي حين نتنفّس نحن الأوكسجين، فإنها (أي النباتات) تشهق ثاني أكسيد الكربون، وتزفر الأوكسجين، وفق علاقة تعاونية تكاملية، مرتبطة عضويًا بالعناصر، ومؤهلة، حكمًا، للارتقاء.


حجر المعرفة

منمنمة تمثل عالم الكيمياء جابر بن حيان


لعلّ العالم المسلم جابر بن حيّان الكوفيّ الأزديّ (721 ـ 815)م من بين علماء قلائل في العالميْن القديم والوسيط انشغلوا بحجر المعرفة (حجر الفلاسفة) بقدر انشغالهم بماء الملوك (الماء الملكيّ)، وهو مزيج من حمض النيتريك وحامض الهيدروكلوريك اللذيْن يستخدمان لإذابة الذهب. وحجر الفلاسفة (باللاتينية: lapis philosophorum)‏ هو، على وجه العموم، مادة أسطورية يُعتقد أنها تستطيع تحويل الفلزات الرخيصة (كالرصاص) إلى ذهب. ولكن المعتقد الأقرب إلى موضوعنا حوله هو ما راج في أزمان بعيدة حول إمكانية استخدامه في صنع إكسير الحياة. من حجرٍ (والحجر مزيجٌ من ترابٍ ومعادن أخرى) أراد فلاسفة الأزمان التي كانت تختلط فيها الفلسفة مع الأسطورة والعلم بألوانه العديدة السوداء منها والبيضاء، ومعارف أخرى مثل علوم الفلك والتنجيم والجبر والهندسة، أن يبتدعوا ما يطيل الحياة ويقرّب البشر من حلم الخلود. وحول الحجر دارت مباحث الخيمياء بوصفها فرعًا قديمًا من فروع الفلسفة الطبيعية، وتقليدًا كان راسخًا فيها، وأحد العلوم المبتدئة الضاربة جذورها بعيدًا التاريخ. الخيمياء التي اختلف فقهاء اللغة والمؤرخون حول أصل اسمها ارتبطت منذ بداياتها الفرعونية بالعناصر الرئيسية الأربعة، وليس مصادفة أن العلماء العرب في عصور ازدهار الحضارة الإسلامية، وفي سياق الحفاظ على سريّة بحوثهم حول الخيمياء وتجاربهم لسبر ما تجود به معادلاتها، أشاروا إلى المعادن التي استخدموها في هذه التجارب برموز توافقوا عليها، فإذا بالذهب يصبح اسمه الشمس في قاموس تورياتهم، والفضة تصبح القمر. فهل يمكننا أن نرى في الذهب عنصر النار في هذه التجارب، أو، على الأقل، رمزها ودلالتها.
هل أراد الأوائل تحقيق رغبة البشر بالخلود، عبر خلط العناصر بالاعتماد على علوم الخيمياء التي عرفت عند الفراعنة باسم العلم الأسود؟ وهل اعتقد أجدادنا أن سر الوجود وإكسير إدامته يكمن داخل ألغاز هذه العناصر؟ أسئلة تفتح الباب على مصراعيه أمام الآداب والفنون، لتدلي، على اختلاف حقولها، بدلوها في المسألة، وهو ما لم يتأخّر كثيرًا، فإذا بـ"الخيميائي"، على سبيل المثال، يصبح اسمًا لروايات وقصص وحكايات ومغامرات؛ خيميائي الروائي البرازيلي باولو كويلو، وخيميائي الكاتب الأيرلندي مايكل سكوت، وخيميائي الكاتب الأميركي هوارد لافكرافت (1890 ـ 1937) والقائمة تطول. وإذا بما تحمله قصة البحث عن الخلود، وتفاصيل صراع العناصر، وصراعات الخير والشر من إثارة وأسرار وخيال علميّ وغير علميّ، تشكّل مادة دسمة لأفلام سينمائية، وسلاسل درامية، وألعاب إلكترونية، وكتب أطفال، وعروض مسرحية. ها هي السيمفونية تعزف من جديد، مثقلةً بالعناصر، منقوعة بسحر الماء، متراكضة بين ترددات الأثير وعبير الأنفاس، مشدودة بخيط وهميّ إلى تراب الواقع، ملفوحة بشمس الحقيقة وشيطانها ونارها، وفي لحظات ملائكية، نورها.



تفاعلات العناصر لم تتوقّف عند الخيمياء وأسرارها، وعند تقسيم الخيمياء إلى خيمياء الماء وخيمياء الهواء وخيمياء النار وخيمياء التراب، ففي علم الفلك رُبطت الأبراج الإثني عشر بالعناصر الأربعة، فقُسّمت الأبراج إلى أربع مجموعات: الأبراج النارية (الحمل والأسد والقوس)، المائية (الحوت والسرطان والعقرب)، الهوائية (الدلو والجوزاء والميزان) والترابية (الجدي والثور والعذراء)، ولكلّ مجموعة منها صفاتها الجامعة المشتركة، وشكل علاقاتها بالمجموعات والأبراج الأخرى.
عن أي معرفة بحث الأسلاف كي يكون كنزهم خلال كل هذا البحث حجرًا من طلاسم؟ ونحو أي دروب أرادوا للبشرية أن تسير؟ هل كان الفضول هو قائد الفيالق الذاهبة نحو التماعة تِبْرٍ تنير العتمة في قلب التراب؟ هل كان الطموح؟ هل كان الطمع بالخلق والخالق؟ أتخيلهم (سماكرة) هواء، يحاولون شدّ براغي الحجاب، علمًا أن كل معرفة أدركوها مدّت أمامهم سرابًا آخر من هذا الحجاب.


الأسلاف والأحفاد
في قصيدته "سمكريّ الهواء"، يكتب الشاعر اللبناني سرجون كرم: "هذه السّاحات الفارغة/ تخطو خطوتين إلى الوراء/ كي أمرّ بعدّة السّمكريّ/ أصلّح الهواء/ أشدّ براغي الحجاب/ وأبدّل السّماء بجرس كنيسة. هذه السّاحات الفارغة تفسح الطّريق/ حين أمرّ إلا من ياقة/ ينمو حولها شجرٌ أبيضُ... كاهنًا عاريًا/ يتربّص بمن غادر/ كي يملأ الفراغ خلفه حكايات".
فهل ورث، هو الآخر، عن أجداده الفينيقيين الهوس باستنباط الغيب واستساغة النبوءات وتقليب أحوال العناصر؟
في قراءة لديوانه "سمكري الهواء/ العليم بكل شيء"، تشير الكاتبة ليندا نصّار لِما تتضمّنه نصوص سرجون كرم من "معرفة بالتراث والميثولوجيا"، ذاهبة إلى أن شعره "يتأمّل تفاصيل الوجود"، وإلى أن رمزياته "نابعة من تعمّق ودراية بالأديان والأساطير"، إلى أن تقول: "يرسم سرجون كرم عالمًا شعريًّا مليئًا بالبلاغات التي تؤجّج الطاقة الشعرية، وتدفع بها نحو الخارج، فتأتي على شكل نصوص تمتاز بقوّة المعنى" (ليندا نصار، "ضفة ثالثة"، 4 سبتمبر/ أيلول 2022). فهل أبلَغ من معنى يصعد برج بابل: "ونحن صاعدون برجَ بابل/ يتهامس الناس في ما بينهم:/ سئمنا من نجمة تضيء على الطّريق خلفنا/ فأطفأناها/ وأشعلنا قناديل الزّيت". يحترم أسرار الماء في دفقان نهر: "الحبّ يا ماروشكا/ هو أن أحيا سعيدًا.../ أن أتركَ هذا النّهر يجري بمائه وفقَ هواه". يقيم ثنائية بين التصحّر والبحار: "اللّيلة/ يلفّ الجوعُ حزامَ الأملِ على بطنه في بلادي/ من يتركُ بلادَه يا ماروشكا تتصحّر قدماه/ غير أنّ عينيه تستحيلان بحرًا". وثنائية بين الأرض (التراب) والشمس (النار): "اللّيلة ينهض "الدّايم" من حضن أمّه/ ويمرّ أمام أبواب أهلي/ يطلّ بعينين مغمضتين/ مبتسمًا لخمسة أطفال/ يتقاسمون فراشًا واحدًا/ في الذّاكرة/ يرتدي أسلافي والقدماء في قريتي أبهى ترابِهم/ ويخرجون بعجينهم من قبورهم/ موكبًا إلى شجرة التّين/ ـ تلك الملعونة التي لا تنحني ـ /غير أنّها تحفظ البَرَكَةَ لنا/ طالما تحكّ الأرض ظهرَها بشمسِها".


علاقات ملتبسة..



أكاد أجزم أن البشرية أقامت، وتقيم، معظم منظومتها الأخلاقية، وأحكامها القيمية، ونشاطها الحياتيّ، بالاستناد إلى التباسٍ ما: علاقات ملتبسة مع أجدادنا من أبناء الحضارات التي لم تتعلم الكتابة، ولم توثّق حضورها بلغةٍ مفهومةٍ ومكتوبة. علاقات ملتبسة مع العناصر من حولنا، فهل يرى كثيرون منّا البحر غير أنه مساحة لصيد الأسماك؟ أو متراسًا لقنابل غواصة؟ أو فرصة للعبور نحو الشاطئ الآخر قد تصيب وقد تخيب، فإن خابت يخضعون لقوانين الجاذبية الخاصة به، ويتحولون إلى طعام لملايين الكائنات في جوفه؟ وهل رأى فيه الروائي الأميركي إرنست همنغواي (1899 ـ 1961) سوى مسرحًا لبطولة عجوز روايته "الشيخ والبحر" (1952)؟ حتى أن همنغواي لم يرَ في رمال أفريقيا سوى فسحة للصيد، بحسب ما يروي لابنه باتريك في رسائله إليه، وهي الرسائل التي تناولها كتاب "عزيزي بابا: رسائل باتريك وإرنست همنغواي" الصادر هذا العام، والمنشور خبر حوله وحول الرسائل في ملحق "ضفة ثالثة" بتاريخ 8 يوليو/ تموز 2022، من ترجمة سارة حبيب تحت عنوان: "كل ليلة نسمع الذئاب تعوي". ومما جاء في هذه الرسائل: "اصطدنا 24 دجاجة من نوع الطيهوج". وبحسب واحدة من تلك الرسائل، يصل عدد ما اصطادوه في يوم واحد من الأسود والضباع والنمور والغزلان على اختلاف أنواعها، والظباء الأفريقية، والجواميس، والحمير الوحشية، وغيرها، إلى زهاء 89 من الثديات التي حوّلوها ببنادقهم الأميركية إلى فرائس، إضافة إلى عدد لا يحصى من طيور القطا والبط!
وللإنصاف، فلعلّ علاقة همنغواي بالعناصر من حوله كانت أكثر دفئًا ومعنى وشاعرية في روايته "وداعًا للسلاح" (1929) الأقدم بكثير من "الشيخ والبحر"، والسابقة على رسائل صيده ببضعة أعوام، يقول في مستهلها: "كنا نقطن في أواخر صيف ذلك العام في منزل بقرية تطلُّ، عبر النهر والسهل، على الجبال. كانت هنالك حصى وحجارة في قاع النهر، أحالت الشمس لونها إلى بياض، وكانت المياه صافية تنطلق رشيقة زرقاء في القنوات. مرّ الجنود بمحاذاة منزلنا نزولًا نحو الطريق، فغطى الغبار الذي أثاره مرورهم الأشجار". ولعلّه كان أكثر تفهمًا لتلك العناصر عندما كتب يرثي صديقًا له: "أفضلُ ما في الأمر أَنَّهُ أحبَّ الخريف. صفر الأوراق على الحور القطنيّ. تسبح الأوراق فوق جداول السَّلْمون المُرقَّطِ وفوق التِّلالِ. السَّماوات السَّاكنة الزرقاء العالية.. الآن سيكون جُزءًا منها إلى الأبد". تلك المرثية المؤثرة وُضعت لاحقًا فوق نُصبٍ تذكاريٍّ لهمنغواي شمال صن فالي.
هل نرى في معجزة الهواء سوى شهيق نحتاجه، وزفير يخنقنا إن لم نطلق له العنان؟ حتى النار لا نرى القبس المشع منها، وحين نحزن نهيل فوق رؤوسنا التراب، كما لو أن التراب ليس لون قمحنا وحنطتنا وأرض أفراحنا.





في سياق الالتباس بيننا وبين من سبقونا، وبعيدًا عن موقف عالم الإنسانيات والإثنيات البولندي برونيسلاف كاسبر مالينوفسكي (1884 ـ 1942)، من أبناء الحضارات القديمة البائدة، خصوصًا من كان يسمّيهم بـ(البدائيين)، أو الذين لم يكتبوا حضارتهم، وظلوا قابعين خارج (مجد) الكتابة، ممن يشكّلون المادة الأهم لعلم الأنثروبولوجيا، وبعيدًا عن مقولاته حولهم، وأن تفكيرهم لا يتعدى علبة الحاجات الضرورية للعيش (المعرفة الوظيفية والأفعال الوظيفية)، فإن تلخيص البشر بنوعيْن فقط، واحد انفعاليّ سحريّ، وآخر انفعاليٌّ وجدانيّ، هو تلخيص جائرٌ واقعٌ تحت تأثير مالينوفسكي وأطروحاته التي قد يستشف منها بعض العنصرية الفوقية، خصوصًا أن أكثر من خصّهم بهذا الرأي حول البدائية الغرائزية العمياء هم السكّان الأصليون في الأميركتيْن، وفي كندا وأستراليا.


هواء الجدليات والكرامات..

لوحة تمثل براق النبي 


يتجلّى الهواء في الوعيّ الديني الإسلامي بوصفه طرفي جدلية الريح والرياح، وبوصفه منصّة طيران، كما في حادثة الإسراء والمعراج.
في تلك الجدلية يتمظهر الريح (مذكّر بحسب معظم النصوص الدينية) بوصفه أداةَ دمارٍ ونذيرَ خرابٍ ووسيلةَ عقابٍ إلهية: "وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ" (قرآن كريم، سورة الحاقّة، الآية السادسة). أمّا الرياح فتتجلى بوصفها دليلَ بشر وفألَ خير: "وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ" (سورة الروم، الآية 46). وبحسب تفسيرٍ للعلّامة الشيخ المصري محمد متولي الشعراوي (1911 ـ 1998): "كلمة الريح إذا كانت مفردة، اعلم أنها من جنس التعذيب، وإن رأيتها مجموعة (رياح) فاعلم أنها من الرحمة".
أمّا في المخيال الشعبي، فثمة رواية يتناقلها الشيعة عن ركوب علي بن أبي طالب للسحاب، ودورانه به حول الأرض. إنه المخيال نفسه الذي يجعل علي زين العابدين بن الحسين يركب السحاب، والإمام محمد الباقر يصنع فيلًا من طين ويركبه ويطير به في الهواء ذهابًا إلى مكة ورجوعًا منها. وفي الوعيّ الصوفيّ، كان طيران الوليِّ في الهواء، إحدى الأدلة القوية المثبتة لحقه الأصيل في الوصول لمرتبة الولاية، فعلى سبيل المثال يحكي عبد الوهاب الشعراني في طبقاته، عن الشيخ محمد الغمري، الذي دخل عليه أحد أصحابه في الخلوة "فرآه جالسًا في الهواء".


ماء الياقوت..
للماء حظوة أثيرة، فمن هذا العنصر جعل الله كل شيء حي: "أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا ۖ وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ ۖ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ" (سورة الأنبياء، الآية 30). ومن قلب تلاطمه انبثق الخلق كما في أساطير الأولين؛ ففي ملحمة الخلق البابلية المعروفة باسم الأينوما إيليش تظهر الحياة الأولى كثمرة لزواج مقدس بين نوعين من أنواع المياه، وهما إبزو إله المياه العذبة، وتيامات إلهة المياه المالحة والمحيطات.
وفي سفر التكوين/ الإصحاح الأول: "وكانت الأرض خربة وخالية، وعلى وجه الغمر ظلمة، وروح الله يرف على وجه المياه".
إنه ماء الياقوت المشعّ بالبهاء والفتنة الخالصة. وهو ماء النهر المقدّس الذي تعمّد فيه يسوع. وهو الصَّبا والشباب والصِّبا. طهر كل فسق، ووضوء كل معصية، وريّا كل عطشان، وعبور كل شفافيةٍ كرامةً للعابدين.


نار التوعّد..
رغم إجماع المعتقدات السماوية والأرضية على أن النار رمز عذاب مبين إلا أن الإيمان كفيلٌ، وحده، بسلب النار قوتها المحرقة، كما في قصة النبي إبراهيم بحسب ما وردت في القرآن الكريم "يا نار كوني بردًا وسلامًا على إبراهيم" (سورة إبراهيم، الآية 69)، وكما في قصة الفتية الثلاثة في سفر دانيال في العهد القديم، حين شيّد الملك البابلي نبوخذ نصر تمثالًا عظيمًا من الذهب وأمر الجميع بالسجود له، "ومن لا يخرّ ويسجد ففي تلك الساعة يلقى في وسط أتون نار متقدة"، ثلاثة من الفتية اليهود المؤمنين رفضوا الانصياع لذلك الأمر، فأمر نبوخذ نصر بهم فتم إلقاؤهم في النيران، ولكن حدثت المعجزة، إذ "لم تكن للنار قوّة على أجسامهم، وشعرة من رؤوسهم لم تحترق، وسراويلهم لم تتغير، ورائحة النار لم تأت عليهم".


عجينة الخلق
الطين، وهو المزيج الناتج من اختلاط التراب بالماء، على وجه الخصوص، ظهر كثيرًا في السرديات القديمة، فقد تعددت الأساطير السومرية التي تذكر خلق الإنسان من طين، سواء وقع ذلك على يد الإله إنكي، أو الإلهة إنليل، وهو الأمر الذي أكد عليه عالم الآثار الأميركي المعروف، صموئيل نوح كريمر، في كتابه "السومريون.. تاريخهم وحضارتهم وخصائصهم"، بقوله: "إن المفكرين السومريين.. اعتقدوا اعتقادًا جازمًا أن الإنسان صُنع من طين". ليس السومريون وحدهم في هذا، بل كذلك المصريون القدماء الذين يؤمنون أن الإله ختوم هو الذي خلق الإنسان من الطين. وفي الأساطير اليونانية، فإن بروميثيوس هو الذي اضطلع بهذا الدور. والأمر نفسه ينطبق على الرواية الدينية الخاصة بخلق الإنسان، فآدم بحسب الديانات السماوية الثلاث خُلق من الطين.




أما التراب فهو ألوان وإشارات وطقوس ومعاني وتحوّلات من أول سمرة الأرض الخصبة، مرورًا بسراب الرمل على امتداد الفيافي، وصولًا إلى الحفرة الترابية التي لا تتسع لاثنيْن من موتى من بني البشر.
في مقال له يحمل عنوان "ويلفريد ثيسيغر صديق البدو عابر الربع الخالي"، يستعرض الشاعر السوري بشير البكر علاقة بعض المستشرقين بالصحراء العربية، مركزًا على رحلة الرحّالة والأنثروبولوجي الإنكليزي ويلفريد ثيسيغر (1910 ـ 2003) الاستكشافية التي عبر خلالها الربع الخالي، وهي الرحلة التي قطع فيها، بحسب البكر، ما يقرب من ثلاثين ألف كيلومتر على ظهور الجِمال. وبعد استعراض البكر لأول رحلة موثقة لرحّالة غربي نحو الربع الخالي، ومروره على تجارب شبيهة أخرى، يخلص إلى أن ثيسيغر سجّل عبوره الربع الخالي مرتيْن، ودون رحلته بنفسٍ روائيٍّ متمكّنٍ وعاشقٍ للمكان وأهله.
يقول البكر: "يتحدث ثيسيغر عن الصحراء كما لو أنه يصف البحر: تمتد أمامنا كحائط متلألئ ورديّ اللون، ويهبط الرمل من القمة في خط مستقيم، ويشكل زاوية منحدرة، وإلى أقصى حد تسمح به حبات الرمل، تاركًا بقعة مؤقتة على أرض الصحراء. وكان الرمل في المنحدرات المنخفضة من ظهر التلة ثابتًا، يعلو وينخفض في تموجات واسعة، وكانت الريح تعبث بالرمل مفرقة الحبات الخفيفة عن الثقيلة، وهذا الخليط من الألوان يعطي الصحراء العمق والغنى. إنه ذهبيّ مع فضيّ، ليموني مع كريم، أحمر قرميدي مع أبيض، بني محروق مع زهري أصفر مع رمادي، وله تشكيلة لا تنتهي من الظلال والألوان" (بشير البكر، "ضفة ثالثة"، 2 سبتمبر/ أيلول 2022).
ها قد عدنا إلى ثنائية الذهبيّ والفضيّ مرّة أخرى، ها قد علا صوت موسيقى الأسطورة، طالعة هذه المرّة من رمل الصحارى وزواحف الأرض اليباب.

بيتهوفن يحفر النوتة في وجدانه 


بين حكاية المطرقة الصفراء التي يقال إن بتهوفن سمعها وهو يتجوّل داخل حديقة براتر في فيينا، وحكاية صاحب البيت الذي واصل طرقًا غاضبًا ملحًا طالبًا من بتهوفن إيجار الشقة، تتجلى السيمفونية الخامسة بوصفها محاكاة عميقة التنوّع، خصبة الثراء، لعلاقة البشر بعناصر وجودهم، وتعبيرهم عن تقلبات أحوالهم. إنها غضب النار مرّة، وسحر الماء في أخرى، موجاتٌ من سوناتا المسرّات تقرع أجراس الأثير، فإذا الأرواح تصفو، ورمل الشاطئ يصبح همسًا تبوح به الأقدام.. وحنايا شجنٍ يحملها الحمامُ الزّاجل.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.