}

غزّة في نصوص المؤرّخين والجغرافيين والرحّالة العرب والمسلمين والأوروبيين

أوس يعقوب 13 يناير 2024
استعادات غزّة في نصوص المؤرّخين والجغرافيين والرحّالة العرب والمسلمين والأوروبيين
غزة عام 1889
"من أقدم المدن التي عرفها التاريخ. إنّها ليست بنت قرن من القرون، أو وليدة عصر من العصور، وإنّما هي بنت الأجيال المنصرمة كلّها، ورفيقة العصور الفائتة كلّها، من اليوم الذي سطر التاريخ فيه صحائفه الأولى إلى يومنا هذا". وإنّه "لتاريخ مجيد، تاريخها. ذلك لأنّها صمدت لنوائب الزمان بجميع أنواعها، وطوارئ الحدثان بجميع ألوانها. حتّى إنّه لم يبقَ فاتح من الفاتحين، أو غاز من الغُزاة المتقدّمين والمتأخّرين الذين كانت لهم صلة بالشرق إلّا ونازلته: فإمّا أن يكون قد صرعها، أو تكون هي قد صرعته". بهذه الكلمات، تحدّث رائد المؤرّخين الفلسطينيين المقدسي عارف العارف (1891 ـ 1973)م، عن مدينة غزّة، في كتابه "تاريخ غزّة" الصادر عام 1943م، والذي يتناول فيه جوانب من تاريخ غزّة، منذ بداية الحكم العثماني حتّى الانتداب البريطاني.

غزّة في بطون كتب التاريخ
في هذه المقالة، نتناول بعضًا ممّا جاء في وصف غزّة وتاريخها في مؤلّفات المؤرّخين والجغرافيين والرحّالة، من العرب والمسلمين والأوروبيين، في قديم الزمان وحديثه.
لاقت مدينة غزّة اهتمامًا كبيرًا في كتابات المؤرّخين والجغرافيين والرحّالة المسلمين بعد الفتح الإسلامي، حيث ورد ذكرها في المصادر التاريخية الكبرى؛ من ذلك ما جاء في "كتاب البلدان" لابن الفقيه الهمذاني، الذي كتب في فضل فلسطين عمومًا وغزّة خصوصًا، فقال: قال ابن الكلبي في قول الله عز وجل {ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم} (سورة المائدة: 21)، قال: هي فلسطين، وفي قوله {الأرض التي باركنا فيها للعالمين} (سورة الأنبياء: 71)، قال: فلسطين.
وفلسطين بلاد واسعة كثيرة الخير، والزيتون التي بها من غرسهم، وقال النبي (ص): "أبشركم بالعروسين غزّة وعسقلان".
كما جاء ذكر غزّة في كتب الجغرافيين، وكُتّاب المسالك المسلمين، ويكاد لا يخلو كتاب من هذه الكتب من ذكر غزّة وحوادثها وزروعها وخصائص أهلها. وبصفة عامّة، كان الجغرافيون المسلمون يقسمون العالم جغرافيا إلى أقاليم سبعة، وتقع غزّة ضمن الإقليم الثالث، وهو الإقليم الذي يتوسط العالم، ومن هذه الكتابات ننقل عن "معجم البلدان" لياقوت الحموي قوله: غزّة: بفتح أوّله، وتشديد ثانيه وفتحه، في الإقليم الثالث، طولها من جهة المغرب أربع وخمسون درجة وخمسون دقيقة، وعرضها اثنتان وثلاثون درجة، وفي كتاب "المسالك والممالك" للحسن بن أحمد المهلبي أنّ غزّة والرملة من الإقليم الرابع (وهو قول غير صحيح حسب ياقوت)،… وغزّة: مدينة في أقصى الشام من ناحية مصر، بينها وبين عسقلان فرسخان أو أقل، وهي من نواحي فلسطين غربي عسقلان...
وأمّا دواعي تسميتها غزّة ففيها أقوال؛ منها ما ذكره ياقوت الحموي "العرب تقول قد غزّ فلان بفلان، واغتزّ به إذا اختصّه من بين أصحابه"، ومنها قول شهاب الدين العمري في كتابه "مسالك الأبصار في ممالك الأمصار": "قالوا يجوز أن يكون اسمها مأخوذًا من الغزّ، والغزّ الشذق، وهما غزّان. سُمّيت بذلك لأنّها في فم الشام، ممّا يلي شقة البحري، وقد يكون مأخوذًا من قول العرب أغزّت البقرة، فهي مغزّ إذا عسر حملها؛ سميت بذلك لعسر السير إليها على الناس والدواب للرمل المتاخم لها".  ويقال: إنّها موطن نفر من الأنبياء والعلماء. وحول هذا يقول مجير الدين الحنبلي في كتابه "الأنس الجليل بتأريخ القدس والجليل": "غزّة من أحسن المدن المجاورة لبيت المقدس، وفيها ولد سيدنا سليمان بن داوود... وتقدّم أنّ الإمام الأعظم محمد ابن إدريس الشافعي ولد فيها، وموضع مولده معروف يُقصد للزيارة، ولو لم يكن لغزّة من الفخر إلّا مولد النبي سليمان والإمام الشافعي لكفاها". ويشاطره أبو يحيى زكريا القزويني الرأي في كتابه "آثار البلاد وأخبار العباد"، حيث يقول: "وكفاها معجزًا أنّها مولد الإمام محمد ابن إدريس الشافعي".

"رحلتا الشتاء والصيف"... صيفًا إلى غزّة
كان لموقع غزّة على ساحل البحر الأبيض المتوسط، وتأتي مباشرة بعد بريّة سيناء، أكبر الأثر في وجودها وبقائها وأهمّيتها. وهي هدف إحدى الرحلتين اللتين ورد ذكرهما في القرآن الكريم في سورة قُرَيش "رحلتا الشتاء والصيف"، أي رحلة التجار القُرشيين شتاء إلى اليمن، ورحلتهم صيفًا إلى غزّة ومشارف الشام. وفي إحدى رحلات الصيف هذه مات هاشم بن عبد مناف، جَدّ النبي محمد (ص)، ودُفِن في غزّة في المكان المعروف الآن بجامع السيّد هاشم في حيّ الدرج.
أمّا عن وصف غزّة، فهنالك كتابات عدّة تصف المدينة، ومنها ما ذكره خليل الظاهري في كتابه "زبدة كشف الممالك وبيان الطرق والمسالك"، إذ يقول: "غزّة مدينة حسنة بأرض مستوية، وهي كثيرة الفواكه، وفيها من الجوامع والمدارس والعمارات الحسنة ما يورث العجب، وتسمّى دهليز الملك، ولها معاملات وقرى، وهي مملكة متسعة". ووصف "مملكة" ليس فيه مبالغة، فقد ذكر شمس الدين الدمشقي في كتابه "نخبة الدهر في عجائب البر والبحر" أنّها كانت تضمّ مدنًا عدة، حيث يقول: "غزّة؛ وكانت تعرف قديمًا بغزّة هاشم، وهي مدينة كثيرة الشجر كسماط (مائدة) ممدودة لجيوش الإسلام في أبواب الرمل، ولكلّ صادر ووارد إلى الديار الشامية والمصرية… ومن مدنها الساحلية عسقلان، مدينة عظيمة كانت للإفرنج وأخربها المسلمون، ويافا وقيسرية والداروم والعريش، ومن أعمالها البرية تيه بني إسرائيل… ومن أعمالها المتوسطة بين الجبل والساحل تل حمار وتل الصافية وقراتيا وبيت جبرائيل ومدينة الخليل وبيت المقدس".




ويتوقّف أبو العباس القلقشندي عند طبوغرافية المدينة وخصائصها البشرية في "صبح الأعشى"، وينقل عن ابن سعيد قوله: "هي مدينة من جند فلسطين، في الإقليم الثالث من الأقاليم السبعة... وهي على طرف الرمل بين مصر والشام؛ آخذة بين البر والبحر بجانبيها، مبنية على نشز عال على نحو ميل من البحر الرومي، متوسطة في العظم، ذات جوامع، ومدارس، وزوايا، وبيمارستان، وأسواق؛ صحيحة الهواء؛ وشرب أهلها من الآبار؛ وبها أمكنة يجتمع بها المطر إلّا أنّه يستثقل في الشرب فيعدل منه إلى الآبار لخفة مائها؛ وبساحلها البساتين الكثيرة، وأجل فاكهتها العنب والتين؛ وبها بعض النخيل، وبرها ممتدّ إلى تيه بني إسرائيل من قبليها، وهو موضع زرع وماشية".
ويذكر قاضي القضاة أبي العباس شمس الدين ابن خلكان في "وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان" غزّة، فيقول: "غزّة إحدى الرحلتين المذكورة في كتاب الله العزيز [يقصد رحلتي الشتاء والصيف لقريش]"، وقد اتفق أرباب التفسير أنّ رحلة الصيف كانت إلى الشام وأوّلها غزّة، ورحلة الشتاء كانت إلى اليمن.
وقد ارتبطت غزّة منذ أقدم العصور بصراع المسلمين الطويل مع الروم، ثمّ مع الصليبيين من بعدهم، بل إنّ مبدأ حرب المسلمين مع الروم كانت في غزّة. وحول هذا المعنى، ينقل المؤرّخ الدمشقي محمد كرد علي في كتابه "خطط الشام"، عن المصادر التاريخية الإسلامية، ما نصّه "وأوّل وقعة كانت بين العرب والروم بقرية من قرى غزّة يقال لها دائن (12هـ) كانت بينهم وبين بطريق غزّة فاقتتلوا فيها قتالًا شديدًا فهزم الروم، وتوجّه يزيد بن أبي سفيان في طلب ذلك البطريق، فبلغه أنّ بالعربة من أرض فلسطين جمعًا للروم، فأوقع بهم وقتل عظيمهم".

أشهرها رحلة ابن بطوطة
ذِكرُ غزّة لم يقتصر فقط على كتب الجغرافيين العرب والمسلمين، وإنّما كان حضورها في كتب الرحّالة العرب والمسلمين والغربيين منذ قديم الزمان، وحتّى القرن العشرين، عظيمًا. وقد أتى ذكرها في القرون الأربعة الأولى للإسلام عند جغرافيين ورحّالة عرب ومسلمين وأوروبيين، مثل أبو القاسم الكرخي الإصطخري، ومن بعده الرحّالة التاجر أبو القاسم محمد بن حوقل، الذي قال عنها: "غزّة بلدة متوسطة في العِظَم، ذات بساتين على ساحل البحر، وبها نخيل وكروم خصبة، بينها وبين البحر أكوام رمال تلي بساتينها، ولها قلعة صغيرة".
أمّا الرحّالة شمس الدين المقدسي، فقد ذكر أنّها "مدينة كبيرة، وبها جامع حسن، وفيها أثر عمر بن الخطاب". وقال عن مينائها: "ميماس على البحر حصينة"، وميماس هي أحد الأبواب الثمانية لواحدة من أقدم مدن العالم.

الجامع الكبير بغزة في أواخر القرن التاسع عشر 

ومن أشهر الرحلات إلى فلسطين وغزّة في القرن الثامن الهجري رحلة الرحّالة المغربي أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن إبراهيم الطنجي الشهير بابن بطوطة (وُلد عام 1304م في مدينة طنجة شمال المغرب من أسرة أمازيغية، وتوفي عام 1377م). نزل ابن بطوطة مصر في شهور عام 726هـ/ 1326م، وكان يهدف إلى الحج من الطريق التقليدية للمغاربة، حين صعد من النيل إلى صعيد مصر، ومنه اخترق الصحراء الشرقية في اتّجاه البحر الأحمر، ثمّ اضطّرّ إلى العودة شمالًا نحو القاهرة بسبب حروب وقعت بين البُجاة والمماليك الذين كانوا يحكمون مصر حينئذ، ثمّ انطلق منها إلى بلبيس في الشرقية فنزلها في شهر شعبان من ذلك العام، ثمّ عبر صحراء سيناء في اتّجاه الشمال نحو العريش، ومنها إلى غزّة، وهي كما يقول "أوّل بلاد الشام ممّا يلي مصر، مُتسعة الأقطار، كثيرة العمارة، حسنة الأسواق، بها المساجد العديدة ولا سور عليها".
وقد أُعجب ابن بطوطة بأكبر جوامع غزّة، "الذي تقام به الآن (في زمنه) الجمعة فيها، بناه الأمير المعظّم الجاولي (الوالي علم الدين سنجر الجاولي)، وهو أنيق البناء، مُحكم الصنعة، ومنبره من الرخام الأبيض، وقاضي غزّة هو بدر الدين السلختي الحوراني". ويبدو أنّ عائلة "آل سالم" كانت تتسنّم المكانة الثقافية العليا في غزّة المملوكية وقتذاك، ويحرص ابن بطوطة على ذكر أهم علمائها، فـ "مدرّسها علم الدين بن سالم، وبنو سالم كبراء هذه المدينة، ومنهم شمس الدين قاضي القدس".
ومن غزّة توجّه ابن بطوطة إلى الخليل؛ إذ شرع في رحلته نحو البحر الميت الذي أطلق عليه اسم "بحيرة لوط"، ووصف ملوحته الشديدة، مشيرًا إلى وجود مسجد يُدعى "مسجد اليقين" على تلّة مرتفعة بالقرب من البحر الميت.
وفي شتاء عام 1470م، زار الرحّالة الراهب الإيطالي فرانشيسكو سوريانو غزّة، وشهد هطول الأمطار الغزيرة، التي أدّت إلى انهيار نصف بيوتها المبنية من الطوب المصنوع من الطين والقشّ، ولاحظ أنّ البيوت التي لم تتهدم كان قد نما العشب في سقوفها وعلى جدرانها بفعل الحبوب الباقية في التبن.
وشبّه سوريانو حجم غزّة بحجم مدينة بيروجيا الإيطالية، ووصفها بأنّها "غنية ممتلئة بالسكّان، وتتوقّف فيها القوافل التي تتموّن بالحبوب التي تفيض بها غزّة".
وفي العهد العثماني، زارها السائح التركي أوليا جلبي، عام 1649م، وقال: "في المدينة 70 مسجدًا ذوو محاريب وفي 11 مسجدًا منها تقام صلاة الجمعة". وذكر أنّ في المدينة "200 سبيل ماء يرتوي من مائها العطشان".
وفي أواخر عام 1659م، زارها الرحّالة والتاجر الفرنسي لوران دارفيو، على رأس وفد تجاري فرنسي قَدِم إليها من صيدا. كان حسين باشا آل رضوان، حاكم غزّة، عائدًا من "حملة عسكرية لتأديب العربان الذين أغاروا على مدينة الرملة"، حسب وصف دارفيو، الذي انبهر بالحفاوة التي استقبل بها سكّان القرى أمير لواء غزّة حسين باشا. أقام دارفيو ورفاقه في غزّة ثمانية أيام، زاروا خلالها شتّى معالم المدينة، وأُعجب بعمران غزّة وازدهارها التجاري، وبأسواقها الحافلة بشتّى أنواع السلع والبضائع، كما بهرته مناطق الريف فيها قائلًا إنّه "ريف جميل وضاحك جدًا".
أطلق دارفيو على غزّة اسم عاصمة فلسطين، وتحدّث في مذكراته عن مكانتها كمحطة كبرى لموقعها المتميّز على طريق القوافل بين مصر والشام والحجاز، وثغور الشام الساحلية. حركيّة أدّت إلى تكدّس البضائع في أسواقها، والتوسّع الكبير في حركة الاستيراد والتصدير، ممّا أفاض على غزّة ثروة طائلة.
كما ذكر الرحّالة الفرنسي بأنّ حسين باشا يحافظ على غزّة بسلسلة من المتاريس والاستحكامات الترابية؛ التي ربّما كانت بقايا لأسوار قديمة، وقال: "إنّ في وسط المدينة قلعة لها برج متين، لعلها بتاريخها تعود إلى أيام الصليبيين، أمّا "دار الحكومة" فمن المحتمل أن تكون بقايا لقلعة رومانية قديمة".




وأُعجب دارفيو بسوق البازستان؛ الذي بُني في مدينة غزّة بأمر سلطاني موجّه سابقًا إلى أمير لواء غزّة أحمد باشا وقاضيها، بناء على شكوى من تجار الأقمشة ممّن كانت دكاكينهم آيلة للسقوط.
كما وصف دارفيو حياة الأبّهة التي كان حسين باشا يحياها في قصوره بغزّة، وقد أثار إعجابه بصفة خاصّة قصر "دار السعادة"، وقصر "الحبور" البحري في ميماس، والعربة الملكية التي كان يستقلها في شوارع غزّة، والتي كانت تجرّها ستة خيول على طريق معبّدة داخل المدينة وخارجها.
وفي عام 1785م، زار المستشرق والرحّالة الفرنسي الكونت قسطنطين فرانسوا فولني غزّة، ووصفها بأنّها تتألف من ثلاثة أحياء، في أحدها قلعة خربة يشغل قصر الآغا جانبًا منها. وقال: "إنّ الحرارة والجفاف فيها تشبه مناخ ريف مصر". كما ذكر المزروعات فيها، وذكر محصول البصل الذي كان يُصدّر إلى إسطنبول. وقال: "إنّ عدد سكّانها يُقدر بألفي نسمة، حتّى أنّ السكّان هم مصريون بقوامهم وعاداتهم ولهجتهم ولون بشرتهم، أكثر ممّا هم سوريون".

التشيكي كليمنت والدمشقي قساطلي في غزّة
من رحلات الأوروبيين، أيضًا، رحلة الرحّالة التشيكي فرانتيشيك كليمنت (1851م ـ 1933م)، التي قام بها في عام 1870م، انطلاقًا من جبل نبو ـ الواقع غربي الأردن اليوم ـ إلى غزّة، ووثقها في كتابه "فلسطين"، الصادر في العاصمة براغ عام 1895، وقد انطلق كليمنت في رحلته من جبل نبو إلى غزّة، وزار عسقلان.
وممّا يذكره عن رحلته إلى غزّة؛ "كانت مفاجأة كبيرة لأهل مدينة غزّة أن يروا أجنبيًا أشقر الشعر قادمًا إليهم من وسط هذه البلاد. الحياة في المدينة مطبوعة بالطابع المصري نتيجة ارتباطها الحيوي بذاك البلد. يمكننا ملاحظة ذلك في السوق التي تكرّرت زياراتنا لها، وهي سوق كبيرة جيدة التجهيز، تشبه بصورة كبيرة الأسواق المنتشرة في المدن المصرية". يضيف: "أوّل ما اشتريناه هناك بعض من تمور غزّة الشهيرة والممتازة ذات المذاق الرائع والحجم الكبير. يزودنا بائع الفاكهة بأنواع متعدّدة من التمور في مقابل المجيدية الفضية (ربع المجيدي). في غزّة، تمتلئ أيدينا بقطع النقد النحاسية التركية، ولا يمكننا أن نعرف إذا ما كانت كلّها تساوي نصف مجيدي، أو بشلكًا قصديريًا. مشكلة التعامل بالنقود المعدنية التركية فظيعة للغاية هنا...".



يتابع الرحّالة التشيكي قائلًا: "تقع غزّة اليوم (حينذاك) على ارتفاع 55 مترًا فوق مستوى سطح البحر، وأكبر عيب فيها هو أنّ الطريق الرملي غير المريح يستغرق ما يقرب من ثلاثة أرباع الساعة للوصول إلى الشاطئ. المدينة نفسها تعاني أكثر من غيرها نتيجة هذا الموقع غير السار، بحيث من المحتمل أن تظلّ مغلقة أمام الاتصال المباشر عن طريق البحر. وأجمل منظر للمدينة توفّره تلّة المقبرة، الواقعة على مسافة غير بعيدة إلى الجنوب الشرقي. من هناك تنكشف أمام العين أكثر المساحات الخضراء المظلّلة بالألوان، كأنّ المدينة تقع وسط حديقة ضخمة، يوجد فيها عدد كبير من المباني. مياه الينابيع هنا ممتازة وهي تتدفّق بغزارة، تبث الحياة في الأراضي المزروعة وتعطي ثمارًا رائعة".
وفي عام 1875م، زار الرحّالة والمؤرّخ الدمشقي نعمان قساطلي (1854 ـ 1920)م، غزّة ضمن بعثة آثارية تتبع صندوق استكشاف فلسطين، حيث عمل مع بعثة الملازم كوندر مترجمًا، ولكنّه استغل عمله وكتب مشاهداته في كتاب سماه "الروضة النعمانية في سياحة فلسطين وبعض البلدان الشامية".
وممّا يذكره الكاتب والباحث الفلسطيني تيسير خلف، صاحب "موسوعة رحلات العرب والمسلمين إلى فلسطين" (8 مجلّدات)، عن رحلة المؤرّخ الدمشقي أنه بعد أن اجتاز قساطلي ورفاقه من أعضاء البعثة الاستكشافية مدينة الخليل وريفها وصلوا إلى غزّة فنصبوا خيامهم على بعد خمس دقائق منها لجهة الغرب في بستان به أشجار قديمة من الزيتون.
يقول نعمان قساطلي، معرفًا بهذه المدينة الفلسطينية: "أمّا غزّة فهي مركز قائمقامية بلدان ذلك السهل، وهي آخر مدن الشام، وحولها عربان من جهة الشرق والجنوب، وهي تبعد عن بحر الروم نصف ساعة لجهة الشرق، وأهلها ستة عشر ألفًا من المسلمين، وثمانمائة من المسيحيين من طائفة الروم، ولهم كنيسة ومدرسة بسيطة يعلّمون فيها مبادئ اللغة العربية. والمسيحيون هم أحسن من غيرهم في أمر الترتيب وإتقان الأعمال. والمسلمون لهم جوامع كثيرة أشهرها الجامع الكبير، وهو كان كنيسة بنيت في أيام الدولة الصليبية، وله خمسة أبواب خارجية... والثاني جامع سيدنا هاشم، وموقعه في حارة الزيتون في الجانب الجنوبي الغربي من المدينة، وهو كبير وأعيد تجديده منذ نحو ثلاثين سنة، وجوامع أخرى صغيرة كثيرة لها ثلاث مسلات، فيكون مجموع المسلات أو المآذن في هذه المدينة خمسًا، الأولى مئذنة الجامع الكبير، والثانية مئذنة سيدنا هاشم، والثالثة مئذنة ابن مروان، والرابعة مئذنة المحكمة، والخامسة مئذنة ابن عثمان. وأسماء هذه المآذن بأسماء جوامعها، وبها حمامات وقهاوي غير جميلة، فلا حاجة إلى ذكرها".
ويتابع قساطلي، كما يذكر خلف، وصف غزّة بقوله: "أبنية هذه المدينة أكثرها من الحجارة الرملية، وأهمها حارة النصارى، ويوجد على بعد خمس دقائق من المدينة حارة منفصلة عنها ببساتين يسمّونها بحارة الشجاعيّة، وأكثر سكّانها فلاحون وبيوتهم من اللبن كبيوت الفلاحين، ويكثرون من التراب فوق الأسقف حتّى أنّه في أيام الربيع يكون فوقها رعي جيد للمواشي وقد شاهدت بعض خراف ترعى فوق تلك السطوح... وفي غزّة سوق فيه من أكثر أنواع البضائع، يحتوي على مائة وخمسين دكانًا ونيف، وهو ضيق وذو تفاريع كثيرة، وبعض هذه الفروع يحتوي على نحو عشرة دكاكين صُيّاغ، وفرع آخر يختصّ بالخياطين وبه نحو ثمانية دكاكين، والاثنان بجانب الجامع الكبير... وفي هذه المدينة بالجانب الشرقي حيثما يُنزَل إلى حارة الشجاعيّة قلعة للعساكر يسمّونها بالديوي، وبجانبها سراي الحكومة. وفي نصف الطريق بين حارة الشجاعيّة والسراي مقام شمشون الجبار، يقولون إنّه مدفون هناك، وأمامه تلّة مرتفعة فوقها مقبرة للمسلمين يقولون إنّ الهيكل كان هناك، وربّما كان هذا الشيء صحيحًا. وكلّ يوم صباحًا يصير سوق في المدينة، تأتيه نساء الفلاحين بما يرغبنّ في بيعه من محاصيل ودجاج وفواكه وما شاكل ذلك، وبعد الظهر يصير سوق نظيره في حارة الشجاعيّة".

أبرز مصادر ومراجع المقالة:
الكتب والموسوعات:
1 ــ أنيس صايغ، وأحمد مرعشلي، الموسوعة الفلسطينية، (القسم الأول ـ 4 مجلّدات)، [ج3: من حرف الصاد إلى الكاف]، إصدار هيئة الموسوعة الفلسطينية، دمشق، 1984م.
2 ــ عارف العارف، "تاريخ غزّة"، مطبعة دار الأيتام الإسلامية، القدس  ـ طبعة أولى 1943م.
3 ــ محمد كرد علي، "خطط الشام" (6 مجلّدات)، مكتبة النوري، دمشق ـ طبعة ثالثة 1983م.

المقالات:
1 ــ تيسير خلف، مقالة "نعمان قساطلي... من دمشق إلى غزّة"، موقع صحيفة "العربي الجديد"، بتاريخ: 31/08/2019م.
2 ــ عماد الدين رائف، مقالة "أجنبي أشقر في غزّة... كيف وصف كليمنت غزّة قبل 150 عامًا؟"، موقع قناة "الميادين"، تاريخ النشر: 16/11/2023م.
3 ــ فاطمة حافظ، مقالة "صفحات من تاريخ غزّة الأبية في كتابات المؤرّخين والجغرافيين المسلمين"، موقع صحيفة "أخبار الخليج"، بتاريخ: 10/20/ 2023م.
4 ــ محمد شعبان أيوب، مقالة "ابن بطوطة في فلسطين... أُعجب بغزّة وتذوق مربى نابلس وانبهر بالمسجد الأقصى!"، موقع "الجزيرة نت"، بتاريخ: 12/12/2023م.
5 ــ هيام البيطار، مقالة "ميماس على البحر"... غزّة بعيون الرحّالة!"، موقع "متراس"، بتاريخ: 03/07/2018م.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.