}

عاشَت العربية في غرْبتها (15)

دلال البزري دلال البزري 24 ديسمبر 2023
استعادات عاشَت العربية في غرْبتها (15)
من ندوة المرأة والحرب في باريس، 1988
تعريف:
عنوان هذا الكتاب، الذي ننشره على حلقات أسبوعية كل يوم أحد، تفصّله ثلاثة خيوط مختلفة:
ـ في الخيط الأول، يتكلم بصيغة الغائب المفرد، أي أنني أصف فيه محطات من حياة شخص، هو أنا: في إبحاري بالعربية، عبر أحداث سياسية ـ ثقافية.
ــ الخيط الثاني: أن العربية الراهنة ما زالت عائشة. ما زالت تقاوم من أجل البقاء، رغم تعثر أبنائها وإهمالهم لها. ويدعي هذا الكتاب بأنه ذرَّة في رمال إرادتها بالحياة.
ــ الخيط الأخير حماسي، يشبه صرخات التمنّي بالبقاء، مثل "يحيا الملك!" أو "يعيش الزعيم"! أقول "عاشت العربية!"، بمعنى أنني أتمنى لها البقاء، وتجاوز وحْشتها.

الوقائع المروية في هذا الكتاب كلها حقيقية، غير متخيّلة. وهي ناقصة بالتعريف. وأنا مسؤولة فقط عن صدقها.


1990 ـ 1999: المقهى، الإصدارات، تجمع الباحثات اللبنانيات

الإصدارات
سمير قصير من القادمين من باريس. يعرفنا عليه جوزيف سماحة أثناء إحدى سهرات الطرب، بعدما كلمنا عنه. "دار النهار" تعيّنه مديرًا لمطبوعاتها. ويكون في حوزتي مجموعة من المقالات البحثية التي كتبتها لدوريات فرنسية، يجمعها عنوان واحد هو الحركات الإسلامية العربية الصاعدة. أعرض على سمير قصير الفكرة، فيوافق، وأنهي مخطوطة الكتاب. اتفاق شفهي، وتأخير، وتأجيل... ويطلع الكتاب. أرتاح لرسمة غلافه السوريالية الخضراء. أتصفحه، وشيء ما يضايقني. لا أحبه هذا الكتاب. لغته خشنة، تدّعي "الأكاديمية"، كأنها مترجَمة، وعباراته غامضة، أفكاره غير مفهومة. ميزته الوحيدة عنوانه، وكلماته الملعوبة "دنيا الدين والدولة" (1995). واليوم، عندما أتذكره، أعاتِب نفسي على ارتكابه.
دار الندوة البيروتية تنظم وقتها نقاشًا حول هذا الكتاب، هي مفاجأة وفرصة لاكتشاف آخر: جميع الذين تكلموا عنه، وكانوا أربعة، إضافة على مدير الجلسة، غضوا الطرف عنه. اثنان لم يقرآ الكتاب بتاتًا، وآخر اكتفى بقراءة المقدمة للاحتجاج كيف أن "امرأة علمانية" يمكن أن تفهم الحركات الإسلامية. والأخير قرأ فصلًا واحدًا، كان كافيًا بالنسبة له أن يعطي فكرة عن الكتاب كله. فيما رئيس الجلسة تصفّحه، والتقط أخطاء لغوية ومطبعية، كانت للحقيقة كثيرة. امتعضت وقتها، وكان من البداهة عندي أن مناقشة أي كتاب، في أي مكان، يتطلب قراءته. أليس كذلك؟ هذا أضعف الإيمان.
ولكن يحصل بعد هذه الندوة ما يتفوق عليها: عندما يأتي صاحب برنامج ثقافي "جدي" في تلفزيون المستقبل، وشاعر معروف بأناقة أسلوبه، يريد أن يجري معي مقابلة حول الكتاب نفسه. أفرح، وأطرح عليه السؤال الذي يشغل كل صاحب كتاب:

الصحافي اللبناني الراحل سمير قصير (Getty)


ــ هل أعجبك؟ ما رأيك به؟
ــ أعجبني؟! لم أقرأه...
ــ وكيف... تعمل حلقة عن كتاب لا تقرأه...؟!
ــ لا حاجة لذلك...
ــ طيب وكيف تضع الأسئلة؟!
ــ أنت تضعينها... لا مشكلة أيضًا في ذلك...
رفضتُ المشاركة في برنامجه. وهو الآن صار من أقوى مقدمي البرامج الثقافية. ومع الوقت، بدت لي "حادثة" دار الندوة، التي لم تعجبني حين وقوعها، على درجة نسبية من الاحترام للكتابة والنصوص.
تجربة مختلفة حصلت مع كتابي الثاني. الجمعية العربية لعلماء الاجتماع تُفْرط بالتركيز على غرامشي، كما ذكرت. ندوات لا حصر لها أشارك فيها حول مفاهيمه، وكيف يمكن تطبيقها في العالم العربي. ندوات وأبحاث، و"تطبيقات" غرامشية غير مطابِقة أحيانًا، خصوصًا مفهوم "المجتمع المدني".
هذه الهجمة الودودة على غرامشي توحي لي بمقال طويل عن "مجتمعه" المدني العربي، أنشره على جزأين في صحيفة "السفير" اللبنانية. وبعد ذلك أنقّح قليلًا محتوياته، بغاية نشره كتيبًا في دار الجديد، وأعرضه على مديرها لقمان سليم. يقرأ لقمان المخطوطة سريعًا، ويطلب مني يومين. أعود إليه، وأجد فيه إضافات وتعديلات لغوية وتعبيرية أدخلها عليها، وعلى عنوانها. تعجبني بلا تردد.
ــ هذه ليست أنا، أقول له... هذه أحسن مني.
ابتسامة لقمان، تهذيبه البالغ. أشكره من قلبي. إنه "غرامشي في الديوانية. في محل المجتمع المدني من الأعراب" (1995). أنا كتبتُ الشق الأول من العنوان، وهو أضاف الشق الثاني.
قبل هذه السنة، عام 1993، أشارك في كتاب جماعي فرنسي عن لبنان ما بعد الحرب، عنوانه "لبنان اليوم"، تشرف عليه فاديا كيوان، ويدعمه "السيرموك" (مركز البحوث والدراسات حول الشرق الأوسط المعاصر)، التابع لـ"المركز الوطني الفرنسي للبحث العلمي"، والتي تديره الحكومة الفرنسية. وتكون مساهمتي حول علاقة الإسلاميين اللبنانيين بالكيان اللبناني.
هكذا أتعرف على جان أنويي، مدير "السيرموك"، الذي يقترح عليّ القيام بدراسة عن نساء "حزب الله". تجربة مثيرة، وصفتها في الفصل الأول من الكتاب، تحت عنوان "رحلة في أقاصي بحث ميداني". لأول مرة أشرع في تحديد "هويتي"، من الزاوية التي يفرضها البحث. فأنا أمام نساء هويتهن قوية، ومناقِضة لهويتي: أنا يسارية سابقة علمانية ونسوية. وهن صاحبات عقيدة دينية، تنطوي على اختلاف جذري مع مكونات هويتي الثلاثة هذه. فكان السؤال، كيف أستطيع أن أكون موضوعية؟ والجواب أن لا موضوعية بالمطلق، إنما بنسبة؛ نسبة معينة تساعد على الموضوعية، والباقي على يقظة ضميري المعرفي، ورقابتي على ما أعرفه، وما لا أعرفه. والضمير الأخلاقي بدوره مراس غير مضمون بالكامل أيضًا. فكان تحقيق وجلسات تمهيدية مع نساء شيعيات من الدوائر كافة، ومن الملتزمات بالحجاب الجديد، والرسو على مقابلات مع عشر مسؤولات من "حزب الله"؛ أحاور خلالها ذاتيتي، ولا أتوقف عن محاولات طردها واستعادتها ومحاسبتها.




يساعدني على بلورة جهدي هذا، السيد محسن الأمين، الذي يستقبلني في منزله في حيّ طريق الجديدة، مُحاطًا بالكتب. ونمضي في جلسات مطوَّلة، أسأله ما يكون في بالي، استوضحه عن وقائع تاريخية، أضحك مطولًا أمام واحدة من سخرياته السعيدة، يروي لي شيئًا عن حياته... لم أقابل مثل محسن الأمين: علامة بالتاريخ والفقه، متابع دقيق لأحوال العصر، يمرح ويضحك ويعبث بالكلمات كما يفعل الشعراء، ويتفاعل مع أية إشارة أو فكرة، مثل العلماء المعتّقين، وابتسامته الخاشعة أمام علم الآخرين.
وكان مطلوبًا مني أن أصيغ البحث باللغة الفرنسية. وأكتشف عند بداية الكتابة، بعد تجميع المعطيات الميدانية وفرزها والتدقيق فيها... أنني لم أعد أكتب الفرنسية بالسلاسة التي عهدتها سابقًا. نسيتها قليلًا. وبعد الانتهاء من كتابته، أحتاج إلى من يعيد لي قرءاته قبل تسليمه إلى المركز. ويكون أحمد بيضون هو المصحّح.
وبعدما ترجمه حسن قبيسي إلى العربية، ونشر في دار النهار، حمل عنوانًا اختاره لي حسن داوود في إحدى سهرات السمَر "أخوات الظل واليقين" (1995). ولم تكن ترجمة حرفية للعنوان الفرنسي الأصلي، والذي يصعب على كل حال نقله إلى العربية من دون أضرار تصيب السمع، أو الفهم. وتوصلتُ فيه إلى الملاحظة بأن نساء الإسلام السياسي الشيعي في أولى حقباته اللبنانية بنَينَ علاقة جدلية بين الإسلام والحداثة، يسكنها تناقض "عضوي": بموجبه، يحدّثن الإسلام ويؤسلمنَ الحداثة. وقد تغيرت هذه العلاقة الآن.
بعد سنة، يكلفني جان أنويي بموضوع دخول إسلاميين إلى البرلمان اللبناني بعد الحرب، وبالفرنسية أيضًا. ويكون كتيب أتناول فيه مواقف نواب "حزب الله" و"الجماعة الإسلامية" في هذا البرلمان. وعنوانه "إسلاميون، برلمانيون ولبنانيون" (1998).  
في الوقت عينه، أوقع عنوانًا آخر، بالاشتراك مع زميلتي عزة شرارة بيضون. نتفق على مشروع بحثي: دراسة نُشرت في دار الجديد أيضًا، وقد اعتنى لقمان سليم بلغتها، كما سبق أن فعل مع غرامشي. وهي الجزء الأول، "المكتبي" من مشروع عن المجتمع المدني النسائي، سوف يليه جزء ثان ميداني.
في هذا الجزء الأول، إذًا، نراجع كل ما صدر عن الموضوع، وعنوانه "المرأة والعمل الاجتماعي. قراءة في الدراسات العربية واللبنانية" (1998). ونكتب فيه، عزة وأنا، مقدمتين منفصلتين. وأكتشف، وأنا أكتب مقدمتي، أن هنالك تقسيمًا جنسيًا للبحث، بين دارسين رجال، لا يهتمون بالبحث عن النساء، ولا بالقراءة عنهن، ولا بالتالي الكتابة، وبين دارسات نساء، لا يكلَّفن تقريبًا إلا بالبحث في النساء. هكذا، تكوَّنت عندي صورة "غيتوات بحثية"، تفصل بين رجال ونساء يعملون في البحث، من حيث لا يعلمون ربما، لشدة بديهية هذا الفصل.
وهذا التقسيم يضايقني: فأنا حينها مهتمة بتخصصي، أي الحركات الدينية الراهنة وأساليب الحكم "الشرعي". أقرأ عن هذه الحركات وأكتب، وأتفاجأ كل مرة بتكليفي في ندوة، أو مؤتمر، أو تحكيم بحث، أو مشروع دراسة، أو مجلة... بالكتابة، أو تحكيمًا لبحث عن موضوع المرأة. أقبل بالشروع فيها، بسبب مردودها المالي والمعنوي. ولكنني أقول أحيانًا للمقيمين على الدراسات بأنني متخصصة بشؤون أخرى. وأحيانًا أقترح موضوعًا "غير نسائي". فيجيبون أوتوماتيكيًا، مثلما يقترحون، بأن فلانًا من الباحثين الرجال كُلّف به، أو بأنك أنتِ الأصلح للموضوع "كونك امرأة".
وما يزيد من انزعاجي أن هذا التكليف لا يصحبه أبدًا أي فضول بمعرفة ما تكتبه النساء، أو تعلنه في المؤتمرات. كأن الواجب البحثي، المعرفي، للرجال تجاه مسألة المرأة يتوقف عند تكليف النساء بالنساء. وهو مجرَّد واجب تمليه مسألة صعود النساء في العالم الغربي. وكم من مرة حضرتُ ندوة "مختلطة" تتناول مسائل سياسية عامة، يكون دائمًا في ذيلها محور "المرأة" وارتباطها بشأن من شؤونها، مثل: المرأة والانتخابات البرلمانية، أو البلدية، "المرأة الاستبداد"، أو "الحرب"، أو "التنمية"، أو "الحداثة"، أو "التقليد". ولا ينتظر المنتدون من صاحبة الورقة المقدَّمَة في هذا المحور، وهي دائمًا امرأة وليست رجلًا... لا ينتظرون سوى النغمة ذاتها "أين المرأة...؟" في كذا أو كيت من الأدوار، أو الحقوق، أو النِسَب، أو الكوتا. أو: أين المرأة المظلومة المهمّشة، الغائبة، مهدورة الحقوق؟ ويكون المستمعون القلائل من النساء، والأقل منهن من الرجال، بينهم المتثائب، أو الساخر، أو المتعالي، أو المعْجب بصاحبة الورقة.
هذه الملاحظة صار عمرها الآن ربع قرن. وهي تفاقمت مع الوقت، وكبر السور المعرفي القائم بين النساء والرجال. والآن، صارت قضية المرأة "صوابًا سياسيًا" عالميًا. انتقلنا من مرحلة تحرّر النساء، إلى مرحلة محاسبة الرجال على جرائم، جنسية خصوصًا، ارتكبوها بحق نساء. فتضاعفت أهمية النساء وقضيتهن، وكثرت الكلمات عن المرأة، وفاضت، وأصابها التكرار لشدة "صوابها". فسادَ لدي شعور بأن "النظير الرجالي" لهذه الدراسات غير موجود. نقرأ عن المراهِقة والزوجة والأم، صحتهن تعليمهن نفسيتهن، وكل ما يدور حولها... ما يُجمَع في مجلدات... نهتدي بمقولة سيمون دي بوفوار من أننا "لا نولد نساء، إنما نصبح نساء". ولا نطرحها على الرجال من "أنهم لا يولدون رجالًا، إنما يصبحون رجالًا" ولا نعرف إلا النادر عن الرجال والآباء والمراهقين والأزواج، إلا شفاهة، وبأقوال مرْسَلة عفوية، غاضبة، آخذة طريقها نحو الاستضعاف.




وهذا خلَل معرفي تصلحه دراسة الرجل في جوانبه كافة، كما تدرس المرأة، أو ربما أكثر بعد هذه الفجوة. وإبعاد صفة "الذكورة"، أو "الذكورية"، الملتصقة به، وقد استُهلِكت. فالرجل، حتى في المجتمعات المتخلفة، لم يعد كما كان، يحكم بـ"الذكورية" الأصلية على حياة النساء ومماتهن. حتى لو كان عنيفًا، معنِّفًا، قاتلًا لزوجته، فهو مهدّد بالتحرر النسائي، باستقلال النساء، بطلبات الانفصال والطلاق، الجديدة عليه. لا يفهمه، كما لا تفهمه أحيانًا المرأة أحيانًا، لسرعة وتيرته، وغرابة الأوضاع التي يفرزها. فالتحرّر أصاب مواضع كانت بالأمس بعيدة، تسلّل إلى العقول، أو شذرات منه، بدرجات متفاوتة، وبخيوط دقيقة، غير مرئية... وغالبيته عبر الصورة، أو الواجهة والسطح. دراسة "قضية الرجل"، كما يسميها الغاضبون من تحرر المرأة، تستحق عناء الاهتمام. بشرط أن لا تتكرر الغيتوات العلمية السابقة، فينقسم العمل بين نساء يبحثن في النساء ورجال يبحثون بالرجال.
ساهمتُ في الجزء الثاني من الدراسة المشتركة مع عزة شرارة بيضون، في شقها الميداني وحسب. ولكنني لم أشاركها في كتابة منتجه الأخير، بسبب سفري إلى القاهرة والإقامة فيها.

(يتبع...)

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.