}

المقامُ العابر والأثر: عن بارت وفوكو في بلدان المغرب

فريد الزاهي 15 ديسمبر 2023
استعادات المقامُ العابر والأثر: عن بارت وفوكو في بلدان المغرب
طنجة (Getty)
إذا كانت رحلات الفنانين والكتاب الفرنسيين والفنانين الكبار، من قبيل غوستاف فلوبير، وبيير لوتي، وهنري شوفريون، ولوي ماسينيون، ودولاكروا، وبول كلي، وهنري ماتيس، وغيرهم، إلى بلدان المشرق والمغرب العربي، نابعة من رغبة في استكشاف هذه البلدان والانغماس في روحانيتها وأنوارها، فإن استقرار بعض المثقفين الفرنسيين في هذه البلدان بعد فترة استقلالها كان لضرورات أخرى ذات طبيعة ثقافية، أو علمية، ترتبط بالتدريس، أو الاستقرار الكلي والجزئي. فقد أحب بيير لوتي المغرب رغم أنه رسمه بخيال غرائبي، تاركًا وراءه كتابًا هو "رحلة إلى المغرب" صار مرجعًا يغذي خيال القراء عن بلد غريب وعجيب، ينضاف إلى "ألف ليلة وليلة". وكانت رحلة شوفريون، بالرغم من التحقير الثقافي الذي مارسه صاحبها على المغاربة ونمط عيشهم، أشبه بسيمفونية عاشقة للطبيعة. فيما كانت رحلات علماء الإثنوغرافيا تسعى إلى استكشاف البلد، ودراسة عوائده وطبيعته وجغرافيته.
أما الكتاب والفنانون الحديثون فإن رحلاتهم نحو بلدان الشمس لم تكن دومًا مرفقة بالمتعة. فلقد وجد هنري ماتيس نفسه في رحلته الأولى إلى طنجة عام 1912، في بلد لا شمس فيه. أمطرت السماء لمدة طويلة، حارمة إياه من الأنوار التي جاء من أجلها، فظل مرتكنًا في بيته لا يخرج منه إلا للضرورة القصوى، يراقب المدينة من شرفته الضيقة. ظل الضجر حليفه إلى حين عودته في العام الموالي، ليقتنص المشاهد التي تركها لنا في هاتين الرحلتين. لم يكن ماتيس يرغب في استكشاف البلد، بل في أن يرسم في أنواره بعض الشخصيات والمشاهد التي اقتنصها، حتى إن إحدى نساء طنجة تملك فندقًا قالت عنه حين سألها أحد الباحثين في سيرة الفنان عن الأثر الذي تركه ماتيس في طنجة: "بل اسألني عن الأثر الذي تركته طنجة في حياة ماتيس"!
ما أشبه مرور الكاتب أندريه جيد بالمغرب وتونس بالرحلة الأولى لماتيس. يقول عنه صاحب المكتبة التي كان يرتادها في مدينة تونس: "لم يكن انطباعي الأول عن أندريه جيد انطباعًا جيدًا. وسأعترف بذلك بصدق أكبر، بحيث أني خلال السنوات اللاحقة على هذا اللقاء استطعت أن أغير بعضًا من هذا الحكم الأولي. كان الرجل جافًا ومتعجرفًا وغير بشوش، وبدا لي مفتقدًا تمامًا إلى العفوية. كان تميزه المغيظ يذكرني بتميز ممثل محترف. والأدهى من ذلك أنه كان يتعمّد أن يتوجه بالحديث لصديقه أليغري باللغة الإنكليزية، وهو ما بدا لي أمرًا مضحكًا، لأنه كان يرطن بها بشكل سيء، كما أغلب الفرنسيين، وأي تلميذ في بداية الثانوية يمكنه أن يفهمها". عاد الكاتب لتونس في رحلة ثانية أيام الصيف عام 1926، بعد رجوعه من رحلة إلى الكونغو، وكتب في مذكراته: "إنه الضجر الذي نعجز عن أن نجد له اسمًا. كل الناس هنا قبيحون. يمكنني أن أستبدل هذا السفر ببعض الساعات أمام البيانو. لقد صرت مضطرًا لأن أستعيد بعض معزوفات شوبان في خيالي؛ وهو ما كان له بعض الإفادة مع ذلك.




إنه ضياع للوقت رائع، في عمر كهذا... أما أفضل ذكرى لي في تونس، فهي تتمثل في بضع ساعات مع الكتبي القصير في مكتبته...".  ما الذي كان يبتغيه أندريه جيد، إذًا، من رحلاته إلى تونس والمغرب؟ هل كان يبحث عن الضجر، وعن غرابة ما، أم عن شيء آخر كان يبحث عنه أيضًا رولان بارت في ما بعد في المغرب؟

ميشيل فوكو في تونس: ولادة مفكر
في الفترة الأخيرة، صدح صوت غيّ صورمان، أحد معارف ميشيل فوكو، وهو في عقده الثامن، ليؤكد في كتابه "معجم التفاهة" (منشورات غراسي، باريس، 2021)، ولكي يصرح بعد أكثر من نصف قرن أن ميشيل فوكو، خلال مقامه في تونس عام 1969، كان "يمارس الغواية على الغلمان". كان مؤلف الكتاب مصاحبًا لميشيل فوكو الذي كان يقطن منطقة سيدي بوسعيد السياحية في أحواز مدينة تونس. فلماذا انتظر الرجل هذه المدة كلها للتصريح بما يمس حياة الفيلسوف الشهير؟
درّس ميشيل فوكو الفلسفة في جامعة تونس من سبتمبر/ أيلول 1966 إلى صيف 1968، في الوقت الذي كانت الجامعات الفرنسية قبل مايو/ أيار 1968 قد منحته صفة أستاذ لعلم النفس، ورفضت له التدريس في شعبة الفلسفة (حسب تصريح فتحي التريكي أحد طلبته). كانت انطلاقة فوكو الفلسفية في هذا البلد. ويعود ذلك في نظرنا ربما إلى أن التقليد الفلسفي العربي لا يفاضل بين علم النفس والفلسفة كما هو الأمر لدى ابن رشد، ولا بين علم الاجتماع والفلسفة، كما هو لدى ابن خلدون. ولم تستتب التخصصات الدقيقة تبعًا للتقليد الفرنسي إلا وقتًا بعد ذلك.

درّس ميشيل فوكو الفلسفة في جامعة تونس من سبتمبر/ أيلول 1966 إلى صيف 1968 (Getty)

قام فوكو، عدا محاضراته ودروسه، بمحاضرة عمومية في الجامعة، وقام بمحاضرات في منتدى الطاهر حداد، وفي مركز الأبحاث "سيريس"، كما منح بعض المقابلات الصحافية لبعض الجرائد التونسية. وفي هذه الفترة، حرّر كتابه "حفريات المعرفة" الصادر عام 1969، في بيته في سيدي بوسعيد، والذي سوف يجعله من بين الفلاسفة المؤثرين في الفكر العالمي.
كان فوكو معجبًا بالشره المعرفي لطلبته التونسيين، الذين ألقى عليهم دروسًا ومحاضرات عن ديكارت، والفن في عصر النهضة، ومكانة الإنسان في الفكر الغربي. وكانت دروسه الجمالية، وفي تاريخ الفن، تعتمد على عرض الشرائح المصورة عن الفن في عصر النهضة وتحليلها أمام الطلبة، من ناحية الموضوع كما من الناحية التشكيلية. وهذه الدروس كانت ذات أثر كبير في استنبات التفكير الجمالي لدى الفلاسفة والمفكرين التونسيين إلى حدّ اليوم. وكان يكرس لهم ساعات طويلة في المكتبة، وساعدهم على تأسيس نادٍ للفلسفة ألقى فيه محاضرة بعنوان "ولادة النقود". وهنالك عدد من الطلبة القدماء احتفظوا بتسجيلاتهم لتلك الدروس، وخاصة منها دروسه عن ديكارت، التي احتفظوا منها بتسجيل كامل. وفي 1987، خصص له طلبته القدماء أيامًا دراسية كانت مناسبة لاستكشاف دروسه التي كان ألقاها في تونس خلال مقامه الجامعي بتونس (البنيوية والتحليل الأدبي، والجنون والحضارة، والتشكيل لدى إدوار مانيه)، والتي ظلت مجهولة لو لم يحتفظ طلبته التونسيون بتسجيلات صوتية لها قدمت للجمهور لأول مرة.
كان مرور ميشيل فوكو في تونس مرورًا مشرقًا، ترك وراءه جيلًا من المفكرين والفلاسفة الفاعلين في الحقل الثقافي التونسي والعربي. والحق أنه حظي في تونس باسم الفيلسوف الذي رفضته له فرنسا. وبالرغم مما قاله عنه صديقه غي صورمان، فإن فوكو ظل حريصًا على كتمان ميوله الشخصية (مقارنة مع أندريه جيد، ورولان بارت)، وهو أمر لم يؤثر، حسب شهادات طلبته القدامى، بأي شكل من الأشكال على مسيره التعليمي، أو ممارسته للكتابة والبحث، كما على صورته العامة في المشهد الثقافي التونسي، خاصة وأن منطقة تونس التي كان يقطنها كانت معروفة في ذلك الوقت بطابعها المحافظ؛ بالرغم من أنها عرفت توافد شخصيات غربية شهيرة، واستقرارها فيها.

رولان بارت في المغرب: سحابة صيف
انتُدب رولان بارت في موسم 1969 ـ 1970 للتدريس في جامعة محمد الخامس في الرباط، التي كان الفيلسوف والمفكر الشخصاني محمد عزيز لحبابي عميدًا لها، والتي كان تدرّس فيها آنذاك أسماء معروفة، كعبد الكبير الخطيبي، ونجيب بلدي، وسامي النشار، وغيرهم. بيد أن مقام بارت في المغرب صادف لسوء الحظ مرحلة إضرابات ومظاهرات في الجامعة المغربية. فما إن بدأ الرجل دروسه حتى انقطعت الدراسة بفعل احتجاجات الطلبة، ومرت السنة الجامعية بيضاء من غير دروس، أو محاضرات.





كانت الخيبة من نصيب بارت، الذين لم يستطع الطلبة المغاربة، على عكس ميشيل فوكو في تونس، أن يستفيدوا من فكره ومقارباته الأدبية للنصوص. هكذا سوف يكون هذا المقام العابر لبارت في المغرب أثر سلبي على نظرته للبلد، وإن كانت اللقاءات مع المثقفين المغاربة (الخطيبي بالأساس)، والفرنسيين (كلود أولييه)، خلاله، أعمق وأوضح أثرًا. تكاد تكون المقدمة التي كتبها بارت لكتاب الخطيبي "الاسم العربي الجريح" العلامة الناصعة الوحيدة التي تركها المغرب في نفس بارت، حيث جاء فيها: "إنني والخطيبي نهتم بأشياء واحدة، بالصور والعلامات والآثار والحروف. وفي الوقت ذاته يعلمني الخطيبي جديدًا، ويخلخل معرفتي، لأنه يغير موطن هذه الأشكال، كما أراها، ويأخذني بعيدًا عن ذاتي، إلى أرضه هو، في حين أحس بنفسي في الطرف الأقصى من نفسي". إنها الأرض التي أقام فيها من غير أن يحاول تعلم لغتها، ومن غير أن يترك فيها وجوده أثرًا كبيرًا.
سوف نجد علامات متناثرة عن هذا العبور في كتاباته اللاحقة. ففي كتابه "رولان بارت بقلم رولان بارت" (1975) نعثر على أول إشارة إلى المغرب من خلال تشبيهه لصورة لنخيل بمراكش بكونها أمثولة للكتابة. ثمة أيضًا الحديث عن الجيلالي، صديقه المغربي، الذي يثبت له رسالة يعدها أنموذجًا للنص الطوباوي الحديث، الذي لا يمكن للمؤلف أن يكتبه بنفسه، بل فقط أن يمارس رغبته فيه، مع أنها تفصح عن البؤس المادي للإنسان المغربي. هكذا، وكما يقول أحد دارسيه بوضوح مأساوي: "إن بارت لا يتحدث عن المغرب، في المسافة الناكرة للجميل التي يتخذها الإنسان الغربي. كما أنه مع ذلك لا يتحدث من أجل المغرب، أي لا يأخذ مكان المغرب في القرب الهستيري لامتلاكه. إنه يستشهد بالمغرب" (رسالة الجيلالي وصورة النخيل)!

يتحدث رولان بارت لأوّل مرة عن المغرب في كتابه "حوادث طارئة" (Getty)

أما في كتاب "حوادث طارئة" الذي نُشر بعد وفاته (1987)، فإن بارت يتحدث لأول مرة عن المغرب. وهو كتاب لم ينشره قيد حياته كما نعلم. في هذا النص البارتي، ثمة المسكوت عنه في العلاقة الشبقية بالآخر التي يعيشها الغربي في حضن الآخر. فإذا كانت رسالة الجيلالي، بالرغم من البؤس الذي تعبر عنه، قاسية، فإن الحديث عن أجساد الغلمان أمر لا يمكن إلا أن يثير الشفقة...
ذلكم هو مغرب رولان بارت، أي الشق الخفي والمعتم للقمر.
ولأن رولان بارت لم يترك أثرًا يذكر في المغرب، فإن كلية الآداب التي احتضنته (ولفظته في الآن نفس) في ذلك العام المليء بالاحتجاجات الطلابية، لم تفكر أبدًا في تنظيم ندوة عن مروره بها وبالمغرب. والمفارقة هي أن كلية مكناس، حديثة العهد، نظمت ندوة دولية عن رولان بارت في المغرب عام 2010 (أربعين عامًا بعد مقامه المغربي). ومن بين المنظمين لهذه التظاهرة، لا أحد عرف بارت، أو تتلمذ عليه. ولم تنشر أعمال الندوة في كتاب، مما يدل على فقرها.
أمام الغنى الفكري والثقافي لمقام ميشيل فوكو في تونس، ثمة فقر فاضح ونرجسية مُتعوية لمقام بارت بالمغرب. تمامًا كما كان مقام الفنان بول كلي في تونس في 1914 ذا أثر كبير على الفنون التشكيلية العربية، مقارنة مع مقام هنري ماتيس في طنجة في 1912 ـ 1913، الذي لم يترك أثرًا يُذكر في الفن المغربي إلا بعد عقود طويلة... لنقل، إذًا، إن كل مقام ضيافة... ولا ضيافة لا يستفيد منها المضيف، إن لم تكن له إضافة...

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.