}

في ذكرى رحيله: محمد شكري صانع السيرة الذاتية بالمغرب

محمود عبد الغني محمود عبد الغني 17 نوفمبر 2023
استعادات في ذكرى رحيله: محمد شكري صانع السيرة الذاتية بالمغرب
محمد شكري (Getty)
تحلّ في يوم 15 نوفمبر/ تشرين الثاني من كل سنة ذكرى وفاة الكاتب المغربي محمد شكري (1935 ـ 2003). وحين رحل في ذلك اليوم في المستشفى العسكري بالرباط ترك وراءه أشياء كثيرة يتذكره بها الناس، وهم لا يخرجون عن دائرة النقاد والقراء والأصدقاء. من بين ما يتذكره هؤلاء الناس سيرته الذاتية (الروائية) "الخبز الحافي"، كتابه الأشهر في العالم العربي والأوروبي بفضل ترجمته إلى أغلب اللغات العالمية، خصوصًا المقروءة على نطاق واسع.
كان محمد شكري معتزًّا أشدّ ما يكون الاعتزاز بخبزه الحافي، فهو مصدر شهرته وثروته أيضًا. لكن سرعان ما انتبه إلى أن هذه الشهرة سيفٌ ذو حدّين، فبالإضافة إلى الشهرة والمكانة الأدبية الرفيعة التي حققها الكتاب لشكري عربيًا وعالميًا، فقد كانت حجابًا كاد يخفي الكتب التي أبدعها شكري بعده، وهي لا تقل عن "الخبز الحافي" من حيث القيمة الأدبية، نذكر منها الأقوى والأجمل: "الشطار"، "زمن الأخطاء"، "وجوه"، "غواية الشحرور الأبيض" (وهو عبارة عن ملاحظات نقدية وملاحظات قارئ نبيه).
تكمن عبقرية شكري، من خلال الكتب المذكورة أعلاه، في تحويله لحياته إلى سيرة روائية. وقد ظلّ متمسكًا بهذا النهج في التأليف الأدبي لأنه آمن بأن الكتابة شهادة، وليست تنسيقًا أو تأليفًا تهيمن عليه سلطة الخيال فقط. وقد كان اعترافه هذا، وكثيرًا ما أعلنه وصرّح به، مبرّرًا لنُقاد السيرة الذاتية لتناول أعماله الروائية بكسل منهجي يربط آليًا بين كتاب وحياة.
كان الخطأ الذي ارتكبه محمد شكري أنه لم يكن يدع فرصة تمرّ، جلسةً خاصة، أو حوارًا صحافيًا، أو تلفزيونيًا، من دون أن يضع كتبه كمعادل أدبي لحياته. وهذا الأمر التقطه أسوأ نقاد الأدب، وانتقل ذلك إلى طلبة الأدب في الجامعات، فوضعوا خطاطة جامدة تكاد لم تتغيّر إلى اليوم: روايات شكري = حياته. لم يفطن شكري إلى هذه المعضلة التي ظل هو نفسه يعمّقها ويكرّسها في كل مناسبة، وحتى النقاد، خصوصًا نقاد الرواية، الذين كانت تربطهم به علاقة صداقة، والذين يعرفون جيدًا قوانين الرواية وقواعدها، وقد كان المغرب يعجّ بهم، مثل محمد برادة رائد النقد الجديد تأليفًا وتدريسًا وترجمة، لم ينبّهوا شكري إلى ضرورة التراجع عن هذا السلوك، وأن يكف عن تقزيم حجم ما كتبه إلى مجرد حياة منقولة على الورق "دون تنسيق ولا تأليف". وحتى ناشرو كتبه سقطوا في الفخ نفسه، وأصبحوا يصرّحون على أغلفة كتب شكري، ويضعون لها نمذجة تقع ضمن الأدب الذي ليس من الأدب إن صحّ التعبير، أي الأدب الذي لا يتفنّن، بل هو أدب يقدّم شهادة (فقط)، هو معادل موضوعي لحياة مضت بكل مراحلها.




وهذا في نظري ما جعل من محمد شكري كاتبًا كسولًا لا يحتاج إلى تنشيط وإثارة خياله الخصب، رغم موهبته الاستثنائية وخياله الخصب. وهذا يبرّر تأليف شكري لرواياته في مدة زمنية لا تتجاوز ثلاثة أشهر، المدّة التي ألّف فيها "الخبز الحافي" مثلًا. إضافة إلى أن النّقاد والناشرين العرب، وذلك يكاد يكون شبه اتفاق مسبق، جعلوا من "عدم إعمال الخيال" قيمة أدبية ستحقّق من دون شكّ قيمة تجارية، وألصقوا بالسيرة الذاتية علامة الجنس السالب للخيال، أو المسلوب الخيال على أصحّ تعبير. وبذلك خلق شكري، من دون قصد منه، فئة من النقاد الكسالى الذين يضعون أمامهم خطاطة فيليب لوجون، ويطبقونها بسطحية منهجية على روايات شكري. لكن ما يضحك نقاد السيرة الذاتية، يبكي نقاد السرد الروائي.
جاءت بعد "الخبز الحافي" سير ذاتية كثيرة بأقلام أعلام في الثقافة والفكر، لكنها لم تثر الاهتمام نفسه الذي صبّ اهتمامه كليًا على كتاب شكري. لقد نفدت الذخيرة واستراح المحاربون المبتدئون، للأسف.
لكن، لنقلب وجوه المسألة. فربما كاتب السيرة الذاتية الناجح هو الصعلوك الحافلة حياته بالمآسي، والاغتصابات، والخمر، والمخدّرات... نحن نبحث عن طينة من الأدباء اختفت: لا يعملون، ينامون النهار ويسهرون الليل، يرفضون المؤسسات الاجتماعية، مثل الزواج والوظيفة مثلًا. لنتذكر أن شكري اشتغل معلمًا في إحدى المدارس بمدينة العرائش ثم غادرها، وجاء إلى طنجة بحثًا عن أفق آخر، ثم صاحب بول بولز، تينيسي ويليامز، وجان جينيه.



بنى شكري سيرته الذاتية "الخبز الحافي" على نحو درامي. وتابع هذا النحو في أجزاء أخرى، مثل "وجوه" التي ظهر فيها شكري ساذجًا ولا يتمتّع بقدر من الوعي الثقافي وهو يظهر نرجسيته. لقد أحبّ نفسه كثيرًا وذلك هو تفسير رفضه الزواج أو الارتباط بأي امرأة، فاكتفى بحبّ النساء بعيدًا عنهن. أو في "الشطار"، النص الذي أظهر فيه أنه غارق لوحده في بئر الأحزان. لقد كان شكري واضحًا أشدّ الوضوح بشأن الأشياء المهمة في حياته، وهي درامية بشكل أساس: الفقر، قرية ابن شيكر الجبلية، مقتل أخيه على يد والده، ضيق حيلة يد الوالدة، الهجرة، الجوع، الجنس... بعد ذلك خلقت هذه السيرة الذاتية نبرة خاصة ضمن سجل السيرة الذاتية العربية الحديثة. كما أنها رسمت، إلى جانب سير ذاتية عربية أخرى، خصوصًا المصرية التي راكمت نصوصًا كثيرة وخلقت تقليدًا عربيًا في هذا النوع من الكتابة، رسمت خطًّا للتمثيل الأدبي، وأمنت إمكانية دراسة تطور "الذات المغربية" المحدّدة ثقافيًا. نقصد هنا وجود "فردية" مغربية حديثة ووعي بهذه "الذات".
شكري ذات مضطربة، فأراد أن يقدم هذه الروح بالوضوح الممكن. لذلك وضع أمامنا هذه القائمة: الأسرة، الفقر، اليتم، الهجرة، الموت، الخوف، السن، المرأة، الحياة التي تصبح ذات معنى حين نكتب عنها. وجرد هذه القائمة هو ما صنع من "الخبز الحافي" كتابًا استثنائيًا. وحين نكون بصحبته فنحن في صحبة وجوار هذه القائمة القصيرة التي شكّلت فصولًا لكاتبها وقارئها. فمن أجل "الخبز الحافي" (وعنوانه الأصلي "من أجل الخبز وحده" والطاهر بنجلون هو الذي ترجم المخطوطة إلى الفرنسية تحت عنوان "الخبز الحافي") تعلم شكري الفرنسية، وأجاد العربية، وصاحب بولز، وويليامز، وبوروز، وجينيه، وغويتيسولو... وتعلّم كيف يلبس ويتحدث إلى الصحافة، ويسافر ويجلس على موائد الطعام في المطاعم، لأنه كان يعرف أن عليه أن يرافق سيرته الذاتية إلى آفاق عالمية رحبة.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.