}

إسحق دويتشر "اليهودي اللايهودي"

دلال البزري دلال البزري 21 أبريل 2024
استعادات إسحق دويتشر "اليهودي اللايهودي"
إسحق دويتشر
إسحق دويتشر ليس غريبًا بيننا. قرأناه في سبعينيات القرن الماضي، ضمن شلّة تشرع في التمرد على قيادة منظمتها، بسبب ضبابية موقفها من الاتحاد السوفياتي.  فانتسابنا إلى تلك المنظمة اليسارية المتطرفة، أو "الجذرية" كما يصفها مؤسسوها... كان دافعه تميّزنا عن الحزب الشيوعي، "التقليدي، المتذبذب، التابع للسوفيات".
حينها، نقرأ الأدب السوفياتي المتمرد، نمرّر لبعضنا رواية "المنشق" ألكسندر سولجنستين، ونطرح مئة سؤال عن حقيقة ما يصفه في "أرخبيل الغولاغ"... فالتثقيف الحزبي توقف منذ سنتين، وصرنا أحرارًا في قراءة ما يجيب على تساؤلات لا تملك منظمتنا الإجابة عليها. عن طبيعة العيب الذي يعتري "صديق الشعوب المستعمَرة"، عن حقيقة التوتاليتارية، والقبضة الحزبية الحديدية، والرجل الفولاذي، ستالين.
في هذا الجو الفضولي، الموزَّع هنا وهناك، وصلتنا ثلاثية إسحق دويتشر عن تروتسكي (النبي المسلح، النبي الأعزل، النبي الخارج عن القانون). وهي صدرت مترجمة إلى الفرنسية بين أوائل الستينيات وأواسطها، أي قبل بروز "الأدب الانشقاقي". الواسطة بيننا وبين إسحق دويتشر كانت مجلة "الأزمنة الحديثة" التي أسسها الفيلسوف الفرنسي اليساري جان بول سارتر، ورفيقة دربه سيمون دي بوفوار. مجلة ذات هيبة، نعاملها بكثير من الفضول أيضًا، من دون أن نستوعب تمامًا كل مفرداتها.
لماذا تأخرت هذه الثلاثية؟ ربما لأنها حين صدورها لم يكن السوفيات معرّضين للنقد، ربما لأن دوغما الاشتراكية، معركة الاشتراكية، كانت الصوت الواحد المسموح به، ربما لأن برامج التثقيف في منظمتنا كانت بعيدة عن خصومات الرفاق، أو لأن التروتسكيين اللبنانيين ذوو تأثير محدود خارج حلقاتهم الضيقة، رغم تمتعهم بأخلاقيات عالية.
قرأنا وقتها الثلاثية بشغف ومتعة. نبحث فيها عما نستشعره عطلًا سوفياتيًا، ثغرة في بناء الاشتراكية، ملامح ديكتاتورية في بنائه... لنتمكن من صياغة اعتراضنا، وشكوكنا، وأسئلتنا. ولكن أيضًا بمتعة أدبية خالصة. فدويتشر، مثل تروتسكي، صاحب قلم. وتروتسكي نفسه شخصية دراماتيكية. انتقل من قيادة ثورة إلى مأساة عائلية، إلى ملاحقة أمنية وتهجير نحو القارة الأميركية، المكسيك. ثم إلى اغتياله هناك على يد رامون مركادير، الشيوعي الإسباني الخارج من الحرب الأهلية في بلاده، والذي جندته الـ"كي. جي. بي" لهذه المهمة، بقرار من ستالين وإشرافه المباشر.
هكذا بقي اسم إسحق دويتشر في مخيلة تلك المجموعة ذات الهوى الانشقاقي في منظمتنا اليسارية. وقد عاد الآن هذا الاسم مع الحرب على غزة. وليس من باب التروتسكية، ولا بيوغرافيته عن ستالين، التي لم نكترث لها، أو لم تصلنا أصلًا. إنما الحديث عن فلسطين، عن إسرائيل.
أخيرًا، أرسل لي أحد الأصدقاء اللندنيين المخضرمين مقابلة أجرتها معه مجلة "نيو لفتْ ريفيو" البريطانية، بعد أسبوعين على حرب حزيران/ يونيو 1967، وقبل شهر من وفاته.
في هذه المقابلة، يلخص دويتشر رأيه بإسرائيل، من أن هذه الحرب هي نذير شؤم على مستقبلها البعيد، بأنها قائمة على حروب أبدية، وأنها "عضّت الأراضي التي احتلتها ولم تستطع ابتلاعها"... وأنها ستكون في وقت لاحق تحت سيطرة الحاخامات. من أن السوفيات هم المسؤولون عن توريط عبد الناصر في هذه الحرب، وأن مراضاتهم له غير صادقة.
أيضًا: من أن المحرقة اليهودية هي مسؤولية أوروبا، وأن الابتزاز العاطفي القائم عليها يجب أن يتوقف. يكتب: "القادة الإسرائيليون يستغلون، يمْعنون في استغلال أوشفيتز وتريبلنكا (معسكرا اعتقال نازيان)، وتدل تصرفاتهم على أنهم يسخرون من المعنى الحقيقي للتراجيديا اليهودية".
ومن أن العرب لن ينسوا ما فعلته إسرائيل بهم: "أكثر من مليون من بينهم فقدوا أراضيهم وبيوتهم. ينظرون إلى ما بعد حدود أماكنهم الأصلية". يسخفّ الإسرائيليين: "تضربونهم بأياديكم وأرجلكم.  ولكن، ما معنى كل هذا؟ ما هو أفقه؟".
يصف التظاهرات الجماهيرية الرافضة لاستقالة عبد الناصر إثر الهزيمة، في القاهرة، في بيروت، في دمشق، بأنها "قوة دفع شعبية تاريخية، من النوع الذي يعيد توازنًا سياسيًا، أو يقلبه في لحظات رأسًا على عقب". ويتابع بأن "هذه حالة نادرة في التاريخ، حيث يقف شعب إلى جانب زعيمه المهزوم".




يُعاين: "نقاط الضعف الأساسية في الفكر والعمل العربيَين" التي سمحت للإسرائيليين بالتغلب على العرب في هذه الحرب، ويعددها: الافتقاد إلى استراتيجية سياسية؛ الميل إلى "التسميم الذاتي العاطفي"؛ "اعتماد مبالغ فيه على الديماغوجيا القومية"؛ عدم النضوج "النسبي" للأنظمة العربية؛ ضعف حداثة التنظيم الاقتصاد والسياسة والعسكر؛ ضعف التنمية؛ الحزب الواحد؛ تعظيم الناصرية؛ غياب النقاش الحرّ؛ غياب المشاركة الشعبية في العملية السياسية؛ غياب وعي نشيط ويقظ، وغياب أي مبادرة تأتي من تحت. وكله "انعكس على الأداء العسكري، الإداري، البيروقراطي"...
بعد هذه المقابلة بأيام، يتوفى إسحق دويتشر عن الستين من العمر. تمر ثلاث سنوات، فعام 1970، وتصدر زوجته تمارا كتابًا يجمع كل المقالات المطوّلة التي أصدرها في المجلات البريطانية عن إسرائيل واليهود والعرب. تكتب تمارا مقدمة الكتاب، تستعيد فيها طفولته وشبابه، وأنشطته حتى رحيله. عنوان الكتاب "اليهودي اللايهودي". نقل إلى العربية عام 1986، بترجمة ماهر الكيالي، عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر. ولم أعرف بهذا الكتاب إلا بعدما قرأت المقابلة المذكورة أعلاه.
وفيه، يصيغ دويتشر مختلف جوانب تفكيره حول مساهمة اليهود في الثورة البلشفية، وصعود الصهيونية بالتوازي مع النازية، وتبلور الهوية اليهودية بهذا الصعود، ومسؤولية أوروبا الحصرية عن استفحال اللاسامية، وتطور موقف ستالين من اليهود، ونشأة إسرائيل، وتواطئه مع "الهاغانا" الإرهابية.
نقطتان يضيفهما هذا الكتاب إلى المقابلة مع "نيو لفت ريفيو":
الأولى هي ما يسميها دويتشر "مفارقة تاريخية محزنة": من أن اليهود "حازوا على دولة خاصة بهم في منتصف هذا القرن، وقت أصبح فيه أفول نجم الدولة القومية يبدو أكثر بداهة من سنة إلى أخرى". في هذا التوقيت بالذات، "عندما لم يَعُد الفرد ينمو في مكانته من خلال الأمة، وعندما لم يستطع أن يجد نفسه من جديد إلا في مجتمع فوق ـ قومي"... في هذا التوقيت بالذات، "وجد اليهودي أمته ودولته"، محيلًا هذا "الانحلال للدولة" إلى التكنولوجيا التي حولت تخطي الحدود القومية إلى "قضية حياة أو موت للبشرية".
النقطة الثانية أيضًا تنبؤية، لمح إليها دويتشر في المقابلة، وفصّلها في الكتاب. وقوامها أن إسرائيل "الراهنة" تقوم على التمييز بين اليهود الغربيين والشرقيين. وهؤلاء حالتهم الاجتماعية انحطت بالمقارنة بما كانت عليه حياتهم القديمة، وأن الفاشيين، التحريفيين، المتزمتين، "ليس لهم قوة في الوقت الحاضر"، لكنهم في المستقبل سيكونون هم الحكام، فيما المفكرون الأحرار والمناضلون التقدميون سيصبحون "في موضع خنوع إذا ما تُرِكوا وحدهم مع (هذه) اليهودية المتزمتة".
ويرى أن افتراض الإسرائيليين بأن "جيرانهم العرب سيبقون إلى الأبد على الدرجة نفسها من التخلف والانقسام" ناجم عن غرورهم، فنفوسهم تتحكم بها عقدة التفوق، إذ يميز دويتشر بين القومية الصهيونية، والقومية العربية، يذمّ الأولى، وينحاز إلى الثانية، ويصف أخطارهما: فإذا لم تجد إسرائيل حلًا يحترم المعايير القومية للعرب، فهي منذورة لحروب أبدية.
ولد إسحق دويتشر في مطلع القرن الماضي في مدينة كراكوف البولونية، ومات في لندن منفيًا هاربًا من تمدّد النازية، تاركًا خلفه أهله الذين قضوا في المحرقة.
ومنذ صغره، تبدو عليه علامات الاستقلال، أو "الانشقاق"، عن كيانات عفوية تشكلت في طريقه. يقظته المبكرة جعلته حاخامًا في الثالثة عشرة من عمره، بعد دراسة شديدة الانضباط في المدارس الحديسية المتديّنة المنتشرة حوله.
بعد سنة على هذا التشريف، يعلن إلحاده، ويقرأ في غير التلمود. وفي العشرين من عمره ينضم إلى الحزب الشيوعي البولوني. ينقسم هذا الحزب بين أقلية وأكثرية، فلا ينضم إلى أي واحدة منهما، ويصف "تفاهة" خلافاتهما. لكن الحزب يطرده من صفوفه، لأنه حسب رأي الحزب "بالغ في تقدير الخطر النازي، وزرع الرعب بين العمال البولونيين".
بعد هذا الطرد، ينضم دويتشر إلى مجموعة تروتسكية عرفت انتشارًا لا بأس به وسط العمال. لكنه في اجتماع الأممية الرابعة، يعلن عن رفضه لها، متكلمًا باسم المندوبين البولونيين: "لا معنى لخلق كيان جديد"، يكتب. ويعزو نجاح الأمميات السابقة إلى مراحل الصعود الثوري، الذي شكّل "تهديدًا للنظام البرجوازي". ولا يرى، كما يرى تروتسكي، إمكانية لنجاح ثورة سياسية في الإتحاد السوفياتي.
ولكن دويتشر أيضًا، يضع هويته اليهودية الكزموبوليتية، في سياق عضوي. فيقول إنه من سلالة تلك "الفئة" من اليهود، ويسمي رموزها: باروخ سبينوزا، ديفيد هيوم، كارل ماركس، روزا لوكسمبورغ، ليون تروتسكي، سيغمون فرويد. يقول عنهم: "الهرطوقيون اليهود الذين يتجاوزون الشرط اليهودي، هم أصحاب تقاليد قديمة (...) جميعهم ذهبوا إلى ما بعد حدود هذا الشرط. جميعهم وجدوه شديد الضيق، شديد البدائية، شديد السطوة. بحثوا عن مثالاتهم وعن إنجازاتهم خارج هذا الشرط".
وعنده، أن هؤلاء المفكرين والثوريين اليهود لهم مبادئ مشتركة: إنهم يؤمنون بأن الكون محكوم بقوانين خاصة به، فكرهم ديالكتيكي، لأنهم يعيشون على أطراف الدين والأمم، ويرون الحقيقة بطريقة ديناميكية. لهم رؤية للشر والخير تتصف بالنسبية، ولا يتصورون الواقع الحي إلا من خلال "البراكْسيس" (لدى الماركسيين، مجموعات الأنشطة الهادفة إلى تغيير الواقع). وهم أخيرًا متفائلون، يؤمنون بالتضامن بين البشر.
والأرجح أن هذه الصفة المزدوجة لدويتشر، بين كونه رجلًا "عضويًا"، ذا جذور، ويستمد طاقته من حيوية البنى التي ينتسب إليها، وتفاعله السلبي والإيجابي معها، وكونه أيضًا هامشيًا، وبدعم من هذه العضوية نفسها، يخلق لنفسه حيّزًا، ومجالًا من الحرية تسمح له بالانشقاق عمن يتصدر هذه العضوية. التفاعل بين عضويته وهامشيته هو الذي جعل فكره منسجمًا مع سياق، ومتناقضًا مع آخر.
نقرأه الآن، مع الحرب على غزة. ليس فقط من أجل إبراز أقلام يهودية عريقة مناهضة لقيام إسرائيل ومتوقعة لها أسوأ الأقدار، إنما، أيضًا، لإدراك طبيعة المرحلة التي أنتجته، المختلفة عن الراهنة، بفتور كل هذا التيار الذي ينتمي إليه دويتشر، الواثق من تنويريته، من أسس الأفكار التي قامت عليها أوروبا، من كزموبوليتية وإنسانوية ومساواة. وقد يفيدنا الآن هذا الرصيد الفكري في استلهام هوائه النقي، في عدم الاستسلام للكراهيات الهوياتية، لفوضى الأفكار، لفتْنة هذه الفوضى، لذروات المجازر، لليأس المفضي إلى العدمية.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.