}

كيمياء الشم في الخيال الاجتماعي الفرنسي

وارد بدر السالم وارد بدر السالم 22 يونيو 2023
استعادات كيمياء الشم في الخيال الاجتماعي الفرنسي
ألان كوربان

باريس قذرة وعفنة ونتنة. شوارعها وأرصفتها مكتظة بالقاذورات من النفايات والأزبال. هواؤها وماؤها ملوثان. وإنسانها له رائحة لا تُطاق. حتى باتت الرائحة الكريهة في المجتمع الفرنسي هي الأبرز في يوميات الباريسيين، فتسببت بضيق الأنفاس والأمراض الرئوية والجلدية والنفسية والموت المجاني، نتيجة لهذا التفسخ العام الذي يصوّر الحياة الاجتماعية، كمسلخ بشري، تكون الحياة فيه مصادفة مستحيلة.

في الأقل هذا ما يخبرنا به الباحث الفرنسي ألان كوربان عن فرنسا في القرنين الثامن والتاسع عشر في سرديات مصدرية علمية موثوقة كُتبت في زمنها، ليبدو هذا الكتاب في ظاهره من علوم الكيمياء التي تهتم بمعالجة المادة وتغيراتها ودراسة خواصها وبنيتها وتركيبها وتفاعلاتها والذرات والروابط وجزيئاتها في ظواهر التبخير والتذويب ومعالجة الروائح والانصهارات؛ لكنه ليس كذلك أبدًا، بالرغم من احتشاده بمعلومات غزيرة، وأمثلة وفيرة عن التحولات الكيمياوية للمادة التي قام بها علماء وأطباء القرنين الثامن والتاسع عشر في فرنسا على وجه الخصوص، وبالرغم من أنه كتاب تنظيري في  نظرية الشم كحاسة مهمة من حواس الإنسان، إلا أنه غير ذلك أيضًا، فهو كتاب يمتلك الروح الميدانية الوصفية الدقيقة التي تعالج مشكلة وقضية الشم للروائح الفرنسية في القرنين الفرنسيين الثامن والتاسع عشر، بمختلف توصيفاتها العلمية والشعبية، وما تركته من أثر سلبي في الحياة العامة.

الخم والنرجس ومشاكل البيئة

كتاب (الخمُّ والنرجس- حاسة الشم والخيال الاجتماعي في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر) لمؤلفه الباحث الفرنسي ألان كوربان - بترجمة وافية جدًا من منار رشدي أنور- إصدار المركز القومي للترجمة في مصر 2006 أحد الكتب ذات الفوائد الكثيرة المتوجهة للخاص والعام من القرّاء، لذلك فإن سردياته العلمية تتلاقح مع سردياته المعرفية العامة التي قد تكون غير معروفة لدى العامّة، بل غير مفهومة، أو هي إنتاج عصور قديمة تجاوزتها المعرفة العلمية والطبية، لكن الباحث أخذ على عاتقه تبسيط الموضوع ، معالجًا حاسة الشم وتوابعها الصحية والنفسية في المجتمع الفرنسي؛ فالمفهوم الطبي- الشعبي لها هو من مشتركات الشعوب في كثير من الأحيان، لهذا فاستيعاب هذا الأثر الاستثنائي بمعالجة حاسة بشرية، يُعد مادة علمية واجتماعية مهمة جدًا في تتبع تجلياتها العلمية والصحية- النفسية وما تتركه من "فضلات" تلقائية تسبب كوارث اجتماعية لا حصر لها.

الكيميائي شوفرول يقول (صحة المدن ترتبط بتشعبات الماضي) والصحة بالمفهوم العام، ما سلمت من الأمراض ومسبباتها من التلوث البيئي. وتشعبات الماضي هو ما تركه الماضي من عوامل سالبة في البنية التحتية للمدينة، حتى أضحت عوامل معرقلة في البناء الصحي ودوره المؤثر في المجتمع. وبين الرائحة والحس الشمّي معادلة متصارعة طيلة قرنين من الزمان في كيمياء الأمراض والروائح النفاذة التي كشفت عن التخلف الصحي للمجتمع الفرنسي قبل حوالي 400 سنة، لذلك كانت تلك الفترة خصبة للسرديات الأدبية، وأبرز ما يتوجب تذكيره هو رواية (العطر) للألماني باتريك زوسكيند الذي استقدم فيها الشخصية الغرائبية غرينوي، المنقذف من عصر القرن الثامن عشر النتن، لكنه تحول إلى (أنف) شمام بطريقة استثنائية ليستخلص روائح المدينة في ذاكرته ويتحول بموجب هذه الذاكرة إلى قاتل. وليس بعيدًا عنا شخصية كازانوفا الذي افتتنت النساء بسبب عطريته الذكورية، لكن دون جوان ضللته الرائحة الأنثوية لالفير. ويقع الفيلم الأميركي "شذى امرأة" في هذه الدائرة العطرية، عندما يفتقد رجلٌ امرأته فيستدل عليها من عطر خاص كانت تستعمله... لذلك فالرائحة العطرية أخذت مداها في السينما والسرديات الروائية قبل أن تكون سرديات العلم قد أفصحت عن ماهيتها الكثيرة وتفاعلاتها الكيمياوية المتعددة.


عشوائيات بلا شروط صحية

كانت تنتشر في فرنسا (القرنان الثامن والتاسع عشر) الكثير من العشوائيات الكيفية، وهي أبنية متراكبة في أقل الشروط الصحية، أو حتى بلا شروط صحية يمكن أن تدرأ الكثير من الأمراض الانتقالية، لا سيما في العاصمة باريس؛ حيث تزداد نسبة السكان تلقائيًا، ولم يكن العيش قرب المياه الآسنة غريبًا في مرحلة من مراحل الحياة الفرنسية، ولا العيش في المقابر أمرًا غير طبيعي، ولا قرب المياه الآسنة ذات الرائحة الكريهة حتى أن ( بخار الماء يصبح محملا بكل أنواع الفضلات التي تتساقط مع الضباب) لذلك كان المواطنون يشكون من انتشار الروائح الفاسدة (تطاردنا الروائح الكريهة) بسبب التخمر والتعفن الأرضي، بما ينعكس على التعفن الذاتي، بينما كان الفلاحون يواجهون الرائحة (المميتة) في أثناء حرث الأرض، لذا كانت التوصيات لهم "ألّا يناموا وأنوفهم ملتصقة بالأرض... الأنف أكثر قربًا من المخ" بما يعني بالشكل العام أن (الجماهير العفنة والحمى العفنة) هي التي تكابد من هذا الوضع الصحي المنهار؛ فالتاريخ الغائطي، كما يرد في الكتاب، هو تاريخ من الفساد والنتانة؛ فالحوائط (تحتفظ بالروائح) و(أصاب العطب جدران منازل باريس بفعل البول) و(السجناء يعرفون روائح سجنهم القديم) بل يعرفون روائح بعضهم. وهواء السجن الفاسد يتيح للذاكرة أن تستعيده حتى بعد مضي عديد من السنوات باعتبار أن حاسة الشم هي (حاسة التذكير) لذا فزائرو السجون من الأهالي (تصاب ملابسهم بالعفونة لذا يقول رائحة) وعفونة السجون (هي أخطر اشكال العفونة من بعد الطاعون) وربما يكون لعرق الزنوج في المناطق شديدة الحرارة "رائحة عفنة... وفي حالة الغضب تفوح منهم رائحة الكراث" لذلك كان الهواء الباريسي الفاسد يمثّل أشد (أنواع التعذيب) وهذا طبيعي في قانون الكيمياء، فالهواء المشترك واللهاث المشترك والأنفاس المشتركة التي تستنشق الروائح والعفونات والأخلاط حالة مشتركة بين الجميع من روائح المراحيض والغائط والمباول فـ (الجسم يمتص الرائحة والجزيئات العطرية) وبالتالي يمكن استشفاف روائح الأمراض وأنواعها التي كانت تسود في ذينك القرنين العفنين من تاريخ  فرنسا الصحي الذي لم يكن جاهزًا للحل والعلاجات.

حلول صحية وعلمية

صحيًا فإن التطبيب الفرنسي في القرنين السابع عشر والثامن عشر، كان من الطب القديم الذي لم يكن متطورًا، لذلك فإن انتشار الأمراض والأوبئة الفتاكة كان شيئًا مألوفًا في المجتمع غير النظيف. وهذه معاناة طويلة عاشها الفرنسيون في تلك الحقب الضعيفة طبيًا وصحيًا والتي أدت إلى وفيات وتشوهات غير قليلة في المجتمع. على أن ذلك لم يدُمْ بتطور الصناعة في نهايات القرن الثامن عشر وبدايات القرن التاسع عشر، وتطور الآلة الطبية، وشيوع الوعي الصحي المتأخر نسبيًا، فتطهير المدينة من الروائح ومنابعها وتجفيفها من العفونة والنتانة، وعزل الفضاء الجوي عن الانبعاثات الأرضية المتراكبة، والانتباه إلى الطبيعة ومعطياتها الفذة من تشييد الحدائق والزهور كان من الأولويات التي واجهت الصحة الفرنسية، وكما وصف روبرت موزي ذلك: إن الوئام بين الطبيعة والإنسان يوحي بوجود وئام داخلي في الإنسان. هذا الوئام المفترض والذي قرئ بعيدًا عن الفلسفة السائدة آنذاك (الفلاسفة لا يهتمون بحاسة الشم) أدى إلى شيوع الاهتمام بالطبيعة، كونها مصدرًا من مصادر اللذة والارتباطات الحسية الذكية بين الإنسان ومحيطه العادي. والرائحة الطيبة للورود (كأنها صنعت من أجل الإنسان من دون سواه) ويقال إنّ هيبوقراط بمثل هذا التقليد القديم والناجع دفعه إلى (تعطيل الطاعون عن طريق الروائح).

التحول العطري في السلوك اليومي الاجتماعي حفّز الأطباء والعلماء على توفير كميات أوكسجين نقية عبر الطبيعة والأزهار والأشجار وتوفير المياه النقية، كحلول طاردة للعفونة الفرنسية التي سادت سنوات طويلة

شهدت البيوت الفرنسية فيما بعد إلى حرق أقراص البخور، تعطيلًا للرائحة الكريهة التي سادت البلاد والعباد، فإن كان الإنسان القديم يتمتع بحدّة حاسة الشم لديه، تفوق المتمدّن، فإن الأخير تدرّج تلقائيًا لكسب الحاسة وتعطيل الشاذ منها في مراحل صحية، من أجل إضفاء انبعاثات اجتماعية وعاطفية، حتى أن صانع العطور الفرنسي ديجا قال: يستلزم علينا القيام بشيء لإثارة إعجابنا بأنفسنا وهذا ما يجعلنا مبتهجين في المجتمعات... وإن لم نحظ بإعجابنا فبمن سنعجب.

هذا التحول العطري في السلوك اليومي الاجتماعي حفّز الأطباء والعلماء على توفير كميات أوكسجين نقية عبر الطبيعة والأزهار والأشجار وتوفير المياه النقية، كحلول طاردة للعفونة الفرنسية التي سادت سنوات طويلة، وهي محاولات جدية في إبعاد الأثر المَرَضي وتطويق آثاره المخيفة التي فتكت بالمجتمع عقودًا متتالية. حتى بات التحول العطري النقي في الأرض علامة من علامات الصحوة الطبية والعلمية، التي أدت إلى معالجات حثيثة للإنسان الفرنسي في استنشاق النقاء الطبيعي في الجو، بما يشبه تجميع أو تركيب عمليات التنفس من جديد، بحسب تعبير كوندياك. بل تعدى الأمر إلى دراسة السلوك الإنساني ورائحته الشخصية ضمن تدوير وفهم الانبعاثات البيولوجية بين الرجل والمرأة، ومدى علاقتها بتثوير الجانب الحسي والعاطفي والغريزي بين الاثنين وعلاقتهما بالطبيعة المحيطة لهما. فإذا كان جنس الحيوانات له معطيات شمّية لأغراض البقاء والتكاثر وحفظ النوع، فإن للإنسان معطياته أيضًا، فرائحة المني (مؤشر لحيوانية الفرد) والعالم بارويل تمكن بمجرد الرائحة أن يميز بين دم المرأة ودم الرجل. وتمثل قول سقراط (لا حاجة لاستخدام العطور لأن أجساد المتزوجين تنبعث منها أطيب الروائح) هو إلهام علمي لتتبع المادة الإنجذابية المؤلفة من جزئيات صغيرة تنتشر حول الرجال والنساء وتحدث الانجذاب بين الجنسين وتوقظ مشاعر الحب، وأن (كمية هائلة من الانبعاثات غير المرئية في الإفرازات الشهرية للمرأة) و(رائحة الحيض لها ضلع كبير في الإغراء) هو تقدم علمي بيّن دور الروائح الطبيعية في الإنسان للإنجذاب الفطري الطبيعي... ومع هذا الفرز الواضح والتقدم الطبي في القرن التاسع عشر، تغيرت باريس من النتانة والعفونة والروائح الكريهة التي كانت تطوق الناس، إلى مساحة خضراء من الطبيعة التي قضت مع الوقت على تلك المشكلة الصحية التي عانت منها لأكثر من قرنين من الزمان.

هوامش:

  • ألان كوربان: أستاذ كرسي في جامعة باريس1 ومن مؤلفاته: "بنات الزواج" و"بؤس جنسي" و"دعارة في القرن التاسع عشر" و"الغرب ورغبة الشاطئ" و"قرية آكلي لحوم البشر".
  • الكيميائي شوفرول (1786–1889): صمم أول أنواع الصابون المستخرج من دهون وأملاح الحيوانات، عاش لمدة 102 سنة ليتخصص أيضًا في علم الشيخوخة. هو أيضًا واحد من 72 شخصًا نقشت أسماؤهم على برج إيفل (الموسوعة الحرة).
  • باتريك زوسكيند: كاتب وروائي ألماني عُرف بروايته الشهيرة "العطر... قصة قاتل"، التي حُولَتْ إلى فيلم. وقد ترجمت إلى حوالي 46 لغة من ضمنها العربية.

مقالات اخرى للكاتب

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.