}

أيها الشاعر الموت لك

منذر مصري 2 أكتوبر 2023
استعادات أيها الشاعر الموت لك
عادل محمود وميشيل كيلو في مرسم منذر مصري (1995)

مقعد شاغر في الحافلة
عندما صدر كتابي الجزء الثالث من أنطولوجيا الشعر السوري (انعطافة السبعينيات)، عن الأمانة العامة لاحتفالية دمشق عاصمة الثقافة العربية ـ 2008، كان من بين الـ26 شاعرًا الذين اخترتهم، باعتبارات متنوعة، كممثلين لهذه الانعطافة 5 شعراء من جمعية الشعراء الميتين، منهم دعد حداد (1937 ـ 1991)، ورياض الصالح الحسين (1954 ـ 1982). اليوم، بعد مرور 15 سنة من تاريخ إصدار الكتاب، تسابق من ذكرتهم، ومن لم أذكرهم، من شعراء جيل السبعينيات، إلى الموت، وبات عدد الراحلين منهم 16 شاعرًا. أغلبهم، بمرور كل هذا الزمن، ربطتني به صداقات حميمة، كزهير غانم (1949 ـ 2011)، وفيصل خليل (1945 ـ 2013)، وبندر عبد الحميد (1950 ـ 2020)، وآخرهم عادل محمود (1946 ـ 2022). الـعشرة الباقون أحياء، يقفون على رصيف المحطة، ينتظرون مقعدًا شاغرًا في الحافلة.
ولكن ما الداعي لكل هذه الحسرة؟ الشعراء مثلهم مثل بقية البشر، يولدون ويموتون. ملوكًا، تجارًا، جنودًا، أو مهرجين كانوا، نصيبهم النهايات الحزينة. إلّا أن موت الشعراء يختلف! لا تسألوني كيف؟ وكأن نهاياتهم عصارة محلاة ومركزة للأسى.

مديح لشاعر آخر
كان يمكن لأمجد ناصر (1955 ـ 2019) أن يكون ضمن شعراء (انعطافة السبعينيات)، أو مجموعة (منذر مصري وشركاه ـ 2011)، على السواء. وذلك لأنه، في رأيي، أحد أشد الشعراء العرب قربًا من التجربة الشعرية السورية الجديدة، من رياض الصالح الحسين في "منذ جلعاد يصعد الجبل" (1982)، إلى نوري الجراح في "سرّ من رآك" (1994)، إلى عادل محمود في "الحياة كسرد متقطع" (2004)! ربما يفاجأ البعض بهذا. ولكنه باعتراف أمجد نفسه، عندما راح يخبرني كيف أن شعره بات ينحو لكتابة قصائد تشابه، تطابق، الحياة اليومية ببساطتها وعمقها، ومباشرتها وتقريريتها. وأظن الشاعرة ندى منزلجي كانت على علم بهذا التوجه الشعري الطارئ لأمجد، كما في رسالة قصيرة لعادل أطلعني عليها ذات يوم! وكما بالدليل الذي سأورده كخاتمة.



صدم الجميع إعلان أمجد عن مرضه العضال، بذلك الرثاء العميق لنفسه، الذي عاد به لبلاغته الأصيلة! ما جعلهم فجأة ينتبهون لفداحة خسارتهم بفقدانه المؤكد! فسارعت مؤسسة محمود درويش ومنحته جائزتها للثقافة والإبداع (2019)، تبعتها وزارة الثقافة الفلسطينية، باسم الرئيس محمود عباس، بمنحه وسام القدس للثقافة والفنون. وفي بلده، صدر مرسوم ملكي بمنحه جائزة الدولة للآداب، كما تم تسليمه درع الثقافة الذهبي. واختير كشخصية العام لمعرض عمان الدولي. ثم عندما توفي، تم نعيه رسميًا في فلسطين والأردن. وأذيع خبر رحيله، مرفقًا بصوره، في أهم الأقنية التلفزيونية العربية، شفاهية، وعلى شريط الأخبار المستعجلة. ماذا أكثر؟

عشْ تبكِ
أما عادل محمود، الذي كان يمتهن الكار نفسه، الشعر والصحافة والرواية، صاحب 7 مجموعات شعرية، وروايتين، إحداهما "إلى الأبد... ويوم" فازت بجائزة دبي للإبداع (2007)، ومخطوطة بعنوان "بائع النسيان"، أودعها عندي، في بداية ظهور أعراض مرضه، طالبًا مني قراءتها... بلا رحمة! وأربعة كتب يوميات ومقالات وخواطر. عادل الذي توفي نتيجة المرض نفسه، ورم دماغي، لا بل ثلاثة أورام دماغية، والذي بقي ممددًا على السرير غائبًا عن الوعي ثلاثة أشهر في بيته، فلم تعلن عن وفاته أي قناة تلفزيونية، حتى السورية منها، ولم تقم أي جهة، رسمية أو غير رسمية، برثائه، لا وزارة، ولا اتحاد كتاب، ولا اتحاد صحافيين، ولا جمعية ثقافية، ولا رابطة أدباء، داخل سورية، أو خارجها! أصدقاء حزانى متناثرون، كتبوا عنه مرثيات حزينة متناثرة، استعادات، ذكريات، وبعضهم وجدها مناسبة لمقاضاة عادل على مواقفه السياسية الملتبسة! كما حدث ويحدث لجميع من يغادر الحياة من السوريين، حتى بات محقًا ما قلته يومًا، ولو على سبيل المزاح: "لا مصلحة لأي سوري ذي اعتبار ما أن يموت هذه الأيام!". أمّا أنا، الذي منعت نفسي من السفر إلى دمشق ورؤيته على تلك الحال، الأمر الذي، أعترف، لا طاقة لي به، فقد خطرت لي أثناء احتضاره عبارة لا تزيد عن كلمتين، احتفظت بها ليوم وفاته، وها أنذا أكتبها الآن: "عش تبك".

المأثرة
ولكن مأثرة حدثت في وفاته، مأثرة حقيقية، في زمن انعدمت فيه المآثر بأنواعها، وكأن عادل بدوره يحتفظ بها ليوم وفاته! لنهايته، لجنازته! وهي وصيته! ليس لأنها، لا سابق لها، فهي نفسها ما أوصى به سعد الله ونوس، وحنا مينه، على أن تكون جنازاتهم بلا طقوس دينية! على ألا يدفنوا، كمسلمين ومسيحيين، ولا كعلويين وسنة! بل كبشر طلقاء من أي انتماء، سوى للبشرية، كبشر أحرار من طوق الدين، الذي يطوقهم به الآخرون، أكثر من الدين نفسه. ولكن ما لم يحصل لسعد أو لحنا، بسبب أن أهلهم لم يوافقوا على ذلك، أو، ربما، رضخوا، لشروط المجتمع، والطائفة، والعشيرة! حصل مع عادل.




جيء بجثمان عادل في صندوق (م د ف) بسيط مغلق، من المشفى في دمشق، مباشرة، إلى قريته (عين البوم) قضاء الحفة ـ اللاذقية. على الطريق فتحوا الصندوق لتضع ابنته فيه ما أوصاها عادل به، دفترًا وقلمًا، وغليونًا، وربعية خصر معدنية رافقته في سفراته سنين طويلة، مملوءة بشرابه الكحولي المفضل. أنزلنا التابوت في الحفرة لصق عرزاله الذي بناه بنفسه، وقضى فيه الأصياف العشرة الأخيرة من حياته عائدًا إلى طفولته، ثم أهلنا عليه التراب من دون أي تلقين، أو عظة، أو أي طقس ديني.
لم نكن كثيرين حول القبر، أصدقاء خلص وأقارب، واقفين بصمت مطبق، وكأن على رأسنا طير. هذا الطير لا ريب كان عادل نفسه.

بماذا جاءت حلب ودمشق واللاذقية إلى القنيطرة؟
أما ما وعدت أني سأذكره في الخاتمة كدليل على أن السردية التي مضى إليها أمجد ناصر في نهاية تجربته كان قد سبقه إليها عادل في قصائد عدة من مجموعته "قمصان زرق للجثث الفاخرة" (1978) فهذه مقاطع من إحداها:

إنها القنيطرة
اسم تلك المدينة صغير كقلم طفل، ووجهها كالغربة أسود وحزين، مدينة منفية على حدود الوطن، يمضي إليها المعاقبون، حين يسيئون للوطن بالمحبة، أغلب ساكنيها مجندون للفقر، ولبذلة الخاكي المهترئة، والراتب الضئيل، منذورة للخوف والسكون، سرية كالعشق، وحيدة للغرباء القادمين إليها، هذه الساحة، هذه المئذنة، الخندق، والعسكر، والطمأنينة الكاذبة، هذه الجارية الملعونة في الجغرافيا، وفي حظها الأسود، وثوب زفافها، وحدادها الأسود، اسمها: القنيطرة!
جلست القنيطرة مذلولة في ذهولها، وزهوها القديم، وحيدة خلف جدار يتداعى، تنظف الخرائب، تلملم السبطانات المبعثرة، وأصابع الجند المقتولين، والخوذات المثقوبة، تلمّع الأيام الآتية، تبتسم خلف وشاح، تخزّن الجدائل، والطغاة، وحافية تجيء كل ليلة، إليك حافيةً تجيء!
اختطفتها الأيدي المغلولة، والمفاوضات، زارتها الشقيقات من كل العواصم، جاءتها حلب بصرة بسطرمة وشواء فاخر، ودمشق بالجرائد والكاميرات والأوسمة، اللاذقية جاءت في عربات حديثي النعمة والأميين، وجاءها الناس بأرجلهم وسلال الدموع.
وفي كل مرة، تهترئ أحجار القنيطرة بالنظرات المشفقة، تنتظر ساكنيها القدماء، تنتظر مجدها القديم، وحياة المنفيين الغرباء، وحيدة تبقى في قبضة الليل والمراصد والأمم المتحدة، لم يسكنها أحد، سوى بضع دجاجات، وقطط، والمحافظ!

(29/9/2023).

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.