}

رحمانينوف بعد 150 عامًا على ولادته: موسيقاه إرث عالميّ

سمير رمان سمير رمان 20 أبريل 2023
استعادات رحمانينوف بعد 150 عامًا على ولادته: موسيقاه إرث عالميّ
تكمن عظمة موسيقى رحمانينوف بأسلوبه الرومانسي المميز (Getty)
في أول نيسان/أبريل الحالي، حلّت ذكرى 150 عامًا على ولادة سيرغي فاسيليفيتش رحمانينوف (1873 ـ 1943)، الموسيقار الروسي، وعازف البيانو الأعظم في تاريخ موسيقى القرن العشرين، وقائد الأوركسترا الشهير.
تخليدًا لذكراه، ستصدح موسيقاه الجميلة في كلّ مدينة، وفي كلّ صالةٍ من صالات الحفلات على كامل البلاد الروسية. غير أنّ إبداع رحمانينوف ليس حكرًا على الساحة الثقافية الروسية، لأنه جزء من الثقافة العالمية، فموسيقاه موجودة في أوروبا وأميركا، في الصين وأميركا الجنوبية، ويعرفها كلّ محبّ للموسيقى.
في تسعينيات القرن التاسع عشر، بدأ رحمانينوف بالعمل كقائد أوركسترا، ومن ثمّ عمل لموسمين فقط في مسرح البولشوي، حيث قام هناك بثورة حقيقية. خلال مشواره الإبداعي، ألّف رحمانينوف أكثر من خمسين مقطوعة موسيقية، كان أغلبها قبل عام 1917. في ذلك الوقت، ظهرت إبداعات موسيقيين كبار، أمثال سترافينسكي، سيرغي بروكوفييف، وعلى خلفية سكريابين، ظهر رحمانينوف قديم الطراز. ولكن أحدًا لم يشكك في جودة موسيقاه، جلّ ما في الأمر أنّها لم تتوافق مع أفكار التقدّم.
تكمن عظمة موسيقى رحمانينوف في تكتيكاته الأسطورية، وأسلوبه الرومانسي المميز. تأثر بشوبان، ليست، وتشايكوفسكي، وتتلمذ على يد ريمسكي كورساكوف، أحد عمالقة الموسيقى الكلاسيكية في روسيا والعالم. كان الكونشرتو رقم 2 الأكثر شهرةً من بين مؤلفات رحمانينوف. وعزف موسيقاه أشهر الموسيقيين العالميين. تميز رحمانينوف بطول القامة، وضخامة اليدين، ما أتاح له السيطرة على أصابع البيانو بسهولة ويسرٍ شديدين، ليصبح أحد أعظم عازفي البيانو في القرن العشرين.
منذ نعومة أظفاره، ترافقت مؤلفاته التي كتبها في القرن التاسع عشر، مع أنغامٍ رثائية تكاد تكون قادمةً من فضاء الرومانسية، والتي تطورت لاحقًا إلى نغمةٍ روسيةٍ طويلة، مترافقة مع رنين أجراس أصبح جزءًا لا يتجزأ من أسلوب الموسيقار. يلاحظ علماء الموسيقى في نغمات رحمانينوف ميزة أُخرى تتمثل في تمسكه بأسلوب الغناء الروسي القديم، حيث تلتفّ خطوط اللحن حول صوتٍ واحد، بعيدًا عن القفزات الواسعة. كتبت معظم موسيقى رحمانينوف بنغماتٍ يشوبها حزنٌ عميق متأصلٌ في روحه: كان يبدو منذ صغره حزينًا على شيءٍ ما، أو كأنّه يقول وداعًا لشيءٍ ما يحبّه. ربما كان يودّع موطنه روسيا والتي سترفضه لاحقًا، أو ربما كان يودّع أسلوبه الموسيقي نفسه، الأسلوب الذي ينتمي إليه ويؤديه بشكلٍ رائع. كان العزاء يأتي أحيانًا في مؤلفاتٍ رئيسية لكونشرتو البيانو، التي تمحو الكآبة والحزن من الروح، تمامًا كما يغسلها مطر الربيع الدافئ.
بعد هجرته من روسيا، توقف رحمانينوف عن التأليف، إذ لم يعد وطنه الذي اضطر إلى مغادرته يشكّل مصدر إلهامٍ. اكتسب رحمانينوف شهرة هائلة في أوروبا، وفي الولايات المتحدة الأميركية، بصفته عازف بيانو أولًا، وقائد أوركسترا ثانيًا، فأصبح هدفًا يطارده وكلاء منظمي الحفلات، ويلاحقه المصورون والمعجبون.




ربما كان رحمانينوف في عشرينيات وثلاثينيات القرن العشرين أغنى فنانٍ روسيٍّ في العالم، فقد كانت برامجه واسعة جدًا، بحيث شملت الموسيقى الكلاسيكية، وكذلك مقطوعاتٍ من تأليفه، برز من بينها بشكلٍ خاصّ مقدمة "دو ـ مينور". كان العمل الثاني، بعد الموسيقى، في حياة رحمانينوف تقديم المساعدة للناس، والقيام بأعمالٍ خيرية. وصلت تبرعات الموسيقار إلى الفقراء لمبالغ ضخمة، وكان من الممكن أن تزيد ملايين أُخرى لولا إهماله تسجيل حقوق الملكية الفكرية لأعماله، الأمر الذي ألحق ضررًا بالغًا بعمله ومكاسبه المادية التي كان سيوجهها بلا شكّ لمزيدٍ من الأعمال الخيرية. في عشرينيات القرن الماضي، أرسل رحمانينوف أطنانًا من المساعدات الغذائية إلى موسكو، وبفضل هذه المساعدات، بقي مسرح موسكو للفنون، وكذلك المعهد الموسيقي، صامدين في مواجهة الجوع، حتى أنّه تمّ الاحتفاظ بإيصالات الحصص الغذائية التي حصل عليها قسطنطين ستانيسلافسكي، المخرج الشهير، وأحد مؤسسي المسرح الحديث. بالإضافة إلى ذلك، كان رحمانينوف يدعم الفقراء، ليس فقط في بلده الأصلي الاتحاد السوفياتي، الذي غدا غريبًا عنه، بل كان يدعم أيضًا الفقراء في أوروبا، والولايات المتحدة الأميركية. كان كرمه وسخاؤه بلا حدود، ولم يكن ينافسهما سوى تواضعه المذهل. كان من الممكن أن تغدو موسيقى رحمانينوف الهادئة والبعيدة عن العدوانية جزءًا من الجماليات السوفياتية، كما كان الأمر مع موسيقى تشايكوفسكي، بيد أنّ الثقافة البروليتارية لم تطق وجود موسيقى المهاجر المنشق على قائمة البرامج الفنية. ففي ثلاثينيات القرن الماضي، أصبح رحمانينوف غريبًا في الوطن، أكثر مما كان من قبل، وخاصّةً بعد أن وقع على رسالةٍ معادية لستالين نشرت في صحيفة "نيويورك تايمز"، ليمنع في تلك الفترة عزف موسيقاه في الاتحاد السوفياتي بشكلٍ كاملٍ تقريبًا.
عند هذه اللحظة بالتحديد، عاد رحمانينوف إلى التأليف من جديد. ففي سنواته الأخيرة، ألّف ست مقطوعاتٍ، من بينها مقطوعاتٍ قائمة على الفولكلور الشعبي.
مع اندلاع الحرب، بدأ رحمانينوف، متناسيًا الخلافات الأيديولوجية، بإرسال الأموال إلى روسيا. ويقال إنّه خصصها للأدوية والاحتياجات المنزلية التي يحتاجها الناس البسطاء. ومع ذلك، فإنّ قسمًا من هذه الأموال ذهب لشراء طائرتين حربيتين، بطريقة أو أُخرى. عندما صدر العفو عن رحمانينوف، بدأ على الفور بحزم أشيائه استعدادًا للعودة إلى الوطن (كما فعل جاره في هوليوود سترافينسكي لاحقًا)، لكنّ المرض، ومن ثمّ الموت، حالا دون ذلك.
مع نهاية الحرب، دخلت الساحة الطليعة الموسيقية، حتى أنّ أساليب أرنولد شوينبيرغ اعتمدت حتى في الجامعات الأميركية، ناهيك عن أوروبا، فرُكِنَ رحمانينوف في المتحف. ولكنّ الطليعة لم تغزُ العالم كلّه، فجاءت التعددية لتحل مكانها، وتكتشف في رحمانينوف ما يفتقر إليه الفنّ الحديث، من الانسجام والجمال العضوي، والإنسانية العميقة. ولم يكن من قبيل المصادفة أن تلاحظ في موسيقاه المتأخرة تلوينات مختلفة من موسيقى الجاز، التي كان الموسيقار يعشقها وتربطه علاقة قوية بمشاهير عازفي الجاز. اتهم النقاد رحمانينوف بالسطحية، وعدم الجدية، ولكنّ هذا لم يقف عائقًا أمام اكتساب موسيقاه شهرة هائلة لدى الجمهور، كما لم تستطع منع استمرار حضورها على يد كبار نجوم موسيقى البوب، بدءًا من سيناترا، وانتهاءً بموسيقيي البوب المعاصرين.
اليوم، لا ينتمي رحمانينوف إلى روسيا فقط، بل أصبح إرثًا عالميًا، ترسّخ في الحاضر، وسيبقى راسخًا في المستقبل أيضًا.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.