}

عاشَتْ العربية في غرْبتها (13)

دلال البزري دلال البزري 10 ديسمبر 2023
استعادات عاشَتْ العربية في غرْبتها (13)
الكاتبة خلال هجرتها لكندا بعد انفجار مرفأ بيروت (2020)
تعريف:
عنوان هذا الكتاب، الذي ننشره على حلقات أسبوعية كل يوم أحد، تفصّله ثلاثة خيوط مختلفة:
ـ في الخيط الأول، يتكلم بصيغة الغائب المفرد، أي أنني أصف فيه محطات من حياة شخص، هو أنا: في إبحاري بالعربية، عبر أحداث سياسية ـ ثقافية.
ـ الخيط الثاني: أن العربية الراهنة ما زالت عائشة. ما زالت تقاوم من أجل البقاء، رغم تعثر أبنائها وإهمالهم لها. ويدعي هذا الكتاب بأنه ذرَّة في رمال إرادتها بالحياة.
ـ الخيط الأخير حماسي، يشبه صرخات التمنّي بالبقاء، مثل "يحيا الملك!" أو "يعيش الزعيم"! أقول "عاشت العربية!"، بمعنى أنني أتمنى لها البقاء، وتجاوز وحْشتها.

الوقائع المروية في هذا الكتاب كلها حقيقية، غير متخيّلة. وهي ناقصة بالتعريف. وأنا مسؤولة فقط عن صدقها.

1985 ـ 1990 التعليم الجامعي، معهد الإنماء العربي، الجمعية العربية لعلماء الاجتماع
ـ معهد الإنماء العربي
في أواسط هذه السنوات، إلى جانب التعليم الجامعي، أدخل للعمل في مؤسسة اسمها "معهد الإنماء العربي"، تموّلها الدولة الليبية. الحرب لم تنته بعد. والمعهد يجذب مثقفين إلى مجلته، وباحثين يغذّون إصداراته، فضلًا عن أنه أرشيف للصحافة العربية والدولية. وهو يصدر مجلة ذات طابع فلسفي، يديرها حسن قبيسي، كنت نشرت فيها مقالًا مطولًا عن الفلاسفة الفرنسيين الجدد. أوقع الاتفاق مع المعهد، إذن، على أشتغل باحثة، ولي مكتبي الخاص، وأن أحضر اجتماعات "فريقنا".
مديرة المركز ترحب بي. تقول بأننا بحاجة إلى طاقات شابة. أما فريقنا واسمه "الاستراتيجي"، فهو برئاسة النائب الناصري السابق نجاح واكيم. ومن مهامي، حضور الاجتماعات الأسبوعية للفريق، وترجمة أطروحتي لوضعها ضمن قائمة منشورات المعهد.
ومثل الجامعة اللبنانية، لا شيء آخر. لا أقسام، أو تنسيق، أو برامج، أو مشروع، أو ندوات، أو مؤتمرات، أو حتى مشاورات؛ ربما عقدت، هنا في بيروت، أو في طرابلس الغرب، أو غيرها من العواصم، ولم أعلم بها، أو أُدعى إلى المشاركة فيها.... أو توقعات مبهمة لمنشورات...  لم أعرف بها، ربما حصل شيء منها.
فقط حركة مستمرة بين الطوابق التسع التي يتشكل منها مبنى المعهد، زيارات بالأحرى، وصحون التبولة والكنافة تتنقل من هنا إلى هناك. ولا روتين، أو تنظيم لوقت هذه "الزيارات"، يمكن أن تقع في أول الدوام، أو في أواسطه. وفي أحيان كثيرة تكون "زيارة" لـمسؤولين ليبيين، يفترض أنهم يتفقدون المعهد، للسهر على عمله، وكتابة تقرير إلى الأرفع منهم مسؤولية في الإشراف على أعماله، وقد أسموه "فرع بيروت". وهذه "الزيارات" بالذات تزعجني: أضيع وقتي أثناءها بردّ نظرات الأخوة الليبيين، الجائعة دائمًا. تلتهم، تفترس، تنهش. يدخلون إلى مكتبي كأنهم يعتدون عليّ. وأنا لا أرحب بهم، ولا أسايرهم. أود أن يخرجوا. ولكن لا يفهمون لغتي. فأضع على باب مكتبي ورقة كتبتُ عليها "ممنوع الزيارات أثناء الدوام"، أي ممنوع الزيارات بالمطلق.
اجتماعات "الفريق الاستراتيجي": اسم ولا أفخم. وجميعنا لا يتجاوز عددنا الخمسة أعضاء. كلنا منشرحين... ممَّ يا ترى...؟ رئيس الفريق إذن نجاح واكيم، أعضاؤه جورج ناصيف، الذي ترك "الحرية"، ومنظمة العمل الشيوعي، وميشال نوفل "الفتحاوي" سابقًا، وشاب مصري نسيت اسمه، وأنا. وكأننا في اجتماع حزبي، مع كثير من الترفيه: الرئيس يبلغنا سريعًا بـ"الموقف من الوضع الراهن"، بمهمات "حركة التحرر الوطني العربي"، بكثير من النكات... وننتقل بعد ذلك إلى عرض كتب لم نقرأها، نقهقه عاليًا... ومن بنوده الثابتة لاجتماعاتنا، تطورات العلاقة السيئة بين الرئيس وبين المديرة العامة للمعهد. ودائمًا تطورات دراماتيكية، على حافة الانفجار... وقهقهات أخرى، وتعليقات هزلية، وشعور مسل بأننا أمام مسلسل مشوِّق لن ينتهي سريعًا.





في البداية، كما قلت، العلاقة الجيدة تجمعني بتلك المديرة. يوم الجمعة، وهو أحد أيام ذهابي إلى صيدا، من أجل إعطاء الدروس في الكلية، تبادر دائمًا إلى اصطحابي معها. أترك سيارتي في كراج المعهد، نروح إلى صيدا ونجيء منها بسيارتها. الحديث ودّي، والكلام أثناء الرحلة إلى صيدا تتخلله أخبار المدينة. ثم شيئًا فشيئًا تتسلَّل أخبار السهرات التي تقيمها في منزلها "على شرف الزوار الليبيين". ودعوة تزداد إلحاحًا، في كل رحلة، لأشاركها السهر. أقول "لا"، أتخيل هؤلاء الأخوة الليبيين، وقد استفردوا بالنساء الساهرات، وصاروا ملء عيونهم.
ـ ليس عندي وقت...
أجيبها في مستهل هذه المبادرة.
ثم، بعد إصرارها، أصعّد من حجتي:
ـ لا أحتمل نظراتهم...
ـ ومما تشكو هذه النظرات؟! تسألني باستغراب.
أشرح لها، فتسكت. وفي أواخر المرات، أقولها بفجاجة:
ـ هذه السهرات لا تروق لي...!
بهذا الردّ الأخير، وما تلاه من صمت، تنتهي مشاويرنا المشتركة إلى صيدا. وبعده بقليل يأتي قرار فصلي من العمل. لماذا؟ وأنا لم أنهِ بعد العمل المطلوب مني؟ بماذا خالفتُ القوانين؟ والجواب أن المعهد "يقنِّن" من مصروفاته، وأن عملي في هذا المركز لا يضيف إليه شيئًا.
وفرّت عليّ هذه السيدة وقتًا ثمينًا في عملية الكشف عن العلاقة بين العمل البحثي والابتزاز الشخصي، جنسيًا كان أم عاطفيًا، أو نفسيًا. من حينها، أحاول أن أتنبه، في أولى لحظات علاقتي مع فرد، أو جهة بحثية، إلى علاقة العمل المطلوب مني في العلن، بتلك الإيحاءات، أو التلميحات، أو النظرات الخاصة. لم أنجح كل مرة في الانتباه. فهذا "المطلوب" له مسالك ملتوية كثيرة، وكودات وإشارات، لا أملك مهارة قراءتها كلها. ولكن، بعد تيقن هذا الفشل، وأحيانًا متأخرة، تلح في عقلي ضرورة المثابرة على هذا الفصل، بين هذين المضمر والمعلن. ومعه الانحياز إلى الأخير، المعلن، وهو المعنى الأقرب لي، الأكثر انسجامًا مع الكتابة. لا تدخله إلا اعتبارات جودتها. ولا "العلاقات المفيدة" التي يتوسّلها الطلب المموّه، وهو يتوسّع مع الوقت. ويصنع خيوطًا عنكبوتية، تتداخل فيه خيوط أخرى، حريرية ناعمة؛ مثل تبادل خدمات، الاعتراف، ومنافع، ودعوات للحضور في الفعاليات (ندوات، مؤتمرات)، وتشبيك علاقات، أو تسويق، أو تضخيم النرجسيات، أو دعم مالي، أو موقف سياسي... وكلها خيوط تهدر الوقت، لغير صالح وقت الكتابة. فلا تعود الكتابة أساسية، أو ذات شأن، ولا وقت مخصص للاستدراك، أو التحقّق، أو الاكتشاف، أو التوثيق، أو الفضول، أو حتى مجرّد التأمل والتركيز. إنما وقت للفوز بمكانة، أو منصب، أو جائزة، أو تكليف، أو طلاّت على الشاشة... ولا تقاس كل هذه "المغانم" بفوائد الكتابة، بل بفوائد ما تم استثماره، على حسابها. وبذلك تكون الكتابة فعلًا هزْليًا هزيلًا.

الجمعية العربية لعلماء الاجتماع
خلال إقامتي القصيرة في الكويت، في العام الأخير من الحرب، أتعرف على نساء كويتيات، صحافيات ونسويات ورئيسات جمعيات نسائية. ويحصل أن تدعوني واحدة منهن، وهي الصحافية فاطمة حسين، إلى ندوة تنظمها وزارة الشؤون الاجتماعية الكويتية في البحرين، عنوانها المرأة والتنمية. هناك، ألتقي بسيدة ليبية، هي فريدة العلاقي، رئيسة لجنة المرأة والطفل في مؤسسة "أجفند"، أو برنامج الخليج للتنمية؛ وهي منظمة إقليمية، أنشأها الأمير طلال بن عبدالعزيز، المعروف بـ"الأمير الأحمر". بعد دردشة قصيرة، تسألني السيدة فريدة:
ـ هل يمكنك أن تقومي ببحث عن الجمعيات الأهلية العربية، من أجل مؤتمر تعقده "الأجفند" في القاهرة بعد أربعة أشهر؟
ـ بضعة أشهر لتغطية كل الجمعيات العربية؟ هذا لا يكفي.
وبين أخذ ورد، نتفق على أن يغطي البحث الكويت ومصر وتونس. أما العنوان الجامع بينهم، فهو المرأة في تلك البلدان والتنمية... والاتفاق يتضمن تغطية التكاليف كلها، بالإضافة إلى "مكافآت" البحث.
لا أتردد بالقبول. الكويت سهلة، أنا مقيمة فيها، وأعرف جمعياتها. والرحلة إلى مصر، ومن بعدها إلى تونس. وفي كلا البلدين، ثمة "الشخص ـ المفتاح"، الذي يساعدني على جمع المعلومات عن جمعيات أهلية، نسائية وتنموية، وتسهيل لقائي بقادتها وميدانها.
في مصر، شخصان: سعد الدين إبراهيم، وعلي الدين هلال. الأول أستاذ في الجامعة الأميركية، له نشاطات مدنية وإعلامية، وينشر الكتب والمقالات على نطاق واسع. الثاني، علي الدين هلال، أستاذ العلوم السياسية في جامعة القاهرة، وله مكانة علمية رفيعة كونه خريج جامعة ماكغيل الكندية. وله مثل زميله النشاط نفسه. لكن يختلف عنه بثقل الوجاهة المبكرة التي تنضح منه، بينما يتفق الاثنان على التنمية والديمقراطية كحلول لمشاكل مصر.




في تونس، "الشخص ـ المفتاح" الذي أوصتني به السيدة فريدة هو الطاهر لبيب.
ـ تتصلين به، وهو يؤمن لك الجمعيات المطلوبة. وهو فوق ذلك رئيس الجمعية العربية لعلماء الاجتماع.
وهي لم تشر لي إلى ما أعلمه عن الطاهر لبيب، من أنه مؤلف كتاب مشهور، عنوانه "سوسيولوجيا الغزل العربي... الشعر العذري نموذجًا". وفي الأصل، الكتاب هو أطروحة دكتوراة أشرف عليها رولان بارت، السميولوجي الفرنسي، صاحب "الدرجة صفر من الكتابة". وهذه المعلومة الأخيرة يضيفها الطاهر لبيب وهو في سيارته يوصلني إلى الفندق، بعد دقائق من وصولي إلى تونس العاصمة.
خلال الأيام العشرة التي أمضيتها في تونس، لا يمر يوم من دون أن التقي بالطاهر لبيب. نشاطه فائق. كل يوم يورد لي لائحة بأسماء شخصيات وجمعيات، ويؤمّن لي المواعيد، وأكون في قلب عملية بحث ميداني ممتع وحيوي. حكى لي روايات عن رولان بارت، عن طفولته وشبابه، عن الفلسطينيين الذين تركوا لبنان وسكنوا في تونس، لا يضيق بهم، لكنه يخشى على بلاده:
ـ هل تذكرين عملية حمّام الشطّ على مقر القيادة الفلسطينية، بالقرب من تونس المدينة؟
أعرفها، كان ذلك عام 1985، بعد خروج منظمة التحرير الفلسطينية من لبنان، واستقرارها في تونس. طائرات إسرائيلية قصفت مقرًا للمنظمة، مستهدفة ياسر عرفات.
ويأخذ برواية العملية، وكيف تابعها، وأين كان، ماذا شعر...
ـ شيء قليل من كثير مرّ علينا...
طبائع الطاهر لبيب. تبدأ الدراما عنده منذ المهد. يمسْرح أي شرّ، أي خير. حكاياته مثيرة، ديكورًا ومكانًا وتوقيتًا. ولغتان هو طليق فيها: لغة لسانه، المتدفقة الأنيقة. ولغة جسده، المطواعة، الرشيقة. وعينان من النار الأسود، تقدحان لعبًا ونباهة. وجاذبية هو الأعلم بها. ومع أنني لا أتذكر اليوم تفاصيل كتابه "سوسيولوجيا الغزل"، إلا أنني لا أنسى وقتها شعوري بأن هذا الكتاب يشبهه، أو هو يشبه الكتاب.
وقد أوجد الطاهر لبيب الصيغة التي تناسب طبائعه الخاصة، أو أن طبائعه كانت دليلًا له على إيجاد هذه الصيغة. رئيسًا لجمعية عربية، ومديرًا لمؤسسة تونسية تهتم بالتنمية الثقافية، أي علاقات محلية وعربية تؤمن أكثر الأنشطة القريبة إلى قلبه: الندوات والمؤتمرات.
هكذا، أدخل في "السلك الندَواتي" بشيء من المواظبة. والجمعية فيها عدد من علماء الاجتماع العرب المرموقين: على فهمي، وحافظ دياب (مصر)، عبد القادر زغل (تونس)، حيدر إبراهيم علي (السودان)، علي الكنز (الجزائر)، دارم البصام (العراق)، مصطفى التير (ليبيا). يتفقون على موضوع، يبحثون عن تمويل لعقد ندوة حوله، أو تدعوهم جهة علمية إلى اقتراح أسماء للمشاركة فيها، فيختارون علماء الاجتماع من بين الجمعية، أو من خارجها. يغطون تذاكر سفرهم وإقامتهم، وأحيانًا تُدفع لهم حقوق النص الذي أتوا به. يقدم هؤلاء "ورقتهم" أمام جمع من النظراء، قراءة أو شفاهة، ويحصل نقاش حولها، وتخرج الندوة أحيانًا بتوصيات، وأحيانًا أخرى تكون النصوص المقدّمة جزءًا من كتاب.
هذا "سلك" يجمع متعة السفر، والتعرّف، والأخذ، والردّ. ومتعة أخرى أعظم منها، هي "الاعتراف". وهذه قيمة أجهلها بداية. أفاجأ بها، وبعد حين، تتضح صورتها. وعندما يتحقق وجه منها، مثلًا عندما تصلني رسالة دعوة إلى ندوة، وقبل قراءة "شروطها"، أحلق في الرضى، بصمت، ثم برغبة بالثرثرة وبإخبار الجميع بأن "أنظروا إلى الدعوة... لست فاشلة كما تقولون".
وللتجربة وجه آخر، هو اختبار "تقديم" أو قراءة ما كتبته على ورقة، وهذا اختبار آخر، لم يَعُد جديدًا تمامًا. أقدم فيها نصًا كتبته امام جمع من المجتمعين، المستمعين... عليّ أن أقرأ أجزاء طويلة من "ورقتي"، أعطي لي من أجلها بين ربع ساعة، أو ثلثها، فلا أتوقف ولا أقاطَع. والمشكلة أنني لا أستطيع تحريك الكلمات، لأنني لا أعرف كيف. فأسكِّن آخرها، تجنبًّا للغلط الأكيد. وهي مشكلة بسيطة أمام فعل القراءة في حد ذاته. بعد أولى الكلمات التي أقرأها، أشعر بضجر المستمعين إليّ. لا أحد يستسيغ الاستماع لقراءة النص في الندوات. الجميع يفضل أن يتلو صاحب "الورقة" نصه شفاهة، كما في المسرح. ومن المفضل أن يتخلل هذه الشفاهة خروج عن النص، أو نسيان، شرط أن لا يتحول إلى ثرثرة. هذه الأخيرة بدورها مثيرة لضجر آخر، وأحيانًا لغيظ المستمعين، الذين يتراوح امتعاضهم بين الصمت التام والإصغاء وبين الاحتجاج العلني، والهروب من الندوة إلى النزهة السياحية والتبضّع في الأسواق، وأحيانًا الطلب من الثرثار التوقف والنزول من المنبر. ويكون هذا الطلب مدعاة لأخذ وردّ واحتجاجات ومواعيد لاحقة مضروبة، وفكاهة تقتل الضجر:
ـ تجاوزت الوقت المخصص لك...!
ـ حسنًا، حسنًا، سأختصر...
وتكون مطولة أخرى، فاعتراض، وكلمات خارج الموضوع...
في ندواتنا الوقت مشكلة: ولا مرة على الوقت، أو معه. ولا مرة احترام الوقت واحتسابه صح، أو المساواة بالوقت، بين صعلوك ووجيه، صاحبي ورقة، أو تقدير الوقت، أو التوقيت المناسب. وكأننا في حلبة توزيع عشوائي للوقت، والصراع بين أطرافه حول حصته.
وأنا المهجوسة بالوقت، ماذا أفعل؟ عليّ أن أتدرب على الإدلاء بورقتي شفاهة. أحاول أن ألخصها بـ"نقاط" بارزة، لألقيها "ارتجاليًا". لا أنجح تمامًا. ولكنني أكمل... أتوسل مؤهلات أخرى غير الكتابة، وتنطلق آلة تفكيري بوتيرة غير هادئة.
ومع الطاهر لبيب يتفرّع "سلكي" الندواتي، ويتوسع. خمس سنوات جهنمية أمضيها في الإعداد لندوة، والتفكير بأخرى لاحقة.
أنطونيو غرامشي (المنظر الشيوعي الإيطالي) هو الاسم المدلّل لهذه الجمعية العربية لعلماء الاجتماع: أنطونيو غرامشي والكتلة التاريخية العربية، أنطونيو غرامشي والمجتمع المدني العربي، والمثقف العضوي، والهيمنة الثقافية، وتشاؤم العقل وتفاؤل الإرادة. وبعد غرامشي، يحظى عدد من الموضوعات بعناوين أخرى: "الآخر" مثلًا، بمختلف زوايا تناوله: الآخر من منظور غربي، شرقي، أنا والآخر، صورة الآخر، الآخر والصراع والهوية، الآخر الأخ أو ابن العم... ومثله الإسلام السياسي أيضًا: الإسلام السياسي والمرأة، وحرب الخليج، والديمقراطية، وبناء الدولة، والشريعة والجهاد... واثنين آخرين: المرأة والتنمية، والأصالة والتراث.
وفي نهاية الحرب الأهلية، عام 1991، كان لطاهر لبيب مبادرة ندواتية، تعبر عن تعاطفه مع أهل لبنان، عنوانها "المجتمع والحرب". يطلب مني أن أعدّها. هنا يتحول "السلك" إلى دَهليز: أقع في شرّ القيام بما هو مطلوب مني، والاعتقاد بأن الأمر لا يحتاج إلى أكثر من اقتراحات للتفكير، من محاور متماسكة وترشيح أسماء أعرفها، أو أسأل عنها. كل هذه المكونات الثلاثة للندوة الناجحة، نظريًا، ليست بديهية على الإطلاق. فهذه تحتاج إلى المال. والممول ليس سوى "معهد الإنماء العربي"، ممثلًا بمديرته المذكورة آنفًا. وهي تشترط، مقابل تمويلها للندوة، نسف المحاور، وتقترح عناوين متفرقة، وأسماء إضافية. فضلًا عن إخراجي من الندوة كلها، وليس فقط من الإشراف على إعدادها. يوافق الطاهر لبيب على الشرطين الأولين، ويرفض الأخير.
أشارك في هذه الندوة، إذن، أول ندوة في بيروت بعد الحرب، عنوانها "المجتمع والحرب". وأكتشف حينها واحدة من العادات الندواتية الغريبة: فلان الفلاني من الباحثين يوافق على المشاركة في هذه الندوة، تحت عنوان يختاره بحرية، طالما أن "المحاور" لم تعد موجودة بعد جهود المديرة المموِّلة. مع اقتراب موعد انعقاد الندوة، أتصل به بعد تأخره بتسليم ورقته، فلا يجيب. يتصل به الطاهر لبيب، فيجيب بأنه "يعمل عليها". ولكن الباحث الفلان الفلاني يتخلّف عن الحضور، ولا يردّ على الهاتف. هل حصل له مكروه؟ نسأل المقربين؟
ـ لا.... لا... يجيب واحد منهم. هذه عادته المعروفة بيننا... هو يريد فقط أن يُنشر اسمه في الصحافة، بأنه مشارك في الندوة كذا بورقة كذا... ما يزيد من وجاهته، ويرفع من درجة الاعتراف، وسيكون إنجازًا إضافيًا يسجله في سيرته العلمية (السي. في.)، من أنه والله... كُلَف بالموضوع الفلاني في الندوة الفلانية...
يختم محدثي القصة، ولا أصدقها تمامًا. أتحرى عنها، وأتأكد. وبفضلها أنتبه، بعد حين، ومن كثرة الندوات، إلى لعبة "أخطر"، أعيش بعض مؤشراتها: "الباحث"، أو "المفكر" المشارك في هذه الندوات يحمل معه الورقة ذاتها، من ندوة إلى أخرى، أحيانًا لا يعدل فيها حرفًا. والأنشط منه يغير مداخل الفقرات، ويبقي على البقية كما كانت، حرفيًا. لماذا يقوم بذلك؟ يكرره؟ ما الذي يدفعه إليه؟ الكسل؟ الستريس؟ الوقت؟ التمرير؟ الرغبة بالسفر؟ الاعتقاد بأنه "يراكم رأسمالًا رمزيًا"...؟

(يتبع...)

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.