}

ذكرى لوركا: ادفنوني مع غيتارٍ في رمال شاطئ النهر

سمير رمان سمير رمان 9 يوليه 2023
استعادات ذكرى لوركا: ادفنوني مع غيتارٍ في رمال شاطئ النهر
صورة لوركا في مطعم في ألفاكار/ غرناطة (18/11/2014/Getty)
في شهر يونيو/ حزيران الماضي، مرّت ذكرى 125 عامًا على ولادة الشاعر الإسباني فيديريكو غارسيا لوركا/ Federico García Lorca، الذي ولد في مقاطعة غرناطة عام 1898، وتوفي في 19 أغسطس/ آب 1936.
لوركا معروف كشاعر وكاتب مسرحي درامي، موسيقي ورسام غرافيكي. وهو الشخصية الرئيسة في مجموعة "جيل الـ27 عامًا"، التي أدخلت إلى الأدب الإسباني مبادئ الحركات الأوروبية، مثل الرمزية، والسريالية.
قبيل اندلاع الحرب الأهلية الإسبانية، قُتل لوركا بطريقة غامضة، ولم يعثر على جثته أبدًا. لوركا ابن مزارع ناجح امتلك مزرعةً تقع في وادي فيغا، الذي يحيط بغرناطة. بفضل صناعة السكر، نمت ثروة الأب بسرعةٍ، وبنت الأسرة فيلا فاخرة في المدينة. أمّا والدته فكانت معلمة.
في المدرسة، لم يكن الفتى لوركا تلميذًا مميزًا. انتقلت أسرته في عام 1919 إلى مدريد. وفي العقد الثاني من القرن العشرين، شارك فيديريكو بنشاطٍ في الحياة الثقافية المحلية، وبدأ عام 1914 بدراسة القانون، الفلسفة والأدب في جامعة غرناطة. كان لوركا كثير الترحال، وزار معظم مناطق إسبانيا، الأمر الذي أثرى ملكته الأدبية، فنشر عام 1918 أولى مجموعاته الشعرية "انطباعات ومناظر/ Impresiones ypaisajes". انتقل لوركا إلى العاصمة مدريد عام 1919، حيث تابع هناك دراسته الجامعية، وتعرّف في تلك الفترة على كلٍّ من سلفادور دالي، ولويس بونويل، وكذلك على مدير مسرح "إسلافا"، غريغوري سييرا. وبناءً على طلب سييرا، كتب لوركا باكورة مسرحياته "سحر الفراشة"/ Elmaleficio de la mariposa، وتولى إخراجها (1919 ـ 1920). واستمرت دراسة لوركا في جامعة مدريد لغاية 1928.
في السنوات التالية، لمع نجم لوركا في أوساط الفنانين الطليعيين، بعد أن أصدر أول دواوينه الشعرية، الذي تضمّن قصيدة "رومانسيات غجرية/Romancero gitano"، التي كتبها عام 1928. يقول الشاعر إنّه أراد في قصيدته الغجرية تلك أن يخلط الأساطيرالغجرية مع نمط حياته. بعد عامٍ واحد، سافر لوركا إلى نيويورك. كانت الرحلة تلك مثمرة للغاية، فقد كتب عام 1931 كتابه الجديد "شاعرٌ في نيويورك/ Poeta en Nueva York"، وألّف مسرحية "الجمهور/ público"، وكذلك "عندما تمضي خمس سنوات/ Así que pasen cinco años".




تزامنت عودة الشاعر إلى إسبانيا مع سقوط نظام بريمو دي ريفيرا، وقيام الجمهورية الإسبانية الثانية، عبر انتخاباتٍ ديمقراطية. في عام 1931، عيّن لوركا مديرًا للمسرح الطلابي La Barraca، حيث كتب أشهر مسرحياته: "عرسٌ الدم"، و"يرما"، و"بيت برناردا ألبا"... خطط لوركا صيف عام 1936 للسفر إلى المكسيك، ولكنّه اتخذ قرارًا بالتوجّه أولًا إلى دياره. وقبل ثلاثة أيامٍ من التمرد العسكري الذي أطلق شرارة الحرب الأهلية، قام غارسيا لوركا إلى جانب رافائيل ألبرتي (وكان لوركا يتعاطف علنًا مع اليسار الإسباني، ومع السلطة الجمهورية المنتخبة) بالتوقيع على رسالة مع أكثر من 300 من النخب الإسبانية المثقفة، دعمًا للجبهة الشعبية. على الرغم من تحذير الأصدقاء، سافر لوركا إلى مسقط رأسه غرناطة، المعروفة بوقوفها إلى جانب اليمين المتطرف. وفي السادس من أغسطس/ آب عام 1936، اعتقل في بيت الشاعر لويس روساليسا، ومن المحتمل أنّه أُعدم في اليوم التالي بأمرٍ من المحافظ فالديسا غوسمان، ودفن سرًّا. بعد ذلك، وحتى منتصف الخمسينيات، حظرت كتبه في إسبانيا، كما أُخضعت مؤلفاته لفترةٍ طويلة للرقابة تحت حكم فرانكو، ولم يسمح بطباعتها إلا في النصف الثاني من حكم الديكتاتور.

موقع مقبرة جماعية لضحايا الحرب الأهلية في ألفاكار قرب غرناطة/ إسبانيا كان يُعتقد أن جثة لوركا مدفونة فيها (19/ 11/ 2014/ فرانس برس)




تضاربت الشائعات حول أسباب مقتله بين أسباب سياسية، وأُخرى تتعلق بميوله الجنسية الشاذّة. ففي عام 2008، واستنادًا إلى ما عرف بـ "قانون العدالة التاريخية"، طالب حفيد أحد المدرسين، الذي كان قد قتل مع لوركا، باستخراج جثّة جدّه من مقبرة جماعية، والتي يزعم أنّ لوركا دفن فيها أيضًا. بأمرٍ من القاضي غارسون، وعلى مسؤوليته الشخصية، نبشت الجثث من المقبرة تلك، ومن 18 مقبرة أُخرى، ولكن لم يتم العثور على أيّ جثثٍ في تلك المقبرة، ولا في المنطقة بأسرها. كلفت المبادرة القاضي منصبه، وتعرض للملاحقة الجنائية بتهمة تجاوز سلطاته. تقول إشاعة أُخرى إنّ الشاعر الجريح نقل إلى الأرجنتين، ولكنّه كان فاقدًا للذاكرة، فلم يكن يستطيع أن يتذكر لا اسمه ولا ماضيه. وفي عام 2015، نشرت محطة إذاعية إسبانية وثائق من الأرشيف المركزي تعود لشرطة غرناطة تؤكد فرضية إعدام الشاعر على يد أنصار فرانكو بذريعة أفكاره الاشتراكية، وانتسابه إلى جمعية ماسونية.

إبداعه الأدبي
في مسرحيات غارسيا لوركا يلاحظ توتر نمطي دائم، الأمر الذي ظهر بشكلٍ خاصّ في أهم مسرحياته: "بيت برناردا ألبا"، حيث يمتزجٌ هذا التوتر بقوة مع المشاعر، ويختلط مع ألوانها الحمراء، تلك الألوان التي تميّز الدماء الإسبانية: فمسرحياته، كما الإسبان، مجنونة ومتوثبة، ولكنّها تمتلك مرحًا خفيفًا، متلاعبًا...
أمّا في أشعار غارسيا لوركا التي ترجمت إلى كثير من اللغات، فإننا نجد شبح الموت يلوح بوضوحٍ فيها جميعها.
يقول الشاعر في إحدى قصائده:
عندما أموت،
ادفنوني مع غيتاري في رمال شاطئ النهر.
عندما أموت،
ادفنوني في أيّ زهرة من أزهار بيارة برتقال عتيقة.
عندما أموت،
سأكون ريشةً على السطح
في مهبّ الريح.
صمتًا...
عندما أموت!
في بعض الأحيان، تبدو لوحات لوركا الشعرية لحظية عابرة، كشيء ما مندفع، ولكنّ عصير المشمش يعيد القارئ إلى الواقع:
أغسطوس
دراق وسوكاتي
وفي ندى قش الحصاد العسليّ
تدخل الشمس حَجَرَ المغيب العنبري،
فتبدو وكأنّها بذرة ثمرة المشمش.
هكذا هي دائمًا ألوان أشعار غارسيا لوركا: ساطعة ساحرة.
أحبّ الشاعر الحياة بكلّ أكداس أغانيها، تلاوينها وغضبها، رقة الحبّ، مرارة الحقيقة، تفاهة الحياة، ووميض السيف، أحبّ الحياة وهو يعدّل حوامل أوتار الغيتار، أحبّ فرسان الكاباليرو الشجعان المسرعين إلى البعيد.
تبدأ الشمس مغيبها...
وينزف الغروب دمًا...
وتنعكس مياه البحر في مصائر البشر:
يضحك البحر
عند حافّة الخليج
مكشرًا عن أسنان من الزبٍد، أسنانٍ لازوردية...
ـ يا ذات الصدر البرونزي،
إلامَ تحدقين بكلّ هذا الشوق؟
فقط أبيع الماء، يا سيدي،
مياه البحر أبيع.
ـ  أهو فتىً دماؤه قانية،
يضجّ صاخبًا لا يتوقف في صدرها؟
ـ إنّها المياه يا سيدي،
مياه البحر.
كانت النار التي أطلقها لوركا في أسلاك أبيات قصائده نارًا عظيمة. فيها كثير من الحبّ الجسدي: فيها الخيانة، فيها زبد الرغبة ورذاذها، كما لو كانت الحياة خارج كلّ هذا، فهي ليست حياة، بل هي كثير من الانكسارات التراجيدية.
ذاك هو لوركا، عاش حياته بأقصى درجات السطوع، انْتُزِع مبكرًا من الحياة بنذالةٍ لا مثيل لها. فكم كان سيبدع لو طال به العمر...
في أشعاره كثير من عسل الحياة المنتشر في الأثير، ولكنَّ فيها أيضًا كثيرًا من الموت: كأنّه يختبرها، يدرسها محاولًا النظر في ما ورائها قبل الأوان، مستشعرًا قلّة ما فاته...
يبقى أن شعر لوركا إحساسٌ بالخيمياء: وكأنّ كل ما حوله تجسّد: ليس أشياء، ولكن مادة للشعر. وباستخدامه هذا، يبدع الشاعر، فيكون صدى لتناغمٍ كونيّ، حتى وإن كانت تشوبه تيارات من الحزن:
مياه النهر الراكدة في ضوء القمر،
تحت منحدرات يلفها الضباب.
كشجرة صفصافٍ، يزحف الصمت نعسًا
تحت وقع الصدى؟

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.