}

لماذا يصعب عليّ بيع بيت ابني

منذر مصري 22 مارس 2024
هنا/الآن لماذا يصعب عليّ بيع بيت ابني
بيوت لا تحصى في اللاذقية فارغة
بيت في الطابق 11
للمرة الثالثة، يتصل بي صاحب المكتب العقاري الأقرب لبيتي، في حي تجميل الصليبة، يريد أن يرى، أن يعاين، بيت ابني الذي يقع في العمارة ذاتها، ولكن في الطابق 11. يقول إنه لن يستطيع مساعدتنا في بيع البيت ما لم يره على أرض الواقع! وللمرة الثالثة، أعتذر، بحجة أني مشغول، خارج المدينة، لدي ضيوف، من دون أن أحدد له موعدًا قريبًا خلال الأيام القليلة القادمة، كما يطلب مني، وكما أجيبه: "إن شاء اللـه... أنا سأتصل بك"!
أبتاع ابني هذا البيت منذ 7 سنوات، من غير أن يراه، حتى اليوم، سوى بالصور، ولم يكن جاهزًا للسكن بعد. أنا، الأب السبعيني، عملت لأربع سنين، وإن على نحو متقطع، في إكماله وتجهيزه على أفضل وجه، حتى المفتاح كما يقال، وما أدراك ماذا يعني إكمال وتجهيز بيت في الطابق 11! فبسبب انقطاع الكهرباء أغلب الوقت، وتعطل المصعد طول الوقت، كنت أصعد ذلك الدرج الطويل الذي لا ينتهي، على قدمي، مع أخذ قسط قصير من الراحة على شرفة شقة في الطابق الثامن ما تزال على الهيكل، وأهبط كلما تطلب مني الأمر، لا أدري كم من المرات في اليوم الواحد، وأنا أقول في نفسي: "الحمد للـه أنه ما يزال بي ما يكفي من القوة، وما يلزم من العزم، لأجل مساعدة ابني في تجهيز البيت الذي سيقطنه مع عائلته، في زيارته القادمة القريبة لبلده، ثم في عودته الأخيرة إليه. في النهاية، لا بد له كما لكل من تغرب للعمل، أو غادر البلد مؤقتًا نتيجة وضع ما ولهدف ما، من أن يعود!".

الأبناء البعيدون
إلا أن ابني منذ سنين عديدة لم يقدم على زيارة بلده، لم يزرنا! علمًا بأنه لا يوجد ما يمنعه من القيام بذلك، فقد دفع بدل الخدمة العسكرية منذ سنين، وليس على اسمه أي إشارة، ووضعه المادي بالتأكيد يسمح له، ولكنه لا يفعل! يرسل كل سنة عائلته الصغيرة، زوجته وابنتيه، ليقضوا الصيف بيننا ويعودوا. ونحن كل ثلاث، خمس سنوات، نلتقيه في بلد ما، الإمارات غالبًا، حيث يعمل ابني الأصغر. أما الرياض، حيث يعمل هو نفسه منذ عشرين سنة، فلم نزرها سوى مرة واحدة سنة 2015! أي منذ تسع سنوات بالتمام والكمال. نعم لدي ولدان، يعملان ويعيشان خارج سورية، بعيدين عني وعن أمهما، مثل... جميع من أعرف من الآباء والأمهات حولي! ولا أستطيع أن أحدّد ما إن كان هذا يشقيني أم يسعدني!




وبينما أنا أشكو هذه الحال، وأسب و... أكاد أكفر! لماذا يجب على السوريين أن ينجبوا أولادًا ويعملوا ويشقوا في تنشئتهم وتعليمهم، وما إن يشبوا ويصيروا ملء السمع والبصر حتى يغادروهم ويحيوا بعيدين عنهم، لا في دول الخليج فحسب، التي خصها الله للسوريين وسواهم ممن ضاقت بهم بلادهم، كي يجدوا فيها سبلًا أكثر ملاءمة للعيش والمستقبل، بل في كل أصقاع الأرض؟ أي معنى للحياة بالنسبة لك كأب من دون أن ترى أبناءك بالقرب منك؟ من ستنقل له ذكرياتك وتصنع معه ذكريات ينقلها لأولاده؟ ما معنى أن يكون لديك أحفاد لا يعرفونك ولا تعرفهم. تفاجأت حفيدتي أني (جدو) أبو أبيها! أقول بينما أنا مضرب على رأسي بمخباط من الحزن، يجيء من يقول لي: "أحمد ربك أن أولادك في الخارج! ماذا تريدهم أن يفعلوا هنا! أي حياة في سورية تريدها لهم! حيث لا عمل ولا مستقبل، ولا أمان ولا استقرار ولا... أمل". وبعضهم يزيد: "لا تكن أنانيًا، عليك بدل أن تفكر بمصلحتك وبعاطفتك أن تفكر بسلامة وسعادة أولادك وأحفادك! وإذا، كما تقول، ما عاد يكفيك أن تراهم وتتحدث معهم على الواتس وبوتيم والمسنجر... والحمد لله أنه لديك الملاءة المادية الكافية، أو أن ابنك هو من يدفع عنك وعن أمه قيمة تذاكر الطائرة، وهذا عمومًا ما يحصل، فاذهبا أنتما إليهم، وإذا كانوا موزعين، كما أغلب عوائل السوريين وأبنائهم، في بلاد عدة، فاذهبوا جميعًا إلى مكان جميل في العالم، والتقوا هناك"!

الابن الوحيد
يدخل معلم الكهرباء ومعه شاب يكاد يكون نسخة طبق الأصل عنه، ابنه بالتأكيد! ما يجعلني أتساءل: "ترى هل لأجل هذا نصير آباء؟". ولكن في حالتنا، لا يكفي أن يكون هاني ابن أبي هاني ليبقى ويعمل معه، بل لا بد له وأن يكون ابنه الوحيد. ولأنه لو لم يكن كذلك لكان إما في الخدمة العسكرية، أو خارج البلد. لأنه، ويكاد يكون أمرًا عسيرًا على فهم عدد من المتابعين، كيف أن النظام السوري لم يبطل، ولو إلى حين، إعفاء الأبناء الوحيدين من الخدمة العسكرية، وهو يعاني كل هذا الضيق! كذلك معلم البلاط، ابنه، على يفاعته، يتولى القيام بمعظم العمل، ومن دون أن أسأله، أعلم أنه ابنه الوحيد. نعم، خذها كبديهة، كلما رأيت أبًا مع ابن بالغ يزيد عمره عن العشرين سنة، فلا بد وأنه ابنه الوحيد! غير أن الأبناء الوحيدين يجدون أن من حقهم ألا تتحول هذه الميزة إلى لعنة عليهم، أي أن تضطرهم للبقاء والعيش غير الكريم في البلد، فلماذا لا يغادرون هم أيضًا، ويسعون في الأرض للحصول على حياة أفضل!

الآباء الوحيدون
وهكذا تصير حالة عامة أن الآباء والأمهات السوريين يقضون الباقي من أعمارهم وحيدين. يشيخون ويعجزون وليس في قربهم من يمدّ لهم يد المساعدة، فما بالك يد الحنو والحب؟ وتصير حالة مأساوية ما إذا مرضوا واحتاجوا من يأخذهم لعيادة الطبيب، أو يبقى بجوارهم في المستشفى! الأمر الذي ليس سهلًا على الأبناء بدورهم، وخاصة أولئك الذين لأسباب عديدة، منها الإشارات الأمنية التي ما تزال عالقة بأسماء كثير منهم، لا يستطيعون القدوم، وحتى إن استطاعوا فلفترات تبقى قصيرة ومتقطعة! فلديهم أعمالهم وأيضًا أبناؤهم! أعرف كثيرًا من الآباء والأمهات ماتوا من دون أن يتمكن أولادهم من القدوم لوداعهم، أو حتى مجرد إلقاء نظرة أخيرة عليهم! فتكفل أقارب وأصدقاء وجيران، وأحيانًا غرباء، بتكفينهم ودفنهم! نعم أعرف آباء وأمهات رحلوا ولم يكن هنالك من يقف في عزائهم! أتكلم عن هذا، وأشعر بالخوف أن يحدث لي ولزوجتي الأمر نفسه، مثلهم!

مدينة اللاذقية السورية

درس الابن
بيوت لا تحصى في اللاذقية فارغة. عائلات كثيرة غادرت مع كامل أفرادها. هناك عمارات قائمة وسط المدينة، جميع بيوتها مغلقة! فما بالك بالضواحي والأحياء الجديدة! حتى إن هناك ظاهرة، وإن كانت ليست شاملة، يأتي أصحاب هذه البيوت إلى البلد من مهاجرهم البعيدة خصيصًا لبيعها، يأتون للمرة الأخيرة، يبيعون كل شيء ويمضون إلى غير رجعة! المشكلة أن الأسعار بالحدود الدنيا! العرض أكبر من الطلب بما لا يقاس. هناك بيوت تباع مع عفشها بتراب المال، كما يعبر عندنا. الأمر الذي أضعه كحجة منطقية عندما يسألني ابني لماذا لست راغبًا في بيع البيت، رغم أنه أخذ قرضًا من البنك واستدان مبلغًا من صديق له لشراء بيت في الرياض، بدل البيت الذي يسكنه منذ عشرين سنة ويدفع إيجاره جزءًا كبيرًا من دخله! أقول له: "لو كان هناك سعر جيد فلا مانع عندي من بيعه! إنه في الطابق 11، وهذا ما بات غير مرغوب به على الإطلاق هذه الأيام. ربما غدًا عندما يتحسن وضع البلد، أو عندما تعود الكهرباء ثلاث ساعات بثلاث ساعات، لا نطمع بأكثر، وتعود المصاعد، ولو جزئيًا للعمل، تعود العقارات لأسعارها الصحيحة!". يتقبل ابني ذو الروح الطيبة أي شيء أقوله. وكأنه يفهم ويقدر حقيقة مشاعري، هذا الابن الذي قلت عنه: "فات أبي أن يعلمني أن الحياة فرصة عطاء، فعلمني ابني". وكما كنت دائمًا أعقب خالطًا المزاح بالجد: "ولكن لا أظنني تعلمت!"، فليس الأمر بهذه السهولة بالنسبة لصنف البشر، الشعراء والرسامين، الذين أحشر نفسي بينهم!

كي يبقى للسوريين وطن
قد يقبلها مني البعض باعتبارها حالة نكران مطلقة لما وصلت إليه حال سورية اليوم، وهو تفسير يتطابق مع إصراري على البقاء فيها: "باق طالما أستطيع البقاء"، كما كان خالد خليفة يجيب في كل مرة يسألونه: "لماذا لم تغادر سورية؟"... أعرف أن ملايين السوريين تهدمت بيوتهم وضاعت ممتلكاتهم وذكرياتهم، وأعرف أنهم فقدوا أحبة وأعزاء يفوقون كل ما قد يمتلكه المرء أهمية وقيمة. وأعرف أيضًا أنه لا معنى لهذه المكاشفة الوجدانية، لهذا العناد العاطفي الزائد مقابل كل تلك الخسارات الكبيرة التي دفع السوريون من أرواحهم ودمائهم ثمنًا لها. نعم السوريون، يا لحظهم العاثر، دفعوا أثمانًا باهظة مقابل خسارات لا انتصارات! إلا أني أشعر، أو أخاف أن أشعر، إذا فعلت! إذا اضطررت وبعت هذا البيت، بيت ابني! فسيكون الأمر وكأنه إقرار بيأس مطلق، إقرار بهزيمة ليس بعدها سوى العدم! وكأنه إقرار بأنه لم يبق شيء يهم، لم يبق شيء له معنى! ضاع حلمي أن يكون ابني بقربي وأنا أعبر السنوات الأخيرة من حياتي، ضاع حلم ابني بأن يكون له في بلده بيت يعود إليه ويحيا فيه مع عائلته! مثله مثل ملايين السوريين، آباء وأبناء وأحفادًا، الذين يشعرون بأن سورية ما عادت وطنهم، وبأنهم، في الحقيقة، ما عاد لهم وطن!

مقالات اخرى للكاتب

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.