}

كيف اشتبك الأدب مع المرض والأوبئة في التراث العربي؟

باسم سليمان 6 فبراير 2023
استعادات كيف اشتبك الأدب مع المرض والأوبئة في التراث العربي؟
(فاتح المدرس)

لا ريب في أنّ الصحة تاج على رؤوس الأصحاء لا يراه إلّا المرضى؛ هذه الحكمة القديمة كثيرًا ما يتأجّل إدراكها من قبل الإنسان حتى يمرض ويتألم.
في كتاب "تجربة الألم"، لدافيد لوبروطون، يذكر اقتباسًا من رواية "موت مربيّ نحلٍ"، للكاتب، ل. غوستافسون: "الجنة لا يمكن أن تكون إلّا بعد أن يكف الألم. غير أن هذا يعني أنّنا طالما لا نعيش الألم، فإنّنا نحيا في الجنة! ونحن لسنا على علم بذلك!".
تقول سوزان سونتاج في كتابها "المرض كاستعارة": "إنّ المرض هو الجانب المظلم من الحياة. إنّه مواطنة مرهقة، فكل شخص ولد مواطنًا في مملكة الأصحاء، وفي الوقت نفسه يُولد مواطنًا أيضًا في مملكة المرضى".
لا بدّ لكل شيء إذا ما تم نقصان كما يقول أبو البقاء الرندي في رثاء الأندلس. إنّ الصحة هي التمام الذي يخشى عليه من النقصان، هكذا كُتب على الإنسان زيارة أرض المرض بشكل مؤقت، أو دائم.
اشتبك الأدب مع المرض والأوبئة في تراثنا العربي، فلم يترك الأدب المرض والوباء على مظانهما السيئة، بل ذهب في تجميلهما بالتشبيهات والاستعارات وحسن الأسلوب والعرض، وكأنّ الأدب دواء يخفّف من وطأة المرض على المريض، فيغيّر من هول الوباء عبر وصفه، أو التأريخ له، إلى دلالة انقضاء المحنة وتحقّق النجاة. ويعدّ كتاب "بذل الماعون في فضل الطاعون" للعسقلاني الذي تناول فيه الطواعين التي فتكت بالأمة العربية والإسلامية من أشمل الكتب التي تناولت الأوبئة، فيذكر فيه فصلًا قد خصّه في وصف الطاعون ناقلًا مقامة الوردي: (النبا عن الوبا) التي يذكر فيها ما فعله الطاعون بالعالم القديم، لكن الوردي يرتفع في مقامته التاريخية الواصفة إلى جماليات الأدب، حيث ينمحي الخوف من الطاعون، لتحلّ محله متعة تذوق مقامة فيها كثير من الكنايات، وبعضًا من السخرية. وفي ذكره للمدن التي أصابها الطاعون في بلاد الشام، نستمتع باللعبة الأدبية التي تغيّاها الوردي في مقامته ذاهلين عن الخوف من الطاعون: "... ثم أمزَّ المزّة، وبرز إلى برزة. وركّب تركيب مزج في بعلبك... وأزبد على الزبداني نعشه. ورمى حمص بخلل، وصرفها مع علمه أنّ فيها ثلاث علل. ثم طلّق الكنّة في حماة، فبردت أطراف عاصيها من حِماه:
أيّها الطاعون إنّ حماة من/ خير البلاد ومن أعزّ حصونها
لا كنت حين شممتها فسممتها/ ولثمت فمها آخذًا بقرونها.




ثم دخل معرّة النعمان، فقال لها: أنت مني في أمان. حماة تكفي في تعذيبك، فلا حاجة لي بك:
رأى المعرة عينًا زانها حور/ لكن حاجبها بالجور مقرون
ماذا الذي يصنعُ الطاعون في بلد/ في كل يوم له بالظلم طاعون.
لقد رأى في الطاعون قدرًا من أقدار السماء، وعدّ من مات فيه شهيدًا. وقد قيل في فوائد الطاعون بأنّه يقصّر الآمال، ويحسّن الأعمال. ويحث على اليقظة من الغفلة، والتزوّد للرحلة. وممّا قاله ابن الوردي شعرًا في ذلك:
فهذا يوصِّي بأولادِهِ/ وهذا يودِّعُ جيرانَهُ
وهذا يهيِّئُ أشغالَهُ/ وهذا يُجهِّزُ أكفانَهُ
وهذا يصالحُ أعداءَهُ/ وهذا يلاطف إخوانَهُ
وهذا يوسِّعُ إنفاقَهُ/ وهذا يخالِلُ مَنْ خانَهُ
وهذا يحبِّسُ أملاكَهُ/ وهذا يحرِّرُ غِلْمانَهُ
وهذا يُغيِّرُ أخلاقَهُ/ وهذا يعيِّر ميزانَهُ
ألا إنَّ هذا الوبا قَدْ سَبا/ وَقَدْ كانَ يرسلُ طوفانَهُ
فلا عاصمَ اليومَ من أمره/ سوى رحمةِ اللهِ سبحانَهُ.

(سبهان آدم)


لم يعفُ الطاعون عن ابن الوردي، فقال مسلمًا أمره لله قبل يومين من وفاته بالمرض:
ولستُ أخافُ طاعوناً كغيري/ فما هوَ غيرُ إحدى الحسنيينِ
فإنْ متُّ استرحتُ من الأعادي/ وإنْ عشتُ اشتفتْ أذني وعيني.
ننتقل بعد الطاعون إلى الأمراض الفردية، وكيف تقبّلها الشعراء، فعلى الرغم من الحمى والألم إلا أنّ الشاعر ظلّ وفيًّا للشعر، ولم تختف مفاعيله بين أنّات الألم وسعير الحمى. لكن قبل ذلك لننظر إلى رؤية الشاعر إلى الصحة، في مقابل ما يعد زينة الدنيا من مال وبنين. يقول بشار بن برد التي تذكر إحدى القصص عنه، بأنّ الجدري قد أفقده البصر:
إِنّي وَإِن كانَ جَمعُ المالِ يُعجِبُني/ ما يَعدُلُ المالُ عِندي صَحَّةَ الجَسَدِ
المالُ زَينٌ وَفي الأَولادِ مَكرُمَةٌ/    وَالسُقمُ يُنسيكَ ذِكرَ المالِ وَالوَلَدِ.
لقد ذكر كثيرًا من الأمراض في الشعر، وكان للحمى النصيب الأكبر، وذلك لأنّها ترافق كثيرًا من الآفات المرضية. وتعد قصيدة المتنبي في الحمى من أجمل القصائد التي قيلت في المرض، وخاصة أنّ المحموم هو القائل:
أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي/ وأسمعت كلماتي من به صمم.
إنّ جمال شعر المتنبي يجلو نظر الأعمى، فيعود بصيرًا، ويفتح أذني الأصم، فيصبح سامعًا، لكن الشعر الذي أبرأ به المتنبي الأعمى والأصم كان بلا حول ولا قوة أمام الحمى. ومع ذلك، كعادة الشاعر في امتطاء الخيال، أكان من خيل، أو قلق، فلا تمتنع عنه صهوة الحمى، فقد شبّه الحمى بأنثى عاشقة خجولة حتى جعل كل من قرأ القصيدة راغبًا أن تصيبه الحمى:
وَزائِرَتي كَأَنَّ بِها حَياءً/ فَلَيسَ تَزورُ إِلّا في الظَلامِ
بَذَلتُ لَها المَطارِفَ وَالحَشايا/ فَعافَتها وَباتَت في عِظامي
يَضيقُ الجِلدُ عَن نَفسي وَعَنها/ فَتوسِعُهُ بِأَنواعِ السِقامِ
إِذا ما فارَقَتني غَسَّلَتني/ كَأَنّا عاكِفانِ عَلى حَرامِ
كَأَنَّ الصُبحَ يَطرُدُها فَتَجري/ مَدامِعُها بِأَربَعَةٍ سِجامِ
أُراقِبُ وَقتَها مِن غَيرِ شَوقٍ/ مُراقَبَةَ المَشوقِ المُستَهامِ.

(محمد وانلي)


لقد كانت حمى المتنبي ذات حياء وخجل، لا تأتيه إلّا في ظلمة الليل، أمّا حمى الكاتب عماد الدين الأصبهاني فهي من الجرأة والثبات بمكان لكي تأتي نهارًا، لكن للشاعر من التحمّل والصبر ما يجعله يقابلها بعشق يضطرم في داخله، فتفلّ حرارة كبده حرارة الحمى:
وزائرةٍ وليس بها حياءٌ/ وليس تزورُ إلا في النهارِ
أَتتْ والقلبُ في وهجِ اشتياقٍ/ لتظهرَ ما أُواري من أُواري
ولو عرفتْ لظَى سطواتِ عزمي/ لكانتْ من سُطاي على حذارِ
تقيمُ فحينَ تُبصرُ مِن أَناتي/ ثباتَ الْطَودِ تسرعُ في الفرارِ
تُفارقني على غيرِ اغتسال/ فلم أَحلُلْ لزورتها إزاري.



لقد أظلم مرض الجدري عيني بشار بن برد، لكن مع ابن الرومي أصبح الجدري مطلبًا جماليًّا، فلا نستغرب ذلك. بودلير كان مفتونًا بآثار الجدري على وجه حبيبته، كما تذكر غريتِشن أي هنْدِرْسن في كتابها "التاريخ الثقافي للقباحة". يقول ابن الرومي:
عبثت به الحمى فوَرَّد جسمَهُ/ وَعَكُ الحمى وتلهُّب المحـرورِ
وبدا بـه الجـدري فهو كلـؤلـؤٍ/ فـوق  العـقيق  مـنضَّد  مسطور
ونضاه  بَنْثره  فجاء  كعصفرٍ/ قد  رُشَّ  رشًا  في بياض حرير
الآن صرت البدر إذ حاكى لنا/ كلفَ  البدور  مواضعُ  التجديرِ
فكخمرةٍ رُشَّـت  على  تـفـاحة/ أثـرٌ  يلـوح بـخـدك  المـجـدور.
كان للشعراء مواقف يختلط فيها الجدّ والهزل مع الأمراض، فها هو الصاحب بن عباد يمازح صديقه أبا العلاء السعدي بعد أن أصابه الجرب:
أبا العلاء مليك الهزل والجد/ كيف النجوم التي تطلعن في الجلد.
أمّا الفرزدق، كعادته في الهجاء، فقد عدَّ غيره من الشعراء كمرض الجرب الذي كان يعالج بالقطران في ذلك الزمان:
أنا القطران والشعراء جربى/ وفي القطران للجربى شفاء.
ذهب الخوارزمي في شكوى ما آلت إليه أموره كالضرس المنخور، فقال:
وما أصبحت إلا مثل ضرسٍ/ تأكَّل فهو موجودٌ فقيدُ
ففي تركي له داءٌ دويٌّ/ وفي قلعي له ألمٌ شديدُ.
لم يكن مرض النقرس بعيدًا عن تناوله شعريّا، فقد جاء في كتاب "شفاء الغليل في كلام العرب من الدخيل"، لشهاب الدين الخفاجي المصري، مفارقة جميلة، فمن المعروف عن النقرس أنّه داء الملوك، لكن أن يصيب الفقير المحتاج، فتلك هي الفكاهة السوداء. قال المبرد: كان الحرمازي في ناحية عمرو بن مسعدة، وكان يجري عليه، فخرج عمرو بن مسعدة إلى الشام، وتخلف الحرمازي في بغداد، فأصابه النقرس، فقال:
أقام بأرض الشّام فاختل جانبي/ ومطلبه بالشام غير قريب
ولا سيّما من مفلس حلف نقرس/ أمّا نقرس في مفلس بعجيب.
وقال آخر مكنّيًا عن ما آل إليه حاله من الغنى والقلق من الافتقار:
فصرت بعد الفقر والتّهوس/ يخشى عليّ الحيّ داء النقرس.
ولقد أشار إلى ذلك الثعالبي في تحسين القبيح وتقبيح الحسن، بأنّه من محاسن الفقر أن لا يخاف عليه، كما يخشى على الغنى من الزوال. وفي ذات المعنى ذهب الصولي في كتاب العيادة، بأنّ البيت الشعري المذكور آنفًا كناية عن الغنى.
لم يتوقّف الشعراء العرب عند المرض بحدّه المفسِد للصحة، بل ذهبوا فيه مذاهب شتى كعادتهم، حتى أصبح مطلبًا جماليًّا. يذكر السّراج في كتابه "مصارع العشاق" بأنّ أشهر بيت لجرير في العشق كان على الشكل التالي:
إنّ العيون التي في طرفها مرضٌ/ قتلننا ثمُّ لم يُحيين قتلانا.
بالطبع، لم يقصد جرير المرض بالمعنى الطبي، بل إنّ صفة العيون الحوراء الناعسة الفاترة التي تفتك بالعشاق تسمح بتشبيهها بالعين المريضة لضعفها، لكن هي في المقابل كالمرض، وتأثيرها كبير. أمّا أبو نواس كعادته في الخروج عن مذاهب الشعراء، فقد رأى أن الصحة هي ما يدعو للعجب، وليس السقم الذي يصيب العاشق:
تَعجَبينَ مِن سَقَمي/ صِحَّتي هِيَ العَجَبُ.
ونختم هذا المقال مع بيت المتنبي الذي تحدّى فيه صحة ذائقة القرّاء والمفسّرين، فكل مرض مهما جمّله الشعر يُتمنّى الشفاء منه:
أَلَمٌ أَلَمَّ أَلَمْ أُلِمَّ بِدَائِهِ/ إِنْ آنَ آنٌ آنَ آنُ أَوَانِهِ.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.