}

سلطان المعرفة... أو طالب العلم سلطانًا

فريد الزاهي 15 يوليه 2023
استعادات سلطان المعرفة... أو طالب العلم سلطانًا
لم يكن لطلبة العلم مطالب سياسية (1940)

حين نرصد واقع التربية والتعليم في عدد من بلداننا العربية، والتفاهة المفرطة التي يستخدم فيها السياسيون، وعدد من الصحافيين والكتبة والمؤثرين، اللغة والأدب وما جاورها من العلوم والمعارف، نكتشف أن التجارة والاقتصاد والريع والاقتصاد السري (المخدرات وغيرها)، والألعاب (كرة القدم والألعاب الإلكترونية)، أضحت في مفهوم عدد من الدول أساس المشاريع المجتمعية والسبيل الجيو ـ سياسي للتنمية... لنتذكر برهة أن مصر والمغرب في نهاية القرن التاسع عشر كان في إمكانهما، بفضل التركيز على المعارف الحديثة، كالهندسة الصناعية، وصنع السلاح، والمعارف المتصلة بها، أن يكونا اليوم (لو كانت الظروف ملائمة) في مرتبة اليابان. وحتى لا نتطرق إلى التجربة المصرية المعروفة، سنحكي عن التجربة المغربية. فقد بعث السلطان المغربي مولاي الحسن في أواخر القرن 19 إلى البلدان الإفرنجية مجموعة من الطلبة لتعلم العلوم التقنية الجديدة، وتوظيف بعضهم في صناعة الأسلحة. لكن ما حدث هو أن هؤلاء بعد عودتهم بشهاداتهم ومعارفهم، استخدموا في أمور أخرى لا علاقة لها بالإنتاج الصناعي والفلاحي، وتحولوا إلى موظفين وترجمانات. الأمر نفسه حدث في الستينيات، حين عاد بعض الطلبة من دراسة السينما في البلدان الأوروبية، لم تتح لهم فرصة إنتاج أفلام نظرًا للتحكم المطلق للدولة آنذاك في المجال السمعي البصري، فأصبح أغلبهم عاطلًا، فيما تم توظيف الباقي في إنتاج موجز الأخبار والأنشطة الرسمية التي كانت تسمى "الأنباء"، وتعرض قسريًا قبل كل عرض للأفلام في كافة القاعات السينمائية.

سلطان الطلبة أو سلطان المعرفة
في صغري، بعد أن طردنا الجدّ القاسي من بيتنا الريفي، والتحقنا بمدينة فاس، واكترينا بيتًا في المدينة القديمة، كنت أرتاد ساحة الولي سيدي علي بوغالب المحاذية لسور المدينة العتيق وباب الفتوح، مباشرة بعد الخروج من المدرسة، لكي أستمتع بالحلقات التي كانت تعج بها تلك المقبرة التي تحول جزء منها إلى ساحة خلاء. كانت الأزلية والسيرة الهلالية مصدرًا لمتعتنا التي لا تضاهى. وفي 1967، عامًا بعد أن حفظت ما تيسر لي من القرآن وولجت المدرسة الحديثة، حضرت آخر مراسيم حفل غريب كان يقام في الربيع. كانت ساحة سيدي علي بوغالب تعج بالناس، قبل أن يمر موكب مهيب يتوسطه شاب في حلة بهية يمتطي فرسًا، وشاب آخر يحمل مظلته، يتبعه الطلبة وحاشيته من الوزراء، والناس تزغرد وتعلق بصخب بالغ. كان ذلك آخر موكب لسلطان الطلبة، "الكرنفال" الذي أقامه أول سلطان للدولة العلوية في القرن السابع عشر، مانحًا بذلك لهم أسبوعًا خاصًا بهم يصبح فيه الطلبة حاكمين، وتتم مبايعة أحدهم ليأخذ مكان السلطان الفعلي. ويبدو أن السلطان مولاي رشيد قد كرس هذا التقليد، لأن الطلبة ساندوه في استتبابه على العرش، وكيْل الضربة القاضية للأسرة الملكية السابقة عليه. وقد بنى لهم في ما بعد، في مدينة فاس، مدرسة كبرى هي "الشراطين"عام 1670، بأحدث ما وصل إليه فن العمارة آنذاك، معبرًا لا فقط عن اهتمامه بالعلم، وإنما بالأخص بهذه الفئات من الطلبة الذين كانوا يحجّون إلى جامع القرويين من جميع أصقاع المغرب، لتلقي العلم، ليصبحوا فقهاء وبعضهم علماء مرموقين في العلوم التقليدية التي كانت تدرس آنذاك.
يقوم هذا الحفل على مراحل تبدأ بانتخاب سلطان الطلبة. وبما أن هذا الحدث يكتسي صبغة سياسية واجتماعية، فإن أعيان المدينة يتنافسون في احتضانها تقربًا من السلطان الفعلي، الذي سينقل له سلطان الطلبة مطالبهم، خاصة وأن الأول ينهي لقاءه بهذا الأخير بتحقيق مجمل المطالب التي يأتي إليه بها. وهكذا، وبهذه الرهانات ذات الأهمية البالغة، يتمكن الطلبة الفقراء من الانتقام من عام كامل من شظف العيش، الذي لا يتجاوز رغيفًا يوميًا وحساء أو طبقًا فقيرًا من العدس. فهذا اليوم السنوي التاريخي يكون يوم بذخ في الأكل والشرب، وفي الآن نفسه يوم تعبير عن الوضعية المزرية لحياة الطلبة.




لم يكن لطلبة العلم هؤلاء آنذاك من مطالب سياسية. فهي كانت تجاوز وعيهم وسياقهم ومهامهم، بالرغم من أنهم قد يلعبون مرةً دورًا سياسيًا بمعاضدة هذا السلطان أو ذاك، خاصة وأن بعض السلاطين المغاربة كانوا رجال علم ومعرفة، وبلاطاتهم تستقبل كبار المفكرين، كابن خلدون، وابن عربي، وابن الخطيب، والغزالي، وغيرهم، مع ما يصاحب ذلك أيضًا من نزاعات وحالات إنكار، أو عداء. بيد أن حفلهم هذا كانت له دلالات سياسية أيضًا في الاعتراف العلني بدور طالب المعرفة في المجتمع من ناحية، وسلطته المعرفية التي يلزم أن يكون لها أسبوعها الوطني الذي يخلدها بهذا الشكل الاحتفالي الذي يأخذ طابعًا مسرحيًا واضحًا. وهكذا تخول لسلطان الطلبة رفع بعض الضرائب، وتعطيل بعض القرارات، غير أنه لا يسمح له فقط بضرب السكة، أي إصدار النقود.

يرتاد موكب سلطان الطلبة يوم الجمعة الموالي لانتخاب سلطانهم دروب مدينة فاس (الصورة من عام 1916)


يرتاد موكب سلطان الطلبة يوم الجمعة الموالي لانتخاب سلطانهم دروب مدينة فاس، ومدن أخرى كمراكش ومكناس، تتبعهم جماهير الطلبة والفضوليين، ويخرج من المدينة إلى السهل المحاذي، كي تتم ما يعرف بـ"النزاهة" (النزهة)، حيث يكون الاحتفال بتناول ما لذ وطاب من الأطعمة، وبتقديم الأهازيج الشعبية لكل منطقة، وبالتباري في الأشعار الساخرة والمضحكة عن وضعية الطالب وفقره وبساطة عيشه.
ولتسلية الحشود الغفيرة المتنوعة، هنالك الشعر والموسيقى والإيقاعات الراقصة... والأشعار التي تنشد في شكل ملحون دارج رفيع، فيما يقوم الطلبة ذوو الأصول القروية، المجتمعون في مجموعات قبلية، بأداء أغانيهم ورقصاتهم المحلية، وهو ما يشكل جانبًا آخر من التباري والمنافسة بين طلبة الجبال وطلبة السهول المحاذية للصحراء. ويقوم طلبة الزوايا والطرق الصوفية في متَمّ اليوم بالجذب والحضرة وتلاوة الأذكار الصوفية. أما الأساتذة والمثقفون من بين الطلبة، فيتابعون مناظراتهم الفقهية والفلكية في جو من الألفة والأنس، ذلك أن ثمة شيئًا رائعًا يتم في هذا اليوم، وهو انهيار الحواجز القائمة عادة بين الأستاذ والطالب، والأستاذ هو الذي يقوم بذلك بالإعلان منذ بدء المناظرة: "أعلن أني أتخلى مؤقتًا عن صفتي كأستاذ وشيخ وأنتم كطلبة". وهو ما يعني أن السلطة تنقلب، لا بين ملك البلاد وسلطان الطلبة فقط، وإنما أيضًا بين الشيخ ومريديه، والأستاذ العالم وطلبته. فالعالم بذلك لا يحاكي فقط "تخلي" سلطان البلاد عن مقامه السامي، وإنما يتخلى عن سلطاته العلمية والمعرفية لكي يمكّن الطلاب من إبداء علومهم ومعارفهم ومدى تمكّنهم منها.
وتتوالى أيام الأسبوع بأنشطتها المختلفة في معسكر سلطان الطلبة إلى أن يحضر السلطان الفعلي شخصيًا. حينها نُعاين هذا المشهد الختامي العجيب الذي يكرس مكانة الطلبة، ويتحول في الآن نفسه إلى بيعة سنوية للسلطان الفعلي: "يتقدم السلطان الفعلي إلى خيمة سلطان الطلبة الذي يستقبله من غير أن يترجَّل عن حصانه، والذي يتوجه إليه بهذه العبارات: "من أين أنت آت؟ ما اسمك واسم أبيك؟ ما الذي يجعلك تجسر على الدخول إلى مراتعنا...؟ هل تتجاهل سلطان الطلبة الجبار، السلطان العظيم الممجد الذي يحكم بمشيئة الله على كل ما يدب على الأرض، ويقود جيشًا عظيمًا من الحشرات الجائعة؟"... تتم هذه الخطبة السخيفة وسط ضحكات الجمهور ومرحه. بيد أن ذلك لا يدوم أكثر من بضع دقائق، ثم تنقلب الوضعية وتنتهي المسخرة بطريقة مفاجئة، إذ يترجل سلطان الطلبة عن مطيته ويقوم بتقبيل مهماز السلطان. وبعدها يأتي دور الهدية الملكية المتمثلة في كمية من النقود للاحتفال بشكل سلطاني باليوم الأخير من الحفل، وفي العديد من رؤوس الخرفان والبقر، والمئات من الدجاج وأفراخ الحمام، وكيلوات كثيرة من قوالب السكر والشاي، والحلويات باللوز، والشمع الكثير..."، حسب ما جاء به المؤرخ حميد التريكي.

لتسلية الحشود الغفيرة المتنوعة، هنالك الشعر والموسيقى والإيقاعات الراقصة (الصورة من عام 1912)


المعرفة والخبز والسخرية
في اليوم السادس من هذا الحفل، وبحضرة سلطان البلاد، يلقي وزير أوقاف سلطان الطلبة خطبة غريبة تحاكي خطبة الجمعة، وتتبنى لغتها وأسلوبها وإيقاعها، لتحوله إلى أسلوب هازل، وتقلب الصفات والحالات الدينية لتحولها إلى قضايا باطْنية ذات طابع دنيوي. تلقى الخطبة طبعًا باسم السلطان، بصوت وزير الأوقاف الذي يكون ذا زي وحلة بالغة الغرابة والعجب. وهو يكون ممتطيًا كائنًا مصنوعًا من القش يشبه الجمل، وعلى رأسه طربوش مخروطي الشكل يشبه غطاء قفة الخبز، وعلى صدره خبزة دائرية تحيل إلى ساعة دائرية يرنو إليها بين الفينة والأخرى، كأنه مستعجل في أمره، ويرتدي في العنق عقدًا مصنوعًا من ثمار التين المجفَّف، يأخذها بين يديه تمثيلًا للسبحة، ويلتهم منها بين الحين والآخر تينة يمضغها بشكل مبالغ فيه.
وبين الفينة والأخرى، في هذه المسخرة، التي تشبه في طابعها المسخرة الغربية التي يتحدث عنها باختين، يهتف رفاقه المحيطون به بحياة السلطان، مرددين العبارة المخزنية المسكوكة: "الله يبارك في عمر سيدنا". وهذان مقتطفان من خطبتين بلغتانا من بدايات القرن العشرين:
"الحمد لله الذي بدا الأكوان وسواها، وجعل الأضراس والأسنان لمضغ المأكولات وقواها، نشهد أنه الله الكائن قبل كل شيء وحده، شهادة من قطع ليله ونهاره في طلب الزردة (المأدبة). ونشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله، المحبوب الحبيب الذي جاء بشريعة أحلى من الأتاي (الشاي) بالحليب. وعلى آله الكرام وأصحابه المتبعين أثره في إعطاء الطعام، صلاة وسلامًا ننال بهما جميع فواكه الأجنة والبساتين من عنب وخوخ وتفاح وتين...".
وجاء في الخطبة الثانية: "الحمد لله الذي أنعم علينا بنعمة الأتاي (الشاي) والسكر، وأباح لنا أن نشرب بالكؤوس الكبار (...)، والرضى عن أصحابه المحبين لذوي الجذب والسلوك، أبي المفاخر كعب الغزال (حلوى مغربية شهيرة)، وفاكهة الملوك، وعن التابعين، الذين طابت بهم الأنفاس السيدة الغريّبة والقراشل والفقاس (أنواع من الحلويات)، وعن التابعين الذين يسيل بذكرهم لعاب السامعين، السيد اللين المسمى ببغرير (خبز حضري به ثقوب)، الذي هو كالشهد، وألين من الحرير (...)".
وهذا أنموذج من منتهى خطبة من العصر نفسه: "عباد الله، اسمعوا وعوا، إذا انقضى أجلي، غسلوني بالحليب، وكفنوني بالبغرير، واعقدوا لي رأسي بالقدّيد (اللحم المجفَّف)، وادفنوني في سرير من سميد".
هذا الكرنفال الفريد من نوعه في العالم العربي لم يحظ للأسف باهتمام كبير من أنثربولوجيين من قبيل إدمون دوتي، لأنه ذو طقوس دنيوية. وهو إن حظي باهتمام المسرحيين المغاربة فلأنه يعد شكلًا فقط من الأشكال "ما قبل المسرحية". والحال أن طابعه الساخر والسياسي، وعلاقته بتبجيل العلم والمعرفة، يمنحه أبعادًا أخرى، تحيل بالأساس إلى علاقة السلطة المعرفية بالسلطة السياسية، وإلى أنواع ساخرة من المطالبة الاجتماعية بالخبز والمعرفة...

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.