}

عمان والسينما: وقائع قصة حب قديمة

أحمد طمليه 14 يوليه 2023
استعادات عمان والسينما: وقائع قصة حب قديمة
بدأ انهيار دور السينما في عمان بدءًا من الثمانينيات(Getty)
عمان عام 2023، لا دور سينما في العاصمة الأردنية، اللهم سوى صالتين، أو ثلاث صالات موجودة على أطراف عمان الغربية. وهي موجودة منظرًا لا روحًا في فنادق كبرى. موجودة كنوع من الكماليات، صالات معتمة لا تطأها أقدام الرواد. موجودة كشاخصة تقول: كان ثمة صالات سينما هنا وكان ثمة رواد، وكان ثمة حب كثير بين أهالي عمان ودور السينما.
كيف بدأت قصة دور السينما في عمان، وكيف انتهت؟
يستوقفني التصنيف الذي بدأت به تلك الصالات. والمقصود بالتصنيف هو درجة السينما، أو مستواها، فحسب القانون الصادر عام 1952، نلاحظ أنه كانت هنالك أربعة تصنيفات، أو بالأحرى أربع درجات. تشمل الدرجة الأولى دور السينما: "زهران"، "بسمان"، "فيومي"، وجميعها في عمان. أما الدرجة الثانية فتشمل: "الأردن"، "ستوديو الأردن". وهي في عمان أيضًا. وفي الدرجة الثالثة، ثمة "الزهراء" في إربد، و"ركس"، و"الحمراء"، و"النصر"، في الزرقاء. وفي الدرجة الرابعة، هنالك "الفردوس" في عمان، و"سمير" في إربد، و"نبيل" في السلط، و"البتراء" في عمان، و"رغدان" في مأدبا، و"الشرق" في المفرق، و"سينما العقبة" في العقبة، و"الأهلي" في المحطة، و"الشرق" في الزرقاء.
نذكر دور السينما في المحافظات من دون أن نقف عندها، إذ سرعان ما حيدت وهمشت هذه الدور، ونشطت وزادت دور السينما في عمان.
البداية التي تعود إلى خمسينيات وستينيات القرن الماضي بدت مبشرة، فخلال سنوات معدودة ظهرت دور سينما أخرى في عمان تنافس على اجتذاب الجماهير. أذكر منها: "الحسين"، "فلسطين"، "الخيام"، "عمان"، "الكواكب".
بداية بدت مرتبكة من قبل أصحاب دور السينما. تجلى الارتباك في ظهور اختلافات لدى أصحاب تلك الدور من حيث وضع الخطط الأنسب من وجهة نظرهم لاستقطاب الجمهور.
يلاحظ أن بعض دور السينما خصصت مواقع خاصة للعائلات. ويتضمن برنامجها عرض فيلم واحد حديث. فيما راحت دور أخرى تعرض أكثر من فيلم، أغلبها قديمة، بتذكرة واحدة، ولا مكان فيها للعائلات.
يلاحظ أيضًا أن دور العرض الكبرى مثل: "الخيام"، "رغدان"، "بسمان"، "الحسين"، كانت تتبارى في استقطاب الأفلام الجديدة، ولا تعرض إلا فيلمًا واحدًا بالتذكرة، وكانت الناس تتدافع على شباك التذاكر، وبالكاد تنجح في شراء التذكرة. وكيف كان الذهاب الى السينما يأخذ طابعًا احتفاليًا، إذ غالبًا ما يتم التنسيق ما بين الأصدقاء للذهاب ومشاهدة الفيلم معًا. وندر أن يذهب الشخص لوحده، مما يضفي جماليات أخرى، سواء في الشارع، أو أثناء العرض، أو بعد مشاهدة الفيلم، حيث يتواصل الحوار التلقائي والعفوي، ويدلي الكل بدلوه، ويبدي رأيه في ما شاهد. ولا تنتهي تداعيات مشاهدة الفيلم، أحيانًا، إلا عند النوم.
غير أن هذه الحال تغيرت، في أواخر الثمانينيات، إذ بدأ الإقبال على دور السينما يقل، وهذا ما يشهد عليه صاحب "مطعم فؤاد"، أشهر من يبيع سندويشات الفلافل في وسط البلد، إذ يقول إنه في السنوات الأخيرة صار يغلق المحل، أحيانا، أيام الجمعة، معزيا ذلك الى عدم وجود زبائن في هذا اليوم، على عكس ما كانت عليه الحال قبل سنوات حيث كان البيع بأفضل حالاته أيام الجمعة لوجود زبائن أغلبهم من رواد السينما.
واجه أصحاب دور العرض في وسط البلد مشكلة نضوب الرواد من الصالات بمحاولات فردية واجتهادات شخصية، أكثرها غرابة قيام بعض دور السينما بالتوسع بدلا من التقنين لمواجهة ضائقة الجمهور، فسينما "الخيام" أصبحت صالتين، و"زهران" ثلاث صالات، و"رغدان" كثفت عدد المقاعد. وكل صالة تعرض ثلاثة أفلام على الأقل بتذكرة واحدة، كأنهم يريدون أن يضعوا أمام الجمهور كافة الخيارات لاستدراجه.

سينما رغدان في عمّان

أما على صعيد طبيعة الأفلام المعروضة، فبعض دور السينما راحت تختص بعرض الأفلام الإباحية، لعل وعسى ذلك يمكنها من استقطاب الجمهور، فيما اختصت دور أخرى بتقديم أفلام الدراما والأكشن. كما تم التوصل الى أسلوب آخر، وهو "العرض المستمر"، أي بإمكانك أن تدخل قاعة السينما في الصباح وتخرج في المساء، وتحضر خلال ذلك سلسلة من الأفلام. وتعتمد دور السينما في هذه الحالة على إعادة عرض الفيلم الواحد أكثر من مرة، أي مواصلة تكرار العروض. وكان يلاحظ تنوع الأفلام المعروضة لتناسب الأذواق كافة، فهنالك الفيلم العربي، والهندي، وأفلام الكاراتيه، والعنف، والجنس. ولم يكن ثمة تسلسل في العرض لهذه الأفلام، إذ بإمكانك أن تدخل في أي وقت، وتخرج في أي وقت، من دون أن تعرف ما هو الفيلم الذي يعرض حاليًا، ومتى سيحين موعد عرض الفيلم الذي تريد.
ومثل هذا النوع من المشاهدة كان يخلق طقوسًا ومفارقات، فبمجرد أن تقطع تذكرة الدخول كانت تنتهي علاقتك بإدارة دار السينما، وعليك أن تعتمد على نفسك في الوصول إلى مقعدك، إذ لن تجد من يساعدك على ذلك، فتكرار دخول وخروج الرواد يحول دون تخصيص موظف لتنظيم هذه العملية. إذًا، أنت وحدك، تزيح ستارة باب القاعة قليلًا فتباغتك العتمة التي تحول دون أن ترى شيئًا سوى شاشة العرض، تقف قليلًا لعل الرؤية تتضح، ثم تبدأ بتحسس مواطئ لقدميك باحثًا عن أول مقعد فارغ لتجلس عليه.



تستعين في أثناء مشيك البطيء والحذر بأطراف المقاعد تتحسسها بأطراف أصابع يديك لتتأكد من خلوها من الجالسين، وغالبًا ما تلمس أصابعك كتف أو رأس أو وجه أحدهم، فتضطر لأن تعتذر له وتتابع مسيرك. بمجرد أن يتراءى لك مقعد فارغ تجلس عليه فورًا، وتبدأ بالنظر حولك لتستكشف القاعة، وغالبًا ما يتضح لك بعد تكشف الرؤية تدريجيًا أن القاعة شبه فارغة، وأن معاناتك بالوصول إلى مقعد فارغ كانت ضربًا من العبث.
ما إن تستقر في مكانك تبدأ مرحلة أخرى من طقوس المشاهدة، ألا وهي البحث عن الفيلم الذي تريد. فكما أشرنا، الأفلام المعروضة مختلفة، وربما تكون معنيًا بمشاهدة الفيلم العربي مثلًا، غير أن الذي يعرض حاليا هو الفيلم الهندي، وعليك أن تتابعه رغمًا عن أنفك إلى أن يحين موعد الفيلم العربي. ولا أحد يضمن أن الفيلم الذي تريد يلي الفيلم المعروض فورًا، فقد يكون الفيلم التالي هو فيلم الأكشن. وهنا لا تملك إلا أن تتابعه رغمًا عن أنفك أيضًا.
وفي أثناء مشاهدتك للفيلم المعروض، تدخل في تفاصيل أخرى، فأنت لا تعرف متى بدأ الفيلم، ومتى سينتهي، ولا تدري ما هي قصة ما يدور، الآن، على الشاشة. لا تعرف من هو البطل، ومع من تتضامن. قد يدفعك الفضول لأن تسأل الشخص الذي يجلس إلى جوارك ولا تربطك به معرفة سؤالًا من نوع: "زمان بلش الفيلم"، فيرد عليك ردًا مبهمًا محيرًا من نوع: "يعني". فتعود إلى مواصلة المتابعة ببلاهة، وفي ذهنك سؤال تتمنى أن تسأله للشخص الذي يجلس إلى جوارك ولا تربطك به معرفة وهو: "شو القصة؟".
يمر عليك الوقت طويلًا وأنت تشاهد الفيلم المرغم على مشاهدته: تفكر، تدخن، تشرب شايًا، أو شيئًا باردًا، تتلفت حولك من وقت إلى آخر، وقد تضع يدك على خدك من دون أن يعنيك ما يدور على الشاشة. وكان يحدث أن تتمنى لو تغلق أذنيك حتى لا تسمع الأصوات التي تزيد من توترك، فاللهجة الهندية مثلًا تبدو متتالية تخلو من الفواصل، وإذا كان المشهد يتضمن حوارًا حادًا فإنك لا تسمع إلا لهجة ممطوطة لا تستسيغها الأذن، فكيف حين يبدأ الصراخ والعويل والمطاردات التي يبالغ خلالها باستخدام المؤثرات الصوتية.
في أثناء التفاتاتك المتكررة، يستوقفك ما يحدث في القاعة أكثر مما يعرض على الشاشة، فعلى ذلك المقعد شخص في الخمسين من عمره يجلس وحيدًا مطرقًا، يغفو من وقت لآخر، فتخشى حين تراه الوحدة على كبر، وبين الممرات يروح ويجيء عامل البوفيه مناديًا: شاي، قهوة، بارد، سندويشات. وفي المقعد الذي أمامك مراهقان يتابعان بشغف: الأغلب أنهما جاءا لمشاهدة فيلم الجنس، ثم يستوقفك القادمون الجدد إلى العتمة وهم يتحسسون مواطئ لأقدامهم، والغريب أن الشخص الجالس الذي تكون الرؤية واضحة بالنسبة له يندر أن يبادر بإرشاد القادم الجديد إلى مكان فارغ.
هذه الحال، بالنسبة لهذه الدور لم تطل أيضًا، إذ سرعان ما طاولها الكساد، فاتجهت جميع دور السينما في وسط البلد إلى فكرة عرض أكثر من فيلم بتذكرة واحدة، وذلك بعد أن راحت تنمو على ضفاف عمان الغربية دور سينما جديدة، مجهزة على آخر طراز. ولعل ما قصدته دور السينما في وسط البلد من إجرائها هذا، أي عرض أكثر من فيلم بتذكرة واحدة، هو استجداء الجمهور اعتمادًا على قاعدة تصريف الوقت، وليس الاغتناء من الوقت، لعل ذلك يستقطب الهائمين على وجوههم الذين لا يعرفون أين يقضون أوقاتهم من العاطلين عن العمل والمغتربين. وقد نجحت على أية حال في مسعاها، وراحت الأنفس المتعبة تتجمع داخل القاعة، تلك الأنفاس التي لا يضيرها متى بدأ الفيلم، ومتى سينتهي، وما هو الفيلم الذي يلي، طالما أن غايتها التقاط الأنفاس قليلًا، وإزهاق ما تبقى من وقت!
وتجدر الإشارة إلى أنه في الوقت الذي كانت فيه دور السينما في وسط البلد تحتضر، لم تكن الدور النامية على ضفاف عمان الغربية بخير، فالمردود محدود مقابل ما تحتاجها دار سينما مجهزة على آخر طراز. والغريب أن دور السينما الحديثة هذه راحت تواجه أزمتها بالمنطق نفسه الذي اعتمدته دور السينما القديمة، مع اختلاف الشكل والصيغة. إذ بدأت دور السينما الجديدة بعرض فيلم واحد تتحدد مدة عرضه حسب إقبال الجمهور عليه، فإذا أقبلت الجماهير ظل الفيلم معروضًا لمدة قد تزيد على شهر وأكثر، وإذا أدبرت الجماهير تقوم إدارة دار العرض بسحب الفيلم، وعرض فيلم آخر، غير أن هذا الاجراء بات يتسبب بخسائر لأصحاب دور العرض، فشراء الفيلم، أو حتى استئجاره لمدة معينة، ثم الاضطرار إلى سحبه من العرض لعدم الإقبال عليه كان يعني أن دار السينما لم تسترد ثمن النسخة التي اشترتها، أو استأجرتها.
وهذا سبب من أسباب أخرى أدى لأن تعاني دور السينما في غرب عمان من أزمات جعلت بعض دور السينما تغلق أبوابها، فيما قامت دور أخرى بالتضامن في ما بينها، أي أن الفيلم يتم شراؤه، أو استئجاره، من قبل أكثر من دار عرض، ويتم تعيين موظف مهمته أن يسحب الفيلم فور الانتهاء من عرضه من إحدى دور السينما، والذهاب به إلى دار سينما أخرى تكون قد أعلنت موعدًا آخر في اليوم نفسه لعرض الفيلم، فإذا نجح الفيلم تتوزع الأرباح على دور السينما المشاركة في العرض، وإذا فشل تتوزع الخسارة على تلك الدور.




لكن هذا الإجراء لم يكن كافيًا، أو شافيًا، مما دفع دور السينما إلى ابتكار أفكار أخرى، فكانت الفكرة أن كل دار سينما باتت تتكون من أكثر من صالة، ويتم عرض أكثر من فيلم في يوم واحد حسب عدد الصالات، وحسب ترتيب معين لمواعيد العروض. وفي هذه الحالة يمكن لفيلم واحد ناجح جماهيريًا أن يغطي على خسائر الأفلام الأخرى، وإذا نجحت جميع الأفلام فهذا خير وبركة.
ويلاحظ من برامج العروض عدم تجانس الأفلام المعروضة، وذلك لضمان استقطاب الفئات العمرية كافة، وأصحاب الميول والاهتمامات المختلفة، فتجد في دار السينما الواحدة ثمة الفيلم الكوميدي والرعب والاجتماعي والأكشن والرومانسي، تمامًا مثل مفهوم السوق والتسوق الذي يعني أن المواد المعروضة تغطي الأذواق كافة، وينطوي هذا الإجراء على إمكانية تسويق الغث والسمين في آن، بمعنى أن آلية العرض هذه، أي عرض أكثر من فيلم دفعة واحدة في صالات تابعة لدار السينما نفسها، إنما يقوم على أساس استثمار، أو إثارة شهية الاستهلاك لدى المستهلك، فقد تذهب لمشاهدة فيلم ما، وبفعل تجاور صالات السينما وقربها من بعضها بعضًا قد يدفعك الفضول لأن تشاهد فيلمًا آخر، وهذا ما كان يحدث فعلًا.
هذه حال دور السينما في عمان في الستينيات والسبعينيات، وحتى الثمانينيات، ثم بدأ الانهيار. لا أحد يعرف لماذا كان الانهيار. بسبب دخول النت، وما أحدثه من ثورة، جعلت الأفلام في متناول اليد، أم لأن عمان عاصمة تخلو من إنتاج سينمائي حقيقي، فلا ثقافة سينمائية فيها، مما سهل قطع الود بين دور السينما وروادها؟

سينما الحسين في العاصمة الأردنية

يطول الحديث عن الأسباب، لكنها قصة حب عاشتها أجيال، حبّ حقيقيّ تجلّت معالمه بالبنايات التي احتضنت تلك الدور، تلك البنايات المصممة بطريقة، وحسب مواصفات، لا يمكنها إلا أن تكون مكانًا لدور السينما، وها هي في قلب العاصمة عمان هياكل عظمية لا حياة فيها، صعب أن تؤجر كمكاتب، صعب تحويلها إلى شقق مفروشة، لا يمكنها أن تكون، بمساحاتها الواسعة، وحيطانها العريضة، وسقفها العالي، إلا مكانًا لعروض سينمائية.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.