}

عاشَتْ العربية في غرْبتها (9)

دلال البزري دلال البزري 12 نوفمبر 2023
استعادات عاشَتْ العربية في غرْبتها (9)
أنا وزكريا بائع التشيكليتس في كلية التربية ببيروت 1974
تعريف:
عنوان هذا الكتاب، الذي ننشره على حلقات أسبوعية كل يوم أحد، تفصّله ثلاثة خيوط مختلفة:
ــ في الخيط الأول، يتكلم بصيغة الغائب المفرد. أي أنني أصف فيه محطات من حياة شخص، هو أنا: في إبحاري بالعربية، عبر أحداث سياسية ـ ثقافية.
ــ الخيط الثاني: أن العربية الراهنة ما زالت عائشة. ما زالت تقاوم من أجل البقاء، رغم تعثر أبنائها وإهمالهم لها. ويدعي هذا الكتاب بأنه ذرَّة في رمال إرادتها بالحياة.
ــ الخيط الأخير حماسي، يشبه صرخات التمنّي بالبقاء، مثل "يحيا الملك!" أو "يعيش الزعيم"! أقول "عاشت العربية!"، بمعنى أنني أتمنى لها البقاء، وتجاوز وحْشتها.

الوقائع المروية في هذا الكتاب كلها حقيقية، غير متخيّلة. وهي ناقصة بالتعريف. وأنا مسؤولة فقط عن صدقها.


الجامعة اليسوعية: 1971 ـ 1972
الجامعة اليسوعية، فرع الاقتصاد، خيار صعب على أبي، نظرًا لأقساطها ولارتفاع ثمن الكتب الواجب امتلاكها لمتابعة الدروس. ولكنه لا يعترض.
أجواء طلاب اليسوعية لا تختلف كثيرًا عن "الإيكول دي ليتر". في فرعنا، الاقتصاد، معظم الطلاب من اليسار. بينهم أعضاء في منظمتنا. الفرنسية، ومعها شيء من الإنكليزية، هي لغتهم. لا حاجة للعربية، ولا مكان لها في الدروس، ولا في الكافيتيريا. وهم أيضًا أبناء عائلات أكثر من ميسورة، "برجوازية"، كما يعيد الرفيق نادر على مسامعنا أثناء تناولنا القهوة، بقهقهة عالية، يمنِّن بها صحبه على "التزامه" اليساري، هو ابن العائلة الثرية ذات النفوذ.
"نضاليًا"، هذه الجامعة لا تناديني. مطالب طلابها، إذا ارتفعت، لا تشبه مطالب الجامعة اللبنانية. ولا بيئتهم ولا ملبسهم ولا طريقة كلامهم، ولا تجاهلهم للعربية. أبقى خارجها، أسرح وأمرح بين العمال، والطلاب الآخرين، أبلغ بمشاويري فلاحي عكار. الرفيق ريمون يلح عليّ لكي أرافقه في جولات "التحريض الفلاحي". عكار، شمال لبنان، أتعرف عليها وعلى أهلها لأول مرة، وعلى لسانهم خصوصًا.
كلما اكتشفت لهجة لبنانية جديدة، أعود إلى خارطة العالم، وأبحث عن "نقطة" لبنان، وأقارنها بغيرها. فأندهش من جديد، وللمرة المئة أقول ربما أنها الأخيرة، بأن هذا اللبنان المتناهي الصغر... هل يعقل أن تتنوع لهجات أهله إلى هذه الدرجة؟ يتعدى تنوع الطوائف والمناطق، بل يجملها ويغطيها؟
بعد ثلاثة أشهر من دخولي اليسوعية، في نهاية العام، أتزوج من الرفيق ريمون، واسمه إسماعيل البواب. وأعود إليها في اليوم الثالث، على أساس أن الزواج لن يمنعني من متابعة دراستي. ألتقي بالرفيق نادر في الكافيتيريا، يسألني عن غيابي في اليومين الماضيين.
ــ تزوجتُ...
ــ ماذا؟! تزوجتِ!؟ من دون عرس ولا حفلة؟
ــ إنه زواج رفاق...
ــ زواج الطَفْرانين... ها ها ها.

***

كلية التربية- الجامعة اللبنانية: 1973 ـ 1978
في نهاية العام 1971، أتزوج إذن من الرفيق ريمون إسماعيل، وبعد ذلك، أنجب ابني همام. ثم "هجرة" إلى الكويت تدوم سنة. ما إن أصل إلى الكويت حتى أرغب بالهروب منها. حرّها لهيب، وشمسها حريق. وأبنيتها فقيرة، مقشَّرة، تأكلها الرطوبة، وقصور أبنائها وبناتها، لباسهم، مجوهراتهم، نواديهم، سياراتهم... فروقات شاسعة، أين منها تلك التي كنا نحرض عمالنا على الوعي بعسفها، والنضال ضدها. والكلام مع كويتيين ليس متاحًا؛ فصل "المجتمعين"، الأصلي والوافد، ليس منصوصًا عليه بقانون، إنما ببركة بديهية لا تحتاج إلى كلمات.
الرفيق ياسر عبد ربه يؤنس ليالينا، بصفته مندوب الجبهة الشعبية الديمقراطية لتحرير فلسطين في الكويت. والجبهة "فرعنا" الفلسطيني. نجتمع به في مكان شبه "سري"؛ بضعة رفاق لبنانيين وفلسطينيين، يبلغنا بآخر التطورات، والموقف السياسي. نناقشه، نسأل عن أساليب النضال الكويتية... نحاول إحياء جوَّنا اللبناني السابق. ولا نفلح الا بالقليل من الاستئناس.
أعود إلى لبنان. وأبحث الآن عن جامعة تدفع لي، لا جامعة أدفع لها. أسأل صديقتي أرليت.
ــ ليس لكِ غير كلية التربية. فرع من الجامعة اللبنانية، يعطيكِ ولا يأخذ منك. عليكِ أولًا اجتياز مسابقة، كونْكور، ينافسك عليها مئات من الطلاب، والمطلوب ستين طالبًا فقط. وإذا كنتِ من بين الفائزين الستين الأوائل، تصبحين طالبة في هذه الكلية، وتحصلين على منحة شهرية، مئتي ليرة لبنانية. والحضور إلزامي مثل المدرسة.
ولكن، بأية مادة أتقدم إلى الامتحانات؟ نسيتُ معظم المواد الدراسية. أضعت عامين وكمْ شهر. وفي العام الأخير، بعد الزواج والإنجاب، كنتُ ألوذ من تعبي بقراءة الصُحف والروايات الفرنسية، أو المترجمة إليها. أفكر بكلام أرليت، وأحسب بأن مادة الأدب الفرنسي هي الأقرب إلى معرفتي الآن، أقرب من الفلسفة، التي استهلكت رهاناتي عليها في كلية الآداب قبل ذلك بثلاثة أعوام. وأقرب أيضًا من الاقتصاد الذي أحياه جنوحي المؤقت نحو فهم الاستغلال.
أتقدم إلى الامتحان، وفي عقلي كل الكتب التي قرأتها حتى اللحظة، من دون خطة، أو برنامج... هكذا، كما طابَ لي. أستشهد بها، أنقدها، أحكي مختصرًا عنها، بشيء من الترتيب، العائد فضله إلى التثقيف الحزبي في منظمتنا. ومن دون أمل كبير بالنجاح. وأنسى الامتحان، لا أرجو منه نتيجة. وتحت الضغط المعيشي، أؤجل الجامعة ومتابعة الدراسة، وأبحث عن وظيفة في شركة طيران الشرق الأوسط، بواسطة أحد أقرباء زوجي.
ــ إن شاء الله خير، يقول لنا الوسيط، بعد خروجنا من مكتب مدير الشركة.
ولكن بعد يومين تأتيني النتيجة عن طريق أرليت نفسها، بأنني نجحت في الامتحان.
هكذا، صرت طالبة بمنحة مئتي ليرة لبنانية في كلية التربية، قسم الأدب الفرنسي.
وقبل الدروس، هنالك الانتظام الحزبي. فأكون عضوة في الخلية التي تدير العمل الطلابي في الجامعة. ومسؤولنا شربل داغر؛ الطالب في قسم الأدب العربي، السنة الثالثة، شاعر، وضليع باللغة العربية. ومن الأول، يوقظ شربل رغبتي بالعربية، بعدما انحسرت قليلًا بعد الزواج والإنجاب، وكأن خصوبة الإنجاب تغلق على غيرها من الينابيع.
يفرز شربل بين طلاب الجامعة بحسب تخصصاتهم. هؤلاء يعرفون العربية، وهؤلاء لا يعرفونها. وغالبية الفئة الأخيرة هم طلاب، أو بالأحرى طالبات القسم الفرنسي والفلسفة. ماري، هدى، حنان، ندى، جورجيت، دينا... مهما تنوعت صفاتهن يهمل شربل عربيتهم، بنوع من الأبوة العابسة.
يستفزني شربل. كأنه يحثّني على استئناف عربيتي، بالكلام والقراءة وتركيز اهتمامي على الصحافة، التي تضج بالعبارات المسْتحبّة، وبالأحداث المثيرة دائمًا للاهتمام. وأحيانًا، "أبادر"، كما يوصينا دائمًا المسؤولون الحزبيون، فأحاول تجاوز الكلام والقراءة، أطلب من شربل أن يكلفني بكتابة الشعارات المطلبية والسياسية، الموجهة لطلاب كليتنا.
ــ لا! غير ممكن أنت ضعيفة بالعربي...
ــ طيب جرّبني....
ــ لا تضيّعي وقتك...
فأغتاظ، وأحضِّر له مقْلبًا لغويًا عربيًا. أكتب شعارات منسجمة مع "خط" منظمتنا. أشتغل عليها طوال الليل. وفي اليوم التالي أقدمها لشربل، على أنها من صياغة رفيقنا الصحافي المعروف جوزيف سماحة.
ــ أنظر بماذا أتحفنا الرفيق جوزيف...!
يتفاجأ شربل.
ــ ولماذا يكتب لنا شعارات؟ هل يعرف أمور الكلية ومطالبنا؟
ــ لا، لا... أنا طلبت منه ذلك، كنوع من الدعم في الأفكار والأسلوب... تعلم أنتَ شطارته في هذا المجال.
ــ طبعًا طبعًا... هاتِ لنرَ.
وعلى وجهه معالم إعجاب مُسْبق.
يتناول الورقة باحترام، ويقرأ. فيستحسن الشعارات:
ــ  بديعة...!
ــ بديعة؟؟ متأكد أنها بديعة؟
ــ أكيد... لا غبار على هذا الأسلوب، وهذا المضمون.
ــ إذًا، إعلم أن الذي كتب هذه الشعارات هو أنا...
ضحكنا كثيرًا بعد هذه "الحادثة"، وبقينا نتندّر بها طويلًا، كواحدة من طُرْفاتنا.
شربل عاد واستعاد روْنقه في إحدى جلسات الجمعية العمومية، وكانت مخصصة لنقاش عام عن مطالبنا وإنجازاتنا بصفتنا الجهة الفائزة في الانتخابات الطلابية للاتحاد الوطني لطلاب الجامعة اللبنانية. وكنت قد فزتُ للمرة الثانية مندوبة عن منظمتنا في هذه الانتخابات. شربل هو المسؤول الحزبي، ومن مهماته أن يتكلم في هذه الجمعية. قبل انعقادها، ونحن واقفون على باب القاعة، أقول له بأنني أود طلب الكلام بعدما ينتهي هو.
ــ لا ممنوع، أنا وحدي أتكلم.
ــ ولكنني مندوبة الطلاب.
ــ لا، ممنوع...
ــ مهما كان القرار... ومهما كان... نقد... إنذار... تأنيب، سأتكلم!
أسجل اسمي، وعندما يأتي دوري وأقف على المنصة، يختفي صوتي، ولا أعود قادرة على النطق بكلمة واحدة، فأنسحب من المنصة. وقتها، اعتقدت بأن عقلي أمر صوتي بالصمت، لأنني لو تكلمت، سأكون قد اقترفتُ مخالفة حزبية سوف أحاسَب عليها. بعد سنوات، وصرتُ أتكلم بالعربي أمام جمهرة من الناس، من دون ارتباك، أفكر بأنني خرستُ في تلك الجمعية العمومية لقلّة ثقة بنفسي، قبل الخشية من التأنيب الحزبي؛ كانت أول مرة أحاول التكلّم بها أمام جمعٍ من الناس، وباللغة العربية، بعد محاولتي الأولى الفاشلة في كلية العلوم.




صحيح أنني شاركتُ في الحملة الانتخابية الطلابية بصفتي مرشحة منظمتنا في "الاتحاد الوطني لطلاب الجامعة اللبنانية". لكن كلامي مقتصر على جذب أصوات الطلاب، فردًا فردًا، أو بمجموعات صغيرة، ولا مرة يتجاوز عددهم الثلاثة، أو الأربعة. وفي مؤتمرات الاتحاد نفسه، لا أخطب، لأنني لست سوى مندوبة لحزب له وجوهه المعتمدة، بصفتها قيادية. وأكتفي في هذه الجلسات بالردّ على هذا المندوب اليميني، أو ذاك، ويكون الردّ سريعًا مقتضبًا. المهم أن هذا المنع يؤخّر محاولاتي العربية المحكية أمام الجمهرة، والتي أحسبها وقتها من دعائم تقدمي في العربية. ومن أصعبها، لأن التكلم أمام جمهرتنا يُفترض أن يتم بالعربية النحوية، التي لا أحسنها.
لكن شربل لا يخذلني دائمًا. قبل "حادثة" منعي من الخطاب، وفي اجتماع خليتنا المخصص للانتخابات الطلابية في سنتها الثانية، يثير أحد الرفاق موضوع الأسماء التي ترشحهم منظمتنا. لا يريدني أن أترشح من جديد، ويقترح اسم رفيق آخر.
ــ لماذا يا رفيق؟ ما مشكلة الرفيقة؟
ــ تعرفون... امرأة... متزوجة... وطفلها الصغير...
ــ لهذا السبب بالذات... إنها أم... أرأيت كيف تحمّس لها الطلاب من "حزب الكتائب" اليمينيين، عندما حضرت مع ابنها إلى الكلية؟ كلهم تجمعوا حولها، يناغشون ابنها....؟ ألم تسمع أحدهم يقول صراحة أنه سيخرق لائحة اليمين، يشطب أحدهم ليضع اسمها بدله؟
فيكون نقاش، وانقسام في الرأي بين مؤيد للاقتراح ومعارض. وأصحاب الرأي الأخير ليسوا على درجة حماسة الرأي الأول. ولكن الرفيق الذي يقترحونه مرشحًا بدلًا مني، سعادة نويهض، جدير بالترشح: هادئ، موزون، محبوب بين الشباب، يستطيع أن يخوض سجالًا من دون أن يتحدّى أحدًا. وهو بالمقارنة مع طبائعي الحادة، له الأفضلية بالترشّح. ثم قول أحد الرفاق، دفاعًا عن ترشح سعادة:
ــ هل نسيتم ما حصل في العام الماضي، في المؤتمر العام لـ"الاتحاد الوطني..."، في كلية الحقوق، عندما تناولت الرفيقة أحد المندوبين من حزب "الكتائب" بعبارتها اللاذعة... وكيف انتظرها الكتائبيون في "كاراج" الكلية، كانوا خمسة، أو ستة... متأهبين لضربها... وكيف تدخل مسؤولهم، ميشال سماحة، لردعهم...؟ ما الذي كان يمكن أن يحصل لو لم يكن موجودًا....!؟
وبعد قليل من الأخذ والردّ، الرفيق شربل ينهي النقاش بقوله:
ــ لا حاجة لاستبدال الرفيقة برفيق آخر يمثلنا في "الاتحاد". فالرفيقة هي في الواقع تساوي رفيقين. بالأصوات التي تحصدها وبنشاطها الدائم...
"أن أكون على قدر رجلين"، راسخ في ذهني من زمان. من أيام مراهقتي الأولى، ولقبي "حسن صبي". وفي أواسط هذه المراهقة، بين الرابعة عشرة، والتاسعة عشرة، بدأت أتلمّس الفروقات بين البنات والصبيان، أتأثر بكلمات البنات المتمرّدات من حولي، ومن قراءاتي "الملتزمة". وكتاب "أصل العائلة والملكية الفردية والدولة"، لفرديريك أنجلز، هو ربما أولهم؛ حيث يصوِّر المؤلف حياة من المساواة بين الجنسين، نوعًا من الجنة على هذه الأرض، حتى جاءت الزراعة ومعها الملكية الخاصة، وبعدهما الدولة، لتحصر النساء في الدواخل، وبوظائف بيولوجية.
ولكنه ليس الكتاب الوحيد: كتاب سيمون دي بوفوار، "الجنس الآخر"، ومفاده أننا لا نخلق نساء، إنما نصبح نساء... إسحق دويتشر، صاحب "الثورة الجنسية"، وهربرت ماركوز، و"إيروس والحضارة"، الذين لا يريدون حصر الجنس بالإنجاب، وينظرون لإخراج النساء من حصرية هذه الوظيفة... وغيرهم... المهم أنني في تلك الأيام، كنت أتحسَّر على كوني ولدت أنثى، أحسد الرجال على حريتهم وامتيازاتهم، وأتشبه بهم. فأعتز بلقبَين حملتهما: "القلعة"، و"أخت الرجال"، بعد "حسن صبي"، الذي رافق طفولتي.
فأن أكون "بقدر رجلين" صار شعاري السري، بيني وبين نفسي. في أي نشاط، أو دور، أو كتابة أو مبادرة، أو حتى هندام... يرافقني هذا القول. لا أحتاج إلى تذكّره. أغير دواليب السيارة، أخانق شرطي السير، أضع رأسي في المخاطر، أغفل الطبخ من يومياتي، أرتدي أي ثياب، أهمل شعري، وأنهى نفسي عن المساحيق والحلي.
ومنظمتنا تركز على الرفيق "المبادِر". وتعِده في المقابل، ضمنًا أو علنًا، بأن هذه "المبادرات" كفيلة بارتقائه حزبيًا. وبماذا يحلم الرفيق القاعدي، مثلي، غير الدخول في أعالي منظمته، والوصول إلى مستوى الرفاق المثيرين لإعجاب واحترام الجميع؟ رفاق أصحاب قرار، قادرين على حسم نقاشات وصياغة البرامج، والانكباب على إلغاء النظام الطائفي الطبقي، وتحرير فلسطين...
وهذا الطموح، الارتقاء الحزبي، يحرِّك مؤهلاتي "الرجالية"، فأضاعف جهودي. ولا أحاول أن أوفر نفسي منها، وفي عقلي دائمًا قول الرفيق شربل بأن "الرفيقة في الواقع تساوي رفيقين".
أستمرُ على هذه الحمى، أنافس الرفاق، وغيرهم من الرجال بنفس متقطِّع، أكثر من عشر سنوات. وحين أبلغ الثلاثين من عمري، وقبيل أن أهمّ بالاستقالة من المنظمة، أنتبه إلى أن أنوثتي تضيع في هذه الزحمة. وأن الجهود التي أبذلها للتنافس مع الرفاق الرجال تبعدني عن نفسي. وأحيانًا، بأن شخصًا آخر يقوم بالمهمة، ليس أنا. وبأنني قمعت نفسي عندما كنت أستحلي التكلم مع النساء، وأمتنع أو أترفع، باعتبارهن ضيقات الأفق، أقل عقلًا و"أهمية" من الرجال. وبأن ما يسخّفه الرجال من اهتمامات عند النساء، هو في الواقع من صميم الألوان التي تأتي بها الحياة: مثل التفاصيل الصغيرة، صانعة القدر، مثل الجمال اليومي والنظافة والطعام اللذيذ، وحياكة القصص الحية، بالنميمة البريئة، أو الشريرة، أو تلك الخفّة، تلك المجانية، تلك البسمة التي تحملها النساء في بعض أنشطتهن، مثل جلسات طبخ السكّر لإزالة الشعر من الأرجل والأذرع، مثل يوم الحناء وأسرار زيوتها، مثل الطريقة الأمثل لإخفاء العيوب، أو الزوائد...
على عتَبة الثلاثين من عمري، إذًا، أثقب أذنيّ، وأضع الحلَق، لأول مرة، أصبغ شعري بالحناء، أذهب إلى الحلاق، أضع الكحلة على عيني، أشتري كريمات لبشرتي وشعري، أغيِّر ملابسي، من هيبية "فقْرية"، تحب الفقر، كما تقول أمي، إلى هيبية أنيقة، أرتدي الكعب العالي، أسهر على ترتيب بيتي، أحمل ثانية، بابنتي...
وحبل هذا التحول ما زال مستمرًا حتى الآن. ولا أنجح دائمًا في تجاوز تلك الخشونة التي لازمتني في البداية مع المنظمة، أو أنها كانت سابقة عليها، في تاريخي العائلي الأول، وكل ظروفه المتقلّبة، المتنقّلة. وفي هذه الحالة، تكون منظمتنا صاحبة دور فعال في توثيق هذه الخشونة وتمْكينها.
فضولي الجديد: الإسلام. ظاهرة صاعدة بقوة، تُعرف لاحقًا بـ"الإسلام السياسي"، أو "الصحوة الإسلامية". كفكرة وديناميكية جديدة، عمقها من التراث، ولغتها العربية الفصحى، وقوتها من تصورها "الشرعي" للحكم، كبديل عن القومية أو العلمانية التي فشلت في حزيران/ يونيو 1967. أشعر بنوع من الذنب المعرفي، من أنني أتخصص في ما لا أكرهه، صحيح، الآداب الفرنسية. لكنني أراه ترَفًا يضيع وقت معرفة أخرى، جديدة، أنا مشدودة إليها. في سنواتي الأخيرة في الكلية، تبدو علاقتي باللغتين العربية والفرنسية مثل حلقة الغراميات الفاشلة: أنشدّ نحو ما يعصى عليّ، وأعرض عما يسْلِس. مع الفرنسية، السهلة، متعة مسروقة، ومع العربية، الصعبة، وثْبة عاطفية متعثّرة.




كيف أحلّ هذه المعضلة وأنا في نهاية العام الدراسي، ومطلوب مني إعداد موضوع الماستر، الذي سأتخرج بموجبه؟ أقرأ هنا وهناك، أتأخر قليلًا، وأجد غزلًا عربيًا يمهّد للغزل الفرنسي في بداياته، أي القرون الوسطى. ويكون عنوان رسالتي "أثر الشعر الغزلي الأندلسي على شعراء "التروبادور" الفرنسيين في القرون الوسطى" ("التروبادور" هم شعراء وموسيقيو الغزل الفرنسي الأوائل). الصعوبة الوحيدة في الموضوع أنه عليّ قراءة نصوص أندلسية لا أفهمها تمامًا. بعد استشارة أستاذي المشرف، مفيد قهوجي، أختار كتاب ابن حزم الأندلسي، "طوْق الحمامة". أتصفّحه قليلًا، فأشعر بالحاجة إلى المساعدة. ويأتي العون من الدكتورة حياة حمود، أستاذة الأدب العربي في كليتنا، وصديقة أصدقائي، آل شلق. هكذا، أمضي أشهر التحضير للرسالة بزيارات شبه يومية لمنزل الدكتورة حمود، تفتح صفحات الكتاب، وتأخذ بالشرح المستفيض.
ولدى مناقشتي لرسالتي في نهاية السنة، يكون التوتر واضحًا في لجنة التحكيم، بين الأستاذة الفرنسية، وأستاذي المشرف. بإشارات قليلة منه، أفهم أن الأستاذة الفرنسية مستاءة من أن النتيجة هي السبق العربي للفرنسيين في فنون الغزل، هم المعروفون بإرثهم الثري في الغراميات... فكان خلاف بينهما حول الدرجة التي أستحقها، والتي انتهت بتسوية.
عشية الحرب الأهلية، التظاهرة الطلابية الأخيرة، هي الأكثر عنفًا وتسييسًا. والخلاف حاد بين طلاب اليمين وطلاب اليسار حول كل أسباب الاضطرابات المنذرة بانفجار هذه الحرب. شجارات عنيفة في الكلية تبلغ محاولة قتل أحد طلاب الحزب السوري القومي بالسلاح الأبيض.
التظاهرة حاشدة وصاخبة، يتقدمها الطلاب اليساريون، وخلفهم الطلاب اليمينيون الغاضبون منهم، يحملون السكاكين ويهددونهم بها. تنطلق التظاهرة من الجامعة اليسوعية في الأشرفية، متجهة نحو العازرية في وسط البلد. ينتظرها هناك صف مرصوص من رجال الأمن، متأهبين، وخلفهم جيبات عسكرية. واضح أنهم مستعدون لتعنيفنا. ونحن لا نبالي ببنادقهم. نتقدم نحوهم، يتصدّون لنا، نتراجع، ثم نعود ثانية، وكرّ وفرّ، فمجابهة مباشرة وضرب بكعب البنادق. أتلقّى واحدة من الضربات الموجعة، وأرد عليها بصفع الشرطي صاحبها، فيكون اعتقالي، ووضعي في السجن. لا تدوم مدة الحبس سوى أربعة أيام. أخرج من بعدها بكفالة مالية قدرها مئة ليرة لبنانية، يدفعها الاتحاد الوطني لطلاب الجامعة اللبنانية، ممثَّلًا بالشاعر عقل العويط. وصورة عقل، خلف زجاج يفصل بيني وبينه أثناء إجراءات الخروج، مثل الفرج. بعد الأيام الأربعة، حزنتُ خلالها على أهلي، على وجه أبي، وهو يعاتبني بدفء عينيه الخضراوين، أثناء نقلي من مخفر ساحة الشهداء إلى "نظارة" الأمن العام، في حيّ بدارو. كان قلِقًا على ما "تسبّبتُ به لنفسي". لماذا يا أبي؟ سألته عندما خرجتُ، فأجاب بأنه كان خائفًا على شرفي.
بالعكس يا أبي... أًطمئنه، ولكنني لا أروي له تفاصيل تلك الأيام الأربعة في سجنَين: أنتقل من واحد إلى آخر، والفرق بينهما كبير. الأول معتم وقذر، نزيلاته العشر من بائعات الهوى المصريات. هذا واضح من لسانهن، وهيئتهن وملْبسهن. يشبهن ممثلات السينما الكومبارس في الدور إياه. أحاول التكلّم معهن، لكنهن عابسات، وجوههن مغلقة. أفهم بأنني شخص غير مرغوب فيه في وسطهن. أنغلق بدوري على نفسي. وتأتيني النجدة من الخارج بثلاثة كيلوغرامات من البقلاوة والمعمول المدّ، يرسلها لي زوجي، بعد توسط مع رجل الأمن المسؤول. أوزعها عليهن، فتروق الأمزجة.
أنتقل إلى السجن الثاني في الصباح الثالث، لا أعرف لماذا يسمونه "نظارة". غرفة أضيق من سابقتها، ولكنها أنظف، أشرح (أكبر)، تأتيها الشمس من نوافذها المرتفعة، يفصلها عن السجان قضبان عريضة متباعدة. وجليستي في هذه الغرفة متبرجة ومهنْدمة. تبدو عليها كل أمارات مهنتها. مثل زميلاتها في السجن الأول، ولكنها بشوشة ومعطّرة.
أسألها:
ــ بأية تهمة أنتِ هنا؟
ــ الله يستر عليك يا حبيبتي... لنفس السبب الذي أتى بك إلى هنا...
ــ السبب؟ أنا كنت بالأمس في التظاهرة واعتقلوني...
لا تصدق السيدة ماذا تسمع، تتلعثم بفرحها.
ــ حقًا حقًا...؟ تعالي لأضمّك.
وبعد قليل:
ــ هل أنت في حاجة إلى شيء؟ سجائر؟ طعام؟ عصير؟ الحارس يعرفني، وهو يستطيع أن يشتري لنا أي شيء من الخارج.
"كرو" سجائر مارلبورو، وصندوق عصير "بونجوس" على أناناس، وألواح شوكولاتة على أنواعها. وجلسة حكايات لا تصدَّق، ترويها لي هذه السيدة، عن "زبائنها"، وبعضهم مشهور، عن عاداتهم الجنسية، عن لطف بعضهم، وخشونة بعضهم الآخر. هذه واقعة لغوية ثمينة. عبارات ومفردات عربية جنسية كلها باللهجة العامية، تدفع بي إلى "ترجمتها" إلى الفرنسية، ومن بعدها إعادة إجادتها بالعربية الفصحى. ففضول بما كتبه قدماء العرب عن الجنس.
وتندلع الحرب الأهلية في نيسان/ أبريل 1975. بعد شهرين من الرصاص والاشتباكات المتفرقة، وتعطّل الحياة، تتفق منظمتنا مع الحزب الشيوعي اللبناني على احتلال مدرسة رسمية في حيّ الشياح في ضاحية بيروت الغربية ـ الجنوبية، وتحويلها إلى مركز لهما. ومباشرة الأنشطة الحزبية المختلفة في داخلها. نحتل المدرسة، إذًا، نزوّدها بكل ما يلزم للإقامة فيها؛ فرش وأغطية وأدوات مطبخ وبابور كاز وجهاز "لوكسْ" للإنارة، وصابون، وشمع... وتتحول الإقامة اليومية من البيوت إلى المركز. وأنا مع زوجي وابني نشكل واحدة من تلك العائلات الحزبية. أمضي أشهرًا هناك، حتى نهاية السنة التالية، عندما تعود الجامعة وتفتح أبوابها، لاستكمال العامين المتبقيين على التخرج.
في هذا المركز، نتفرغ لمهام "مواجهة الحرب". اجتماعات حزبية نستمع فيها إلى "تطورات الأوضاع"، ننظّم التعازي بالشهداء، نوزع الغاز، نفتح مستوصفًا ونمدّه بالأدوية، نقيم المتاريس... والمهمتان الأكثر انتظامًا: أنا والرفيقة زينب مسؤولتان عن الطبخ، صباحًا. وبعد الظهر، نتوزع في البيوت، حيث تكون جمْعة من النساء، لا يتجاوزن عددهن العشرة، نلقي ما نسميه "ندوة"، أو اثنتين، نشرح "برنامج الحركة الوطنية". وما يتضمنه من مطالب إصلاحية تجاه الدولة الطائفية، وموقف اليمين بكافة أحزابه.... يوميًا، أعيد بها وأزيد، مرتين وأحيانًا ثلاث، في بيت مختلف، وبالعدد إياه... حتى يختفي صوتي في آخر النهار. بعد حين، أنتبه إلى تكرارها، لا أستهوي "إصلاحيتها"، ولا قولبتها وتوضيبها. فيصيبني الملل، "عارض اللا معنى"، الذي سيطاردني دومًا. ولكنني في الوقت نفسه، أنطلق بالتكلم بالعربية في الأمور السياسية، بلا أي تعثر، أو تأخر في البحث عن ترجمة في قاموسي الداخلي.
الحرب الأهلية تداهم كلية التربية أيضًا، بعد عامين على اندلاعها، وأنا في السنة الثالثة. وتنقسم إلى فرعين: الأصلي، الواقع في منطقة الأونيسكو، غرب بيروت، ذي الغالبية المسلمة. والفرع الثاني، الذي تنقّل بين شرق العاصمة وضواحيها، من جونية إلى أنطلياس إلى الدكوانة... أي أننا خلال الأعوام الثلاثة المتبقية للتخرج، تتوقف الجامعة عن نشاطاتها، بالكاد يتمكن الطلاب من الحضور، والدرس والإعداد للامتحانات. وفي فرعنا الغربي، المسلم، يغيب الطلاب والموظفون المسيحيون. وكثير منهم كان يعد "تقدميًا"، أو غير يميني على الأقل. ولا يبقى من المسيحيين في هذا الفرع إلا الرفاق "الملتزمين بخط المنظمة"، القائمة في غرب بيروت والمحظورة في شرقها، ومعهم الطلاب المسيحيين من الحزب الشيوعي والحزب السوري القومي.
الحرب تنال من الكلية، تخطف وهجها. وتخلي الساحة لفراغ لغوي. لا نعود نسمع التعابير الفرنسية، والملاطفة والغنج والفن... وكلها صفات يتفوّق فيها الطلاب المسيحيون خريجو مدارس الرهبان، أو الليسيه الفرنسي، على زملائهم المسلمين، القادمين في معظمهم من بلْدات أو قرى بعيدة. كانت الكلية قبل الحرب مثل محمية بابلية، بالأصول المختلطة لطلابها، مناطق وأديان ولهجات وأذواق وعقليات وأحزاب متصارعة وأساتذة فرنسيين وكتب نتزاحم للحصول عليها. وموسيقى تصدح من "الجوكْبوكس"، وفيروز في كل تجلياتها، القديمة والجديدة، وأسعد صاحب الكافيتيريا، ووجبته اليومية، وحبّه للفاصوليا، والدفتر الذي يسجل فيه ديوننا، ولسانه المجبول بالغزل، الذي لا يعفي أي صبية، وابتسامته المتواطئة على المكان، تريد أن تشعرك وكأنه يرحّب بك في بيته. وزكريا، ذاك الصبي الفاتن بجماله، يبيعنا علكة "التشيكليتس"، يغني، يلاطف، ينقل رسائل الغرام المموَّهة، ويحلف لنا بأنه يذهب إلى المدرسة بعد الظهر... هذه الكلية التي كانت تضجّ بالضحك والشعر والغراميات والطرائف والنوادر والدونجوانيين والمناضلين وأبطال البيغ بونغ، والهمسات والنظرات والخناقات والمصالحات والسجالات... هذه البقعة المضيافة، الجاذبة لشباب بقية الكليات، حتى الأجنبية منها، صارت بعد الحرب صحراء، عراء، تدبّ فيها رياح ثقيلة، ويمتد جفافها حتى البحر القريب منها.
قبل عامَي تقسيم الكلية إلى فرعين، زادت منحة الكلية من مئتي ليرة إلى مئتين وخمسين. ومع ذلك، أنا في حاجة إلى مدخول إضافي. فكانت الدروس الخصوصية للغة الفرنسية، لتلميذة مغنّجة من عائلة ثرية، تسكن في حيّ فردان الراقي.
وفي إحدى الصيفيات أيضًا، أشتغل في مجلة "الحسناء" التي تديرها سونيا بيروتي. كان مطلوبًا مني ترجمة مقالات خفيفة من الفرنسية إلى العربية، يراجعها المحرر دائمًا. والسيدة سونيا تشجعني، وترسلني إلى متجر، أقنع أصحابه بإنزال الإعلانات في صحيفتها. هكذا أتعرف على سيمون أسمر، صاحب فكرة برنامج "استوديو الفن"، كاشف المواهب المبكِّرة، في التلفزيون اللبناني. وزياراتنا المشتركة إلى معظم مناطق لبنان من أجل تلك الإعلانات. ودعوات للغداء في منزله، والتكلم بالفرنسية الصرفة، عن الفنانين الذين يريد إشراكهم في برنامجه، فأُعجب به: من أين له تلك المقدرة؟ فرانكوفوني صميمي، وملمّ بالتراث الموسيقي العربي واللبناني، بالأصوات الشابة التي تتسابق على أداء أغنياته، بالحدسْ الذوقي المرهف، هو مكتشف أشهر نجوم البوب العربي الحاليين.
وفي الصيف التالي، كانت محاولة "عربية" أكثر جدية، مع القسم العربي والدولي في صحيفة "النهار". واثنان من الزملاء فيها، ميشال نوفل، وخير الله خير الله. يشرحان لي ماذا عليّ أن أفعل. أن أتلقى الخبر الآتي من الوكالات، أن أشذّبه وأترجمه، ثم أنزله بصيغة محدّدة، وبنبْرة محايدة. بعد نهاية دوام العمل، أي في الثانية بعد منتصف الليل، يوصلني السائق إلى البيت. لا تدوم هذه التجربة أكثر من عشرين يومًا، بسبب هذا التوقيت بالذات، عندما أعود إلى البيت وأجد ابني مضطربًا، غير مرتاح من هذا التأخر.
فأنتقل إلى صحيفة أخرى، نهارية، "اللواء". والعمل فيها أيضًا ترجمة ملفات من الفرنسية إلى العربية. أتابع ملف "الشيوعية الأوروبية"، الذي يشغل حينها شيوعيي العالم. أحزاب إسبانية وإيطالية تعمل على الاستقلال عن السوفيات، أو الكومنْترن، وعلى خوض المعارك الانتخابية بنسج ائتلافات مع أحزاب أخرى.
بعد المدرسة، المركز في الشياح، وفي هدنة ما بين الدورتين الأعنف من الحرب، أنتقلُ بمهامي الحزبية من القطاع الشعبي إلى القطاع النسائي. المنظمة كلّفت أحد أعضاء مكتبها السياسي، الرفيق نصير الأسعد، بتشكيل هيئة نسائية من حزبيات، تؤسس لهيئة نسائية، تكون إحدى الواجهات الجماهيرية للمنظمة، اسمها "التجمع النسائي الديمقراطي". فأكون أنا، وعدد من الرفيقات، في اجتماعات تحضيرية مكثفة، نناقش فيها القانون الداخلي والبرنامج، تمهيدًا لمؤتمر تحضيري ننوي عقده بعد أشهر. شيء ما غريب ينضح من تلك الرفيقات. ألمُسه خفيفًا، في البداية، ويتّضح بعد حين: من إشارات متفرقة، غير منظورة، أو منظورة، من قعدة، فواصل كلام، نظرة، أو حركة يدين... ومعهم شيء من التواطؤ، أستشفه، يشبه اتفاقًا مسبقًا، لا أفهم كيف عُقِد، ولا كيف نالَ موافقة المجتمِعات من دون نقاش يُذكر: "المشاورات الجانبية" هي التي تقرّر، وليس الاجتماع الحزبي "الرسمي" المعني بموضوع هذه المشاورات.
تأخرت في تفسير هذه الذبْذبات، ولمتُ نفسي على ذلك، وأحلته إلى التعصّب الحزبي الذي يضيع على صاحبه بوصلة الحياة الواقعية. فبإستثنائي أنا، وكذلك وداد شختورة، ورفيقة حمود، كل الرفيقات الباقيات هن زوجات أعضاء المكتب السياسي، وعلى رأسهن سميرة حمود، زوجة الأمين العام للمنظمة. تجمعهن علاقات خاصة، عائلية متبادلة، زيارات ومناسبات وأنواع من الامتيازات، مثل الماء والكهرباء والحرس وشوفير السيارة... أما أنا، فلستُ سوى زوجة عضو لجنة تنفيذية في المنظمة، الأقل رتبة من المكتب السياسي. فيما وداد شختورة هي الصديقة الحميمة لإحدى زوجات رئيس المكتب السياسي، ورفيقة حمود هي شقيقة زوجة الأمين العام. هذا يضيء على ما كنت أحدسه في منظمتنا ويؤرقني، من دون أن أجد له الكلمات. ومع ذلك، فبعد المؤتمر وانتخابنا لوداد شختورة رئيسة لنا، أباشر المهام الموكلة إليّ، "العلاقات الخارجية".
ومعظم هذه "العلاقات الخارجية" تدور في اجتماعات منتظمة بيني وبين جانين ربيز، وليندا مطر. نلتقي نحن الثلاث في منزل جانين ربيز، وهي فنانة تشكيلية مقيمة في رأس بيروت، تمثل كمال جنبلاط، كما تقول، وجنبلاط هو الزعيم الدرزي، رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي. فيما ليندا مطر هي رئيسة "لجنة حقوق المرأة"، وقد أسّسها الحزب الشيوعي اللبناني غداة الاستقلال. نخرج بمواقف مشتركة، نتشارك الأنشطة، نمثل أنفسنا في اللقاءات الأعرض، نتفق على كل حقوق المرأة، نتكلم في ندوات مشتركة، نقابل الصحافيين، نلتقي بمن نسميهم "المعنيين" وقتها، أي قادة الأحزاب اليسارية... وبيننا نحن الثلاث لغة لا مشترك فيها إلا العبارات النسوية الصرفة. والباقي، بين لغة ليندا العريقة بشيوعيتها ومزاجها العمالي الجبَلي، ولغة جانين الفرنكو ـ عربية، الأنيقة، البرجوازية، التي تعرف كيف تتعاطى مع الصحافة. وأنا بينهن، بلغتي الباحثة دائمًا عن ضالتها.
أستقيل من "التجمع النسائي الديمقراطي" بعدما أثقلتني "المشاورات الجانبية".

(يتبع...)

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.