}

مروحة اليد: سيرة من الريش والسعف

وارد بدر السالم وارد بدر السالم 18 مايو 2023
استعادات مروحة اليد: سيرة من الريش والسعف
"غفوة القيلولة" للرسام الإنكليزي جون فردريك لويس

تنتمي مروحة اليد إلى عالم الطبيعة في نشأتها وبداياتها قبل أن تحوّلها الصناعة إلى سلعة شعبية متداولة بين الشعوب. والطبيعة المروحية عادةً هي البردي، والقصب، والسعف، وأوراق النبات المجففة وريش بعض الطيور كالطاووس والنعامة. وهذا هو الدارج في المشغولات اليدوية قديمًا وحتى دخول الحياة في عصر الآلة والصناعة والتطوير. وما تزال المروحة الابتدائية القديمة تشكل تراثًا محليًا للكثير من البلاد العربية لا سيما الخليجية منها. فهي أيقونة وإشارة إلى سرديات الماضي المبسّط إلى حد كبير.

في كل معالجاتنا المعاصرة للهوامش والصنائع المنزلية وسواها من أفكار يومية ملتصقة في الذاكرة الاجتماعية وبعيدة عن سرود الكتابةً، لا بد وأن تكون لها حضارة قديمة وثقافة شعبية تعد الأصل لها، كحاجة تسد فراغًا موضعيًا في المكان بشكل عام. فالمكان جالبٌ للهوامش في كثير من الأحيان، بل ويتكامل بها. يكتظ بها من دون أن ندرك أسراره أو أهميته في أن يكون محتوىً متكاملًا بوجوده الفعلي، وبالتالي فإنّ الصناعات الصغيرة التي تتوفر في البيوت قد لا تكون سبقًا صناعيًا معاصرًا، بل هي خارجة من تاريخ طويل في الحقب الزمنية المتعاقبة.

مروحة اليد؛ على سبيل المثال؛ ليست اختراعًا استثنائيًا بين الصناعات إنما تاريخها يعود إلى ما قبل الميلاد، قبل أن يطوّرها العصر الصناعي الغربي إلى ما هي عليه الآن من ديكورات وأصباغ وأشكال وتشكيلات فنية، لذلك فشعبيتها قديمة جدًا. لها جذر حضاري في بلاد الرافدين ومصر القديمة والإغريق والهند والصين واليابان والرومان، وعادةً ما تُنتج الفصول الساخنة مثل هذه الأدوات والعناصر التي تشكّل جزءًا بارزًا في المكان، لها وظيفتها التكميلية بأن تكون ساندة لديمومته وبقائه. لهذا فإن ثقافة المراوح، التي تتعلق بإمكانية الشعوب القديمة أن تحدّث حياتها بطريقتها، ليست جديدة في الحياة البشرية.

بدأ الإنسان القديم بالتهوية (في يده) درءًا لحرارة الجو، وما يتيحه كفه من تحريك للهواء أمام وجهه، قبل أن يبتكر من الريش والنبات والبردي والقصب مراوح يدوية صغيرة، تحرّك الهواء أمامه وتجفف العرق من على جسده. وهكذا نقرأ ونجد أن تكييفات كثيرة قد حدثت منذ التهوية اليدوية حتى التهوية الكهربائية، وفي الحالتين تحريك الهواء الساكن في المكان، وإضفاء قدر من البرودة اللازمة لتخفيف وطأة الحرارة.

ويوم كان الفقر بلا مراوح كهربائية، كان أكثر من جيل عربي قد التحق بالمروحة اليدوية وعاصرها. وربما ما يزال هذا النمط البدائي مستعملًا في كثير من البلدان العربية التي نالت حصتها من الحروب والخراب وتدمير بناها التحتية، في العراق وسورية ولبنان وفلسطين واليمن وليبيا. حتى لو لم تكن تلك الأنماط البسيطة فاعلة في عصر الكهرباء والمصابيح، فإنها تُعد تراثًا شعبيًا لصيق الحياة اليومية منذ قديم الزمان. وأقرب الأمثلة الشعبية هي البراجيل التي استخدمت منذ عهد الفراعنة والعصر العباسي في بلاد الشام وإيران، والتي ما تزال شواخصها في دولة الإمارات العربية باقية إلى اليوم كجزء من التراث المعماري الشعبي، كوسيلة شعبية لتكييف الهواء أيام الصيف الساخن.

المهَفّة... عراقيًا وخليجيًا

مروحة اليد تسمى في العراق بشكل عام وبعض دول الخليج العربي بـ (المَهفّة) على أن البغداديين يسمونها " الهفاهيف"، وفي الكويت تسمى "رهطة" المصنوعة من ريش النعام. وفي سورية والأردن "هوّاية"، وفي تونس "مرْوَحَة"، وفي الصعيد المصري (الهفافة) المصنوعة من سعف النخيل. ومهما تعددت الأسماء فإنها شغلت الجزء الأعظم من سنواتنا في الريف والمدينة. هذه الآلة البسيطة صناعتها بسيطة في القرى والأرياف كمروحة صيفية بالرغم من وجود المراوح السقفية وأدوات التبريد المتقدمة، إلا أنها في بقائها التراثي تعني حياة ما قبل الصناعة. وبما أن السقف العربي كان، وما يزال، يعزل المرأة عن الرجل اجتماعيًا، فإن مراوح اليد اختلفت وتباينت بين الرجل والمرأة في مثل هذه المجتمعات، وأخذت لها شكلها الخاص مع الاثنين. ولو تطلعنا إلى الكتابات المعاصرة، وحتى القديمة منها - عدا الشعر الوصفي- لشعرنا بغيابها الكلي عن أدبيات الكتابة بشكل عام. فهذه الصناعة الأولى لم تدخل السرديات العربية فاعلة في وجودها الكمالي، بل هامشيتها المكانية جعلت منها حاجة لا نقول بأنها فائضة، بل كأنها غير مرئية، شأنها شأن الموجودات الصغيرة في المنزل. وبالتالي فإن السرديات الروائية والقصصية لم تجعل منها ثيمة كبيرة، مع أنها عبرت القرون والحضارات كأداة فاعلة في الحياة اليومية، وشكّل وجودها المتفرق بين الشعوب القديمة ما يمكن أن يكون الآن ملمحًا تراثيًا ننظر إليه بإعجاب كبير.

من مراوح الحضارات البشرية


مراوح الحضارات البشرية

سياحة ما قبل الميلاد تشير إلى أن المصريين القدامى كانوا يصنعون المروحة اليدوية من أوراق النيلوفر المجففة، أو من ورق البردي أو أوراق اللوتس الضخمة أو الأبنوس (عُثر على مروحتي أبنوس في قبر توت عنخ آمون، إحداهما من الذهب ويعود تاريخها إلى 4000 سنة) ووُجدت في الآثار الآشورية في نينوى نقوش تؤيد فكرة استعمال المروحة المتأرجحة التي تعمل بسحب الحبل (بين القرنين السابع والعاشر قبل الميلاد).

تعطينا تلك المراوح منذ ظهورها وعبر مراحل تطورها، فكرة علاقتها مع الألوان المتنوعة، كفن له علاقة واضحة بالحضارات المتعاقبة، كالفراعنة والصينيين والهنود، بما يعكس التراث الفني لتلك الحضارات وشعوبها. مثلما هو واضح بامتلاك الصين (أقدم تصميم يعود إلى القرن السادس قبل الميلادي عُمل من الريش) ومن ثم دخل في عهد الاغريق كإكسسوار أنثوي في طقوس الكنيسة البيزنطية الشرقية، حتى صنع اليابانيون (في القرن الثامن الميلادي) المروحة التي تطوى ويمكن وضعها في الجيب (كطائر الخفاش يطوي جناحيه) بينما ارتبطت صناعتها في الصين بطقوس دينية وعلمية، وقد كان سائدًا في الفكر العلمي الصيني أن المروحة تبدّد الحرارة (لأن الأشياء تستدعي بعضها بعضًا حقًّا ومثيلًا لمثيل، فالتنين يجلب المطر، والمروحة تبدّد الحرارة) وفي مجمل تلك الحضارات المتناوبة كانت المروحة آلة يدوية دخلت القصور وبيوت العامة، مع فارق الصنعة هنا وهناك، حيث ريش الطواويس أو النعامات المغموسة بالعطور تُزيّن أمكنة الملوك، وصنعت مقابضها من العاج والعظم وخشب الصندل، بينما اكتفت العامّة بصناعتها من البردي أو اوراق الأشجار الطويلة، وبقيت مقابضها من جريد النخل أو أغصان الأشجار.

مع تطور شكل المروحة اليدوية لم يكن للعرب أي إسهام في صناعتها وتطويرها بالرغم من الموروث الشعبي لها أو عبر الشعوب الأخرى التي تم الاحتكاك بها منذ القرن السادس الميلادي، وبالرغم من الشعر الوصفي لها في الفترتين الأموية والعباسية

المروحة المعاصرة

في عام 1540 أدخل البحارة البرتغاليون المروحة اليدوية إلى البلاط الأوروبي بعد قناعاتهم بجدواها، لكن تلك الصنعة البدائية لم ترتقِ كثيرًا إلى ما كانت عليه قبل ذلك القرن، حتى بدايات القرن الثامن عشر الذي يُعد القرن الصناعي (قبل منتصف القرن السابع عشر اخترع الفرنسي جون ثيوفيلوس ديساجولييه مروحة مجداف لتهوية المناجم). ويعد القرن الثامن عشر هو الظهور الواضح والحقيقي للمراوح عندما أصبحت جزءًا اكسسواريًا في ملابس النساء، لتشي بالفوارق الطبقية الاجتماعية. وأسهم الفنانون الأوروبيون بتزيين المراوح بتشكيلات فنية كما أنها (استخدمت للدعاية التجارية وتدوين النوتات الموسيقية والأغاني في إنكلترا وفرنسا) مثلما كانت عاملًا فاعلًا في أثناء الثورة الفرنسية كأداة (لنشر الأفكار السياسية) ولم يأت القرن التاسع عشر، حتى كانت المراوح غالية الثمن، إذ تصنّع من جلود (الحمير الوحشية الصغيرة... ودخلت ضمن لوازم أثاث القصور... وانتشرت المراوح في إسبانيا وإيطاليا وأولعت بها ملكة فرنسا كاترين دو ميديسيس)، وفي هذا الغرب الصناعي حوّل مروحة التهوية اليدوية إلى نشرات تزيينية فنية.

ومع هذا التطور لشكل المروحة اليدوية لم يكن للعرب أي إسهام في صناعتها وتطويرها، بالرغم من الموروث الشعبي لها أو عبر الشعوب الأخرى التي تم الاحتكاك بها منذ القرن السادس الميلادي، وبالرغم من الشعر الوصفي لها في الفترتين الأموية والعباسية. لكنهم عرفوا ثلاثة أشكال للمراوح: المطوية والثابتة (عرب الأندلس) والمروحة نصف الدائرية ومن ثم الدائرية التي تصنع من الجلود. والمروحة المستطيلة التي تصنع من الجلد الرقيق. وفي الأشكال كلها كانت صناعة المراوح تُصنع من سعف النخيل أو جلود الحيوانات أو الريش الطويل للطواويس والنعام. وما يعرف باسم المروحة الهندية المستديرة. وما يوصف بأنه مصنّع من الخوص والأديم والخيش. وهذا الأخير نسيج قماشي من ألياف نبات الجوت. وهي تُعلق في السقف بدلًا من تحريكها باليد، كطريقة شائعة في بغداد في أوقات الخلافة العباسية.

هوامش وإشارات:

  • التبريد في التراث العلمي العربي - سائر بصمه جي - الناشر: مؤسسة هنداوي 2022- المملكة المتحدة.
  • جريدة الخليج - الشارقة - 19 أيار/ مايو 2020
  • ما تركه لنا منتصف القرن التاسع عشر من لوحات زيتية يتوقف عند لوحة "غفوة القيلولة في ظل المشربية" للرسام جون فريدريك لويس.
  • المروحة التي أُهديت لصلاح الدين الأيوبي كانت مصنوعة من الخوص؛ ولما قرأ الأيوبي بيتَي الشعر المكتوبين عليها تعرف على خوص النخل الذي في مسجد الرسول، فقبَّلها ووضعها على رأسه.
  • في عام 1882 كشف المهندس الأميركي سكايلر سكاتس ويلر عن اختراع مروحة كهربائية تعمل بشفرتين. وفي العام ذاته ابتكر المهندس فيليب ديهيل أول مروحة كهربائية معلقة في السقف.
  • في عام 1902 قام ويليس كاريير باختراع جهاز تكييف الهواء.

مقالات اخرى للكاتب

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.