}

عاشَتْ العربية في غرْبتها (14)

دلال البزري دلال البزري 17 ديسمبر 2023
استعادات عاشَتْ العربية في غرْبتها (14)
جنود عراقيون أسرى بحراسة جنود أميركيين (25/2/1991/ Getty)
تعريف:
عنوان هذا الكتاب، الذي ننشره على حلقات أسبوعية كل يوم أحد، تفصّله ثلاثة خيوط مختلفة:
ـ في الخيط الأول، يتكلم بصيغة الغائب المفرد، أي أنني أصف فيه محطات من حياة شخص، هو أنا: في إبحاري بالعربية، عبر أحداث سياسية ـ ثقافية.
ـ الخيط الثاني: أن العربية الراهنة ما زالت عائشة. ما زالت تقاوم من أجل البقاء، رغم تعثر أبنائها وإهمالهم لها. ويدعي هذا الكتاب بأنه ذرَّة في رمال إرادتها بالحياة.
ـ الخيط الأخير حماسي، يشبه صرخات التمنّي بالبقاء، مثل "يحيا الملك!" أو "يعيش الزعيم"! أقول "عاشت العربية!"، بمعنى أنني أتمنى لها البقاء، وتجاوز وحْشتها.

الوقائع المروية في هذا الكتاب كلها حقيقية، غير متخيّلة. وهي ناقصة بالتعريف. وأنا مسؤولة فقط عن صدقها.

1990 ـ 1999: المقهى، الإصدارات، تجمع الباحثات اللبنانيات
في أصيلة، شمال المغرب، أوائل شهر أغسطس/ آب 1990، أشترك في مهرجان ثقافي ينظمه وزير الثقافة المغربي، محمد بن عيسى، بالتعاون مع الجمعية العربية لعلماء الاجتماع.
الصباح باكر. يطلّ عليّ الطاهر لبيب والوجوم على وجهه:
ـ ثمة أخبار سيئة... كنتُ أود تأجيلها عليك. عذرًا إن ازعجتك في هذه الساعة.
ـ أخبار ماذا؟
ـ ...
ـ تكلم... ماذا جرى؟!
ـ عبد القادر زغل سوف يخبرك. هو أول من سمع بالخبر.
أهرع الى غرفة عبد القادر:
ـ ماذا؟ ماذا حصل؟
ـ سمعتُ أخبارًا غير سارة...
ـ طيب... طيب... ما هي؟!
ـ صدام حسين اجتاح الكويت... من دون مقاومة تُذكر... وبلغ عمقها. وهو أعلن...
لا أنتظر بقية جُملته. أهرع الى التلفون، وأطلب الكويت. يردّ زوجي.
ـ هل أنتَ بخير؟ أين نورا؟ هي معك؟ ماذا يحصل حولك؟
ـ لا... لا تخافي... عملية بسيطة... سوف....
وينقطع الخط. أعاود الاتصال مرة واثنتَين بالكويت.... بلا فائدة. أقول ربما التلفون معطّل. أحاول من بلدية أصيلة، ومن منزل وزير الثقافة... عبثًا أيضًا... الاتصالات التلفونية مع الكويت انقطعت.
الجلسة الأخيرة من المهرجان أُلغيت، والمؤتمرون متحلّقون حول جهاز الترانزستور. وأخبار الاجتياح العراقي للكويت تتوالى. لا أحاول أن أفهم شيئًا، لا أستطيع. فقط تلحّ عليّ تلك الأصوات الغريبة التي خرجت من هاتف زوجي في آخر لحظات اتصالي به. أصوات قريبة، وخبْطات أرجل، وربما أيضًا أصوات شاحنات، أو ملالات كأنها تقترب منه... أو أنني أتخيّل.
وفي خضم هذا الاضطراب، يريد أحد المؤتمرين المغاربة أن يخفف من قلقي، فيسألني:
ـ منذ متى أنت تسكنين في الكويت؟
ـ عام وبضعة أشهر....
ـ الحرب...؟ أية مرحلة منها؟
ـ مرحلة الخطف مقابل فدية...
كيف؟ في قلب بيروت نفسها...؟ احكي لي...
أروي له قصة اختطاف ابني، باختصار. ولكنه يريد مزيدًا من التفاصيل، وأنا مشتتة، لا أريد التلهي عن صدام حسين والكويت. أنضم الى بقية المؤتمِرين؛ متحلقون حول الراديو، يتنقلون من محطة الى أخرى، يعلقون، يستوضحون، يستنكرون.
الآن عليّ الإسراع بالعودة الى الدار البيضاء. والحجز في أقرب طائرة متجهة إلى الكويت. ولكن مطار الكويت "مغلق"، تجيبني الموظفة في شركة الطيران المغربية.
ـ ومتى يفتح...؟
ـ ربما بعد يومين، أو ثلاثة.
أنزل في أحد فنادق الدار البيضاء. أنتظر وأهجس، أحاول أن أطمئن.
كأنني محتجزة في غرفة هذا الفندق المغربي. في هذه المدينة التي عشتُ فيها سنوات من طفولتي. أعرف رائحتها جيدًا. أروّح عن نفسي، أخرج قليلًا، وأسرع للعودة إلى الفندق.  لعلّني أجد خبرًا عن إعادة فتح مطار الكويت. حتى تعلن موظفة الشركة بأن هذا المطار مُغلق "حتى إشعار آخر". وأطلب منها أن تحول بطاقة سفري إلى بيروت، وأدفع "الغرامة".
أصل إلى بيروت، أستقي الأخبار من الهاربين من الكويت. زوجي وابنتي في الطريق إلينا. وكذلك ابني الذي كان يمضي إجازته في صحراء الأردن. هكذا نلتقي كلنا، ونعود فنستقر ثانيةً في بيروت.
كأن صدام أعادني إلى بيروت. كأن اجتياحه للكويت له صلة ما بانتهاء الحرب الأهلية في لبنان.

مقهى الروضة
نهاية الحرب. تحقّق حلمنا أخيرًا. نكاد لا نصدق. نريد أن ننسى، أن ننسى المخطوفين والمخْتفين والقتلى والمهجرين، أن نسامح القتلة، أن نسكت عن تولي بعضهم مقاليد السلطة، وسجن بعضهم الآخر، أو إبعادهم. نغض الطرف عن عيوب الساسة، كنا قبل الحرب نحسبها تستاهل حربًا لاجتثاثها. تصيب معظمنا حمى خاصة، شهية متجددة على الحياة، مع أننا لم نكن محرومين منها تمامًا أثناء سنوات الحرب، نسهر ونرقص ونقيم الولائم، والانفجارات من حولنا... ونحن عرْضة أيضًا لمتلازمة خاصة: الاعتقاد بأن السلم سوف يغدق علينا السعادة والازدهار والاستقرار. فاندفاع وفوَران، باتجاهات مختلفة. نريد استعادة سنوات السرقة لأعمارنا، الاستعجال أحيانًا في هذه الاستعادة، فنكثّف اللحظات. بالمؤانسة، بالسؤال عن الغائبين المنقطعة أخبارهم، وعن الحاضرين بيننا، وبالعمل... ثم العمل.




عشية الحرب الأهلية، في السبعينيات: كانت مقاهي شارع الحمرا هي التي تجمع المهتمين ببعضهم وبالبلد، "مجالهم المشترك"، كما كانوا يقولون. يداوم عليها الرواد بأوقات معينة من النهار، يتواعدون، يقرأون الصحف، يجتمعون، يكتبون، يتغازلون، يلقون المحاضرات المصغّرة، أو القصائد، يعاملونها معاملة صندوق البريد، ناقلة الرسائل... وبعضهم يوقّع كتبه في واحدة منها، أو يجري مقابلة صحافية مع شاعر، أو روائي، أو يتفق مع ناشر على طباعة كتابه أو ديوانه، مثل مقهى "الهورس شو"، و"الإكسبرس"، و"الويمبي"، وغيرها الأصغر منها والأقل شهرة. كل هذه المقاهي فقدت بريقها أثناء الحرب، وأحيانًا حياتها. بعضها تحول إلى مطعم، أو مصرف، أو ميني ماركت، أو إلى محل لبيع العصير، أو الثياب، أو الأحذية. ولم يبق منها بعد انتهاء الحرب سوى مقهيين أو ثلاثة، متروكة على ديكورها القديم المتهالك... من تلك التي تستقبلك على فنجان قهوة طوال فترة قبل الظهر، أو ما بعدها. ونحن، رواد المقاهي القدماء ربما حوّلنا النظر عنها لأنها متفرقة، مغلقة وكئيبة. فنحن نوّد الاقتراب من بعضنا، وفي الهواء الطلق، بعدما فرّقتنا الحرب وحبستنا في مخابئنا.
هكذا نقع على مقهى الروضة، وكأننا اتفقنا مسبقًا عليه. كنا نسمع عنه قبل الحرب، ونحسبه مكانًا عائليًا في حضن البحر، تُشوى فيه اللحوم، وتُقدّم كؤوس العرق والتبولة بأسعار زهيدة. قريب وبعيد من إسمنت المدينة المخرْدَق من كل الجهات، بعمارته، أو نصف عماراته المثقوبة برصاصات الحرب وصواريخها. مقهى يدير ظهره للمدينة، ينساها، يجلسكَ في وجه البحر. وأين؟ في أحد رؤوس بيروت، قريبٌ من المنارة. تكاد أمواج البحر تصله. وبوسع رواده أن يمشوا على صخوره، ويدوسوا مياهه... مستوياته مرتفعة منخفضة. الأخير، المنخفض، تتوسطه حديقة بتصوينة. حديقة داخل حديقة. وأشجار النخيل العالية وفوضى من الزهور المتدفقة، من تلك التي تراها في البرّيات. الكراسي من الخشب القديم بظهرها المشبَّك. على طاولاته شراشف الأحمر والأبيض المربّعة. كأنك في إحدى شُرُفات بيت تحلم به، يطلّ على البحر.
هذا المقهى البيروتي العائلي أصبح الآن أشبه بصالة استقبال كبرى، مفتوحة على البحر، نلتقي فيها بعد الغروب، نتوزع على طاولاتها، حسب أهوائنا، أو مجرد كأس. نشبه جماعة ذات لُحمة نصف مكشوفة. وبقليل من الوقت، نصبح شلّة لها روتينها. وداخل كل شلة، ثمة ثابتون وثمة متذبذبون، محتارون.
والشلل موزعة على الطاولات، مثل نقاط جاذبية، على رأسها "شخصية" من شخصيات المقهى. هؤلاء يتم الاعتراف بهم كأصحاب نقطة من تلك النقاط، لها طاولات "ثابتة". تظهر وجوههم على الملأ، يختبرون مكانتهم، يقارنون أنفسهم بغيرهم، ينظرون إليهم كأنهم أمام مرآة.
وفي وسعكَ أن تتعرف إلى ميول معظم هذه الشلل الموزعة هنا وهناك، بـ"الشخصية" الأبرز من بين جلاّسها. الفنان، الفيلسوف، الصحافي، القيادي الحزبي السابق... كلهم رجال. النساء من "جمهور" الشلة، أنا واحدة منه، مع صديقتي ضحى شمس. وكل شلّة لا تتعدّى العشرة أشخاص. إلا شلّتنا، التي تفيض.
من نحن في هذا المكان؟ نحن خليط من الصحافيين والروائيين والمثقفين والفنانين والأساتذة المهتمين... ويساريون، تقدميون، سابقون، حاليون، وبعضهم صار يزاول مهنًا جديدة علينا وعليه. وغالبيتهم جرّب الرحيل من لبنان في بداية الحرب. بعضهم لم يُعمِّرْ طويلًا في الخارج، وعاد في أوقات الهِدن القصيرة. والآخر بقي ثابتًا في مغتربه. وفي السنوات العشر الأخيرة من هذه الحرب، عاود كثيرون الرحيل، بعدما يئسوا. فهاجروا هذه المرة عن حق، وسكنوا في باريس ولندن. وهم الآن يعودون.

الصحافي اللبناني الراحل جوزيف سماحة (Getty)

ومن بين العائدين، جوزيف سماحة. أنضم تلقائيًا إلى "طاولته". جاذبيته كبيرة، وحوله تنوّع من الجلاس، أعرفهم من زمان، من قريب أو من بعيد. بين اليوم والآخر يطلّ على المقهى وجه جديد، قادم من إحدى العاصمتين الأوروبيتين. "يرعاه" جوزيف في خطواته الأولى نحو المقهى. غالبًا يكون القادم الجديد شابًا في "بداية مسيرته".
يدخل إذًا الشاب الواعد، دائمًا برفقة جوزيف، يجلسان على الطاولة المخصصة لنا ويتولى جوزيف عملية "التعريف".
ـ من برّا...
ويتابع، مثْنيًا على ألمعية الشاب، موهبته وثقافته، على الكتب التي ألفها، أو التي سيؤلفها، أو على الأفلام التي أخرجها. وكله "تاريخي"، "طليعي" أو "فذّ"... وأنه ربما سيبقى في لبنان، إذا وجد عملًا يليق به، إذا اهتم أصحاب القرار بموهبته وقدراته. الاحتفاء بالشاب يتكرر عند كل قادم جديد من الخارج، فيحتل شابُّنا مكانة بين المجتمعين.
ونعود ونسأل عن الذين انقطعت أخبارهم، الذين عرفنا أنهم استقروا في الأرجنتين، في الولايات المتحدة. أو الذين ذابوا مثل الملح، لا قتلوا ولا خطفوا... خرجوا من لبنان تحت الضوء، وانقطعت أخبارهم عن أهلهم وأصدقائهم، كأن الأرض ابتلعتهم.
ننسى ونتذكر، وننقسم كل مرة على فِعلَي النسيان والتذكر. وبنوع من الهدوء المرح. ومع أن ثمة "فريقين" بيننا، غير أنه يمكن أن تجد "النزعتين" المتناقضتين لدى شخص واحد. وهذا لا يمنع تمكّن كل طرف من حجته الجاهزة.
أصحاب النسيان:
ـ علينا الآن، ونحن نقترب من الأربعين من عمرنا، أو بلغناه وخلاص... علينا أن ننسى لكي نغرف السعادة في ما تبقى لنا من سنوات.
أو بالعكس، أصحاب التذكر:
ـ يجب أن لا ننسى، كي لا تتكرر الحرب.
وأصحاب هذا الرأي الثاني أقل واقعية، إذ ماذا يعني أن "لا تتكرر الحرب"؟ ماذا نفعل، غير الكلام، لكي "لا تتكرر"؟ فيما الحياة في المقابل، حياتنا المباشرة، مفتوحة على وعود بالاستقرار، رغم الشوائب، رغم اعتراضاتنا على "النظام الطائفي النيوليبرالي".
وانقسام السهرانين في المقهى هو نفسه، بعد عرض مسرحية زياد الرحباني. اسمها "بخصوص الكرامة والشعب العنيد". في المشهد الأول يعرض الرحباني أوصاف الشعب اللبناني "العنيد" بفكاهة سوداء تتجاوز السخرية، عبر لقطات سريعة نافذة: إنه شعب محتال، نصاب، كذوب، اتكالي، مولَع بالمال والمظاهر. وفي المشهد الأخير من المسرحية، نرى زلزالًا يضرب اللبنانيين، ما يعيدهم إلى العصر البدائي، الحجري. ضائعون، تائهون، هيئتهم مزْرية، شعرهم فالت منبوش، يرتدون جلود الحيوانات، سلاحهم الوحيد عصا مقطوعة من أقرب شجرة. وصرخة أخيرة لأحدهم "يا أرض انشقي وابْلعينا!" (إبْتلعينا).
كلهم تقريبًا حضروا المسرحية. وأحيانًا، كانوا مع بعضهم. فكان نقاش تتطاير فيه الجُمل.
ـ مسرحية مهمة. تُبيِّن أن لا شيء ينقذنا إذا لم نتخلَّ عن عيوبنا، ولم نعمل على بناء الدولة والمؤسسات وعلى القانون...!
ـ ها نحن في خضم بناء الدولة. علينا إعادة الإعمار أولًا...!
ـ وهل يصحّ أن يُعاد الإعمار من دون بناء دولة...!؟
ـ من دون إعادة إعمار الذات؟ ونظام أخلاقي جديد...!؟
ـ ونحن لم نصدق أننا انتهينا من الحرب! وأننا عدنا إلى لبنان، ونستطيع الآن العيش فيه...!
ـ انتهينا من الحرب...
ـ تحقق أملنا...
ـ لن نصل إلى ما يتوَّعد به الرحباني في هذه المسرحية...
ـ هذا مصير أسوأ من الحرب الأهلية...
ـ هذه أجواء سامة تعيق إقبالنا على العودة من منافينا...
ـ ما أحلى الطمأنينة... لا إطلاق نار، ولا صواريخ.
ـ ووجوه جديدة، والحريري الذي يريد إعادة الإعمار...
والمتخصّص بالاقتصاد، الشيوعي الذي يصف نفسه بـ"البراغماتي":
ـ بلى بلى، ولكن... لا يصح أن يكون زياد الرحباني متشائمًا إلى هذه الدرجة. صحيح أن السياسة الاقتصادية تضرنا، وتضر الطبقات المتوسطة والفقيرة. ولكن يا جماعة، علينا أن لا ننسى خراب الحرب وبلاياها. ومهمات إعادة الإعمار... كم هي شاقة ومكلفة. الحاكمون الآن هم الذين أنهوا الحرب. لولاهم، ما كان ممكنًا لنا أن نجتمع في هذا المقهى، أن نسهر حتى آخر الليل، أن تُعرض المسرحية أصلًا. هل يريد الرحباني أن يقول لنا بأننا سننتهي إلى حال أهل الكهف إذا لم نصلح هذه أو تلك من عيوبنا؟ وهل ثمة حكم، ثمة شعب... من دون عيوب؟

(يتبع...)

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.