}

سيد قشوع: عن الفشل بإقناع الإسرائيليين بحق الشعب الفلسطيني

دلال البزري دلال البزري 5 أبريل 2024
استعادات سيد قشوع: عن الفشل بإقناع الإسرائيليين بحق الشعب الفلسطيني
سيد قشوع (Getty)
ينتمي سيد قشوع إلى سلالة قليلة من فلسطينيي الداخل الذين اعتمدوا اللغة العبرية في كتاباتهم الروائية والشعرية والصحافية. أولهم كان عطا الله منصور، وقد بلغ اليوم التسعين. كتب في صحيفة هآرتس، وكان محرّرًا فيها. وكانت له رواية مستوحاة من حياته "بانتظار الفجر"، يقول النقاد إن صاحبها يقف فيها "على مسافة واحدة من الأطراف المتنازعة". الثاني نعيم عرايدي الذي توفي عن خمسة وستين عامًا، وهو أكاديمي، وصاحب دواوين شعرية بالعربية والعبرية. الثالث وأشهرهم أنطون شماس صاحب "أرابيسك". كتب الشعر بالعربية في بدايته، ولكنه لاحقًا اعتمد العبرية، وترجم نصوصًا عربية إليها، وإلى اللغة الإنكليزية. أشهر ترجماته، التي قيل كثير عنها، هي رواية إميل حبيبي "المتشائل". وهو يعيش حاليًا في الولايات المتحدة.
وقشوع أصغرهم سنًا وأحدثهم (ولد عام 1975). لم يكتب أبدًا بالعربية، كما أسلافه. ربما لم يحاول. وسوف نعلم لاحقًا أن مكتبته خالية إلا من كتابيَن عربيَين: ديوان شعري لمحمود درويش، وآخر نثري لجبران خليل جبران.
بالعبرية، إذًا، ألفّ قشوع ثلاث روايات، ومجموعة قصص قصيرة، هن على التوالي: "العرب يرقصون أيضًا"؛ "كان هناك ذات صباح"؛ "الشخص الثاني"، و"سندريلا". وكلها تدور حول فلسطينيي الداخل، تهميشهم، دونيتهم، فقدانهم للأمان. يلتقط فيها لحظات من حياتهم، يمسك حبكتها وخيوطها، ويرسم مصيرهم استنادًا إلى أوضاعهم.
إلى جانب الروايات، كان سيد قشوع صاحب عامود منتظم في صحيفة هآرتس، وصاحب برنامج كوميدي ضاحك في إحدى الأقنية الإسرائيلية، عنوانه "شغل عرب"، فيما روايته "العرب أيضًا يرقصون" تحولت إلى فيلم سينمائي، أخرجه إسرائيلي، وكتب هو السيناريو. ونال جائزة برنشتاين الإسرائيلية، المخصصة للكتاب ما دون الخمسين من العمر.
ولكن في تموز/يوليو 2014، يحدث ما يفجر مكنوناته: مقتل مراهق فلسطيني اختاره قتلته لينتقموا لثلاثة مراهقين يهود؛ واندلاع "عملية الجرف الصامد" الإسرائيلية ضد غزة، وجرائم الجيش الإسرائيلي المعهودة ضد أهلها. يقرر قشوع إثر ذلك الهجرة إلى أميركا، ويعلن عن ذلك في مقال مطول ينشره في صحيفة "غارديان" البريطانية؛ رسالة يمكن اعتبارها تلخيصًا لروايات قشوع ولحياته. نتوقف هنا أمام مقاطع منها:
"قريبًا، سأرحل من هنا (...) تكفي بضع شُنَط للأولاد، لن نحتاج إلى أكثر منها. ولا ثياب كثيرة. لن تنفعنا في إلينوي، لن تحمينا من بردها... لم أعُد واثقًا مما أتمنى أن يتذكره أولادي عن هذا المكان المحبوب المنحوس... الأسبوع الماضي فهمتُ أنه لم يعد في إمكاني أن أبقى هنا... اشتريت بطاقات ذهاب من دون عودة. لدي ثلاثة أولاد. ابنتي البكر عمرها أربعة عشر عامًا، وأبنائي تسعة وثلاثة أعوام. نقيم في القدس الغربية. نحن العائلة العربية الوحيدة في الحيّ...
"عليّ أن أقرر ما أريده من مكتبتي. أختار كتبًا رافقتني كل حياتي. كل كتبي بالعبرية، ما عدا دواوين محمود درويش، وأنطولوجيا لكتابات جبران خليل جبران... منذ أن بلغت الرابعة عشرة من عمري، لم أقرأ تقريبًا كتابًا عربيًا.
"قبل خمسة وعشرين عامًا، في الطيرة قريتي حيث ولدت، قال أستاذ الرياضيات لأبي بأن اليهود سيفتتحون قريبًا مدرسة في القدس للطلاب المتفوقين... "هناك سيكون أفضل له"، همس في أذن أبي... إذًا، نجحتُ في امتحان الدخول إلى هذه المدرسة. وفي العمر الذي بلغته ابنتي اليوم، أصبحت تلميذًا في مدرسة داخلية بالقدس.




"كمْ كانت هذه الحالة قاسية، عنيفة... الأسبوع الأول كان الأصعب في حياتي. كنت مختلفًا بثيابي، بلغتي. كل الدروس كانت بالعبرية: العلوم، الإنجيل، الأدب... ولا أفهم منها كلمة واحدة. وعندما أحاول التكلم، يسخر مني الباقون. كنت أود الهروب من هذا المكان، العودة إلى أهلي، إلى قريتي، إلى أصحابي، إلى اللغة العربية.
"وبعد الأسبوع الأول هذا، طلب منا أستاذ الأدب قراءة رواية الأميركي سالنجر، "الحارس في حقل الشوفان". وكان بالعبرية طبعًا. قراءته امتدت أسابيع، وخلصت في نهايتها إلى أمرين غيرا حياتي: الأول أنني قادر على قراءة كتب بالعبرية، والثاني أنني وقعتُ في غرام الكتب.
"وبسرعة، تطورت لغتي العبرية، وصرت أقرأ للكتاب الإسرائيليين، وروايات الرواد الصهاينة، والحرب، والمحرقة. وباللغة نفسها بدأت أكتب عن العرب الذين يعيشون في المدارس الداخلية الإسرائيلية، وكنت مقتنعًا بأن كل ما عليّ القيام به لتغيير أوضاعهم هو كتابة القصص التي روتها لي جدتي: مثل أن أكتب كيف قُتل جدي في الطيرة خلال حرب عام 1948. كيف ضاعت أرض جدتي، كيف ربّت أبي، اليتيم وهو لم يتجاوز الأشهر، كيف كسبت عيشها بقطاف الثمار لدى اليهود. وبالعبرية كنت أريد أن أروي قصة أبي، الذي سُجِن عدة سنوات من دون محاكمة، فقط بسبب آرائه السياسية.
"كنتُ أريد أن أروي للإسرائيليين قصة أخرى، قصة فلسطينية. لأنهم إذا قرأوا سيفهمون، إذا قرأوا سيتغيرون. كل ما عليّ القيام به هو الكتابة. وبها سينتهي الاحتلال. وسأكون حينها كاتبًا جيدًا، سأحرر شعبي من الغيتو الذي يعيشون في داخله. أكتب قصصًا حلوة بالعبرية، وسوف أكون في منأى عن الشر، ثم فيلمًا آخر، ثم مقالًا في الصحافة، وطلّة على التلفزيون... وأؤمّن بذلك لأولادي مستقبلًا أفضل. بفضل حكاياتي، سنكون مواطنين متساوي الحقوق، مثل اليهود تقريبًا. وها أنا أكتب بالعبرية منذ خمسة وعشرين عامًا، ولم يتغير شيء. خمسة وعشرون عامًا وأنا متعلق بأمل أنه يستحيل أن يكون بشرٌ على هذه الدرجة من العمى.



"خمس عشرة سنة لم يحصل خلالها شيء يدعو إلى التفاؤل. ولكنني استمريت بالاعتقاد بأنه يمكن أن يأتي يومٌ يعترف العرب واليهود بروايات بعضهم، أن يكفّ اليهود من نكران النكبة والاحتلال، أن يتوقفوا عن تجاهل آلام الشعب الفلسطيني، أن يكون الفلسطينيون مستعدين للغفران، وأن نبني سويًا مكانًا يحلو العيش فيه.
"لم يتغير شيء.... الأسبوع الماضي، انكسر شيء في داخلي. عندما هجم يهود هائجون على جيرانهم الفلسطينيين وهم يصرخون "الموت للعرب!". فهمت لحظتها أنني خسرت معركتي الشخصية الصغيرة. في الإعلام، على لسان السياسيين، في المؤتمرات التي اشتركت بها، الجميع يفكر "نحن أفضل من العرب"، "العرب لا يحق لهم الحياة في هذه الأرض".
"قريبًا، سأكون بعيدًا من هنا. والآن أنظر إلى مكتبتي، أمسك بيدي كتاب سالنجر الذي قرأته وأنا في الرابعة عشرة من عمري. لن أحمل كل كتبي معي. عليّ أن أخوض غمار لغة أخرى. أدرك صعوبة الأمر، بل ربما استحالته. ولكن عليّ أن أعيش بلغة أخرى. وأقول لابنتي الغاضبة من رحيلنا إلى أميركا: "مهما تفعلين في الحياة، ستبقين بالنسبة لهم عربية إلى الأبد. هل فهمتِ؟" (انتهت مقاطع المقال).
يرحل، إذًا، سيد قشوع إلى أميركا، إلى إلينوي، حيث يستقر مع عائلته، ويدرّس في جامعتها اللغة العبرية والأدب الكوميدي. وبعد عامين على حياته الأميركية، يجيب على أسئلة صحافية عن سبب رحيله عن إسرائيل: "نحن هناك لسنا مواطنين حقيقيين. لا يفترض بنا أن نقارَن بالمواطنين اليهود. علينا أن نقارن أنفسنا بأهالي المخيمات في لبنان، أو الأحياء الفقيرة في القاهرة، وأن نحمد الله على أننا ضحايا تمييز في بلد حديث".
وفي أميركا، يلمس قشوع الفرق: "هنا، في أميركا التمييز... لنقل إنه أقل رسميةً. هنا في أميركا، يمكنكَ أن تختار أين تعيش، يمكنكَ تسجيل أولادك في أية مدرسة رسمية تجدها مناسبة. هذا ليس واردًا في إسرائيل. الناس هناك مفصولون عن بعضهم. هناك مدن يهودية ومدن عربية، ممنوع قانونيًا التنقل بينها. والجامعة التي أدرس فيها هنا رائعة، كوزموبوليتية، منفتحة، والآراء حول فلسطين تغيرت، في حرمها نقاش حيوي، ويهود لا يرون في إسرائيل أرض ميعادهم. أريد أن يكبر أولادي هنا، في هذا المكان المختلف عن إسرائيل".




ولكن قشوع يحب الأمل. مستمر في الكتابة. بعد ستة أعوام على هجرته، يصدر رواية جديدة "التحولات" (2019)، وباللغة العبرية. فيها كل مكونات رواياته الأولى. قصة كاتب يضع قلمه بخدمة قصص آخرين، يكسب منه عيشه، يعيش في أميركا. هو من الطيرة. يعود إليها، لمواكبة أبيه في أيامه الأخيرة، ويروي قصة زواجه الدراماتيكية والطريفة من فلسطين. عن شاب صحافي يتخيل غرامه من فتاة اسمها فلسطين. ولكن فتاة حقيقية اسمها فلسطين في القرية، تستعد في هذه الأثناء للزواج من حبيبها. تصل إلى آذان الأخير القصة المنشورة في الصحافة. وتكون الفضيحة، وطلاقه منها. ثم تحميل البطل الصحافي مسؤولية فعلته بالزواج منها. وكل الحكاية وسط مشهد بات مألوفًا في روايات قشوع، عن مرارة عيش فلسطينية مستدامة.
في مقابلة عربية نادرة، مع موقع قنطرة، بعد حرب غزة، أي بعد أربعة أعوام على صدور هذه الرواية. يتكلم قشوع عن غزة، يعبر عن يأسه، وعن تفهمه لعملية حماس "الرهيبة"، ويعود إلى فعل الكتابة، المشغول باليأس نفسه: "فقدتُ الأمل بقوة الكتابة. لم يكن لدي المال ولا الوسائل ولا الدعم لتغيير أي شيء. كانت الكتابة الشيء الوحيد الذي يمكنني القيام به. ولكن مجددًا عليّ الاعتراف أنني كنت خائفًا للغاية. كتبت في حدود الإطار الذي عرفت أنه كان مقبولًا لدى قراء صحيفة هآرتس وكتابهم اليساريين، إن صح القول. لقد عرفت دائمًا أنه كان في إمكاني فقدان عملي إن تجاوزت المقبول. ومثل جميع الفلسطينيين في إسرائيل، لم يكن لدي مصدر آخر للدخل. ليس لدينا رأس مال فلسطيني في إسرائيل. ليس لدينا المال ولا المؤسسات. بالنسبة لكاتب فهذا محفوف بالمخاطر. وكان ذلك مهينًا للغاية لأنني كنت مدركًا للخطر بشكل مستمر. هذه قصة حياتي وكتاباتي. وكان إدراك هذا الخوف أمرًا مهينًا ومدمرًا (...) وقد كانت الفكاهة موجودة من أجل إضفاء طابع إنساني على شخصياتي، وعلى نفسي وعلى القصص. استخدمتُ الفكاهة لجذب الانتباه. الفكاهة كانت تذكرة النجاة. (...) كنت أتعرض للانتقاد في بعض الأحيان. أتفهم ذلك لأن اللغة ترتبط بالهوية والجنسية. انتُقدِت بسب استخدامي اللغة العبرية، ولكن ليس بسبب محتوى قصصي. هل كان من المشروع الكتابة بالعبرية بوصفي عربيًا إسرائيليًا؟ هل يعني ذلك بالضرورة أنني كنت أخاطب الإسرائيليين؟ ما الثمن الذي كنت سأدفعه مقابل هذا؟ إلى أي مدى فرضتُ - تلقائيًا ومن دون وعي ـ رقابة على نفسي عبر استخدام اللغة العبرية؟".
ويتابع: "في مرحلة ما اكتشفتُ أنني أكتب بنوع من المقاومة للغة نفسها، كنت أتحدى اللغة. كان الناس يقولون دائمًا بأنني أكتب العبرية بلكْنة فلسطينية. وكان هذا أملي، أن يظهر صوتي كفلسطيني، وتظهر لكْنتي كفلسطيني في كتاباتي العبرية".
تجربة قشوع الإبداعية تحثّ على التفكير في علاقة الكتابة باللغة، بالهوية، بمعنى الكتابة نفسها، بجغرافيتها، بسياقاتها. اللغة العبرية المعتمدة لديه هي من صميم قصة حياته. وهذه تعود دومًا في رواياته، وإن بتنويعات مختلفة، وفي مقابلاته ورسائله الصحافية. الشرط الفلسطيني المرفق بها هو الطاغي، بل الوحيد. وهذه سمة المبدعين الذين نشأوا في ظروف استثنائية، انطبعت مأساتها في أعماقهم، وهجست بها كتاباتهم.
وتجربة قشوع تحثّ على التفكير بقوة الكتابة، أو ضعفها، بقدرتها على إحداث تغيير يتوق إليه صاحبها، أو بوظائف أخرى: كالترفيه، أو الجمال للجمال، أو التأمل الخالص...
التفاعل مع هذه الانشغالات يفتح صندوق باندورا... نتوقف هنا فقط أمام ما باتَ واضحًا: إن سيد قشوع ليس أديبًا هامشيًا في إسرائيل. انتظم في أهم صحافتها، نال جوائزها، واخترق شاشتها الصغيرة والكبيرة، تُرجمت روايته إلى عشرات اللغات. كل هذا لم ينفع. هل فقط لكونه فلسطينيًا؟ أم لأن الأدب له مسارات معقدة، طويلة أحيانًا، غير مؤكدة، محفوفة بالقدر والتاريخ، وغيرهما من الطاقات الكونية التي تختار منه هذا دون ذاك؟ أم أن عصر الكتاب والكاتب إلى أفول، فعلًا؟

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.