}

عاشَتْ العربية في غرْبتها (19)

دلال البزري دلال البزري 21 يناير 2024
استعادات عاشَتْ العربية في غرْبتها (19)
في المهرجان الثقافي السنوي بمدينة أصيلة في المغرب، 1990
تعريف:
عنوان هذا الكتاب، الذي ننشره على حلقات أسبوعية كل يوم أحد، تفصّله ثلاثة خيوط مختلفة:
ــ في الخيط الأول، يتكلم بصيغة الغائب المفرد. أي أنني أصف فيه محطات من حياة شخص، هو أنا: في إبحاري بالعربية، عبر أحداث سياسية ـ ثقافية.
ــ الخيط الثاني: أن العربية الراهنة ما زالت عائشة. ما زالت تقاوم من أجل البقاء، رغم تعثر أبنائها وإهمالهم لها. ويدعي هذا الكتاب بأنه ذرَّة في رمال إرادتها بالحياة.
ــ الخيط الأخير حماسي، يشبه صرخات التمنّي بالبقاء، مثل "يحيا الملك!" أو "يعيش الزعيم"! أقول "عاشت العربية!"، بمعنى أنني أتمنى لها البقاء، وتجاوز وحْشتها.

الوقائع المروية في هذا الكتاب كلها حقيقية، غير متخيّلة. وهي ناقصة بالتعريف. وأنا مسؤولة فقط عن صدقها.

القاهرة (1999 ـ 2009)
في البداية، خلال السنة الأولى من إقامتي في مصر، كانت التجربة مع هدى عبد الناصر، ابنة جمال عبد الناصر. كلمني عنها أحد الأصدقاء، وعن امتلاكها لأرشيف ضخم لوالدها، ولأوراق سرية صار ممكنًا الكشف عنها، ومشروعها بكتابة بيوغرافيا عنه، على يد أحد الباحثين.
ــ هل يهمك الأمر؟ هل ممكن أن تشتغلي لسنوات على هذا الأرشيف، وتكتبي سيرة عبد الناصر؟
ــ أكيد... من دون تردد.
هكذا ألتقي بالسيدة هدى عبد الناصر. لم يبالغ الصديق المشترك. ودودة، عذبة، طرحت عليّ أسئلة دقيقة مختلفة، عن خلفياتي، عن سبب إقامتي في مصر، عن تصوري للكتاب البيوغرافي، عن إمكانيات العمل... واتفقنا أن نعود فنلتقي. فكان صمتًا تامًا. لم تعاود الاتصال. ونسيت الموضوع. قيل لي بعد حين إن الدكتورة هدى لا تحبذ أن ينفذ هذا المشروع باحثون غير مصريين.
بعد تمويل "فورد فوندايشن" لكتابي الآنف، تكلفني مؤسسة "الإسكوا"، التابعة للأمم المتحدة، بكتابة تقرير استشاري عن معنى الديمقراطية التي يحملها مثقفون مصريون بارزون، على اختلاف ميولهم الفكرية. أستشير بعض معارفي، أسجل الأسماء المقترحة، وآخذ بقراءة أهم ما أصدره مثقفون مصريون من كتاب وناشطين، حول الديمقراطية. أختار أسماء إخوانية، يسارية، ليبرالية، مدنية، لم أوفّق بكل أصحابها. والذين ألتقي بهم، بعد قراءة كتاباتهم، أطرح عليهم السؤال: ماذا تعني الديمقراطية بالنسبة لكَ؟
والإجابات متشابهة، كلها مع الديمقراطية، وبعضها لافت وجديد عليّ.
واحدة لمحمود أمين العالم، الشيوعي المخضْرم، الذي يقول بأنه في عهد عبد الناصر شعر بالديمقراطية، وهو في السجن، وأنه لا يشعر بها الآن...
ــ كيف...؟ ألم تكونوا مضطهدين أيام عبد الناصر؟ ألم يدخلك السجن بسبب انتمائك إلى الحزب الشيوعي المصري؟
ــ بلى... بلى... ولكن وقتها كان لنا دور، ونحن في السجن كان لنا دور. هذا الدور تحديدًا هو الذي أقصده عندما أُثني على الديمقراطية في عهد الناصر... وعندما أخرجنا من السجن أعطانا دورًا آخر. أدخلنا في حزبه، "الاتحاد الاشتراكي العربي"، وسلّمَنا مناصب.
ــ وماذا فعلتم بحزبكم؟
ــ حلّيناه...
والإجابة الأخرى للنائب عصام العريان الأصغر منه بثلاثة عقود. من القيادات البارزة في تنظيم "الإخوان المسلمين"، وفي نقابة أطباء مصر. دخل السجن في عهدَي السادات ومبارك. وقبل عشرين سنة، خاض أول انتخابات برلمانية يشترك فيها "الإخوان"، في عهد الأخير، مبارك، ويترشح عنهم، إلى جانب آخرين من حزبه.
أثناء المقابلة، يبدو عصام العريان مؤمنًا بالمسار الديمقراطي الذي ينتهجه حزبه باشتراكه في الانتخابات البرلمانية. يركز على هذه النقطة، ويتجنب التطرق إلى "جوانب ديمقراطية" أخرى غير الانتخابات النيابية. ثقته قوية بالمستقبل، مرتاح مع الذين لا يحملون رأيه بالضرورة.
ــ ما الذي يجعلكم على هذه الدرجة من الثقة، وأنتم مضطرون للتحالف مع حزب "الوفد"، الليبرالي، بغية تشكيل لوائح "شرعية" في الانتخابات النيابية؟
ويأتي الجواب واضحًا:
ــ نحن نتحالف مع الحزب بوصفه قوة شرعية. فنحن لم ننل حتى الآن الاعتراف الرسمي بصفتنا حزبًا سياسيًا. ولكننا نملك قوة جماهيرية مؤثرة، قابلة للنمو، لم تبخل علينا بمقاعد البرلمان. قوة جماهيرية تتحالف مع قوة شرعية. نخوض بها معركة مزدوجة مع مبارك، نهادنه ونواجهه (اعتقل عصام العريان بعيد انقلاب عبد الفتاح السيسي على "الإخوان المسلمين"، في موقعة رابعة عام 2013. وحكم عليه بالسجن المؤبد. وتوفي وهو في داخله بعد ذلك بسبع سنوات).
الجميع يقول شعرًا عن الديمقراطية، وبعبارات أحيانًا متشابهة. والفرق في الأسلوب: القادم من مركز الدراسات الاستراتيجية التابع لـ"الأهرام"، التابعة بدورها للحكومة، مستقر ومطمئن، يحترم التراتبية المرئية وغير المرئية، كالسن، والموقع... مثل القادم من جامعة القاهرة، بمختلف كلياتها، حيث تتمركز الطاقات وتصب بموهوبيها إلى صحيفة الأهرام، أو مركز الدراسات التابع له، أو من تنظيم إسلامي قديم، "الإخوان"، المستند إلى كثرته وعراقته. هذا الاجماع على الديمقراطية بين المختلفين يوحي للروائي علاء الأسواني صيغته الشهيرة التي ينهي بها كل مقالاته الصحافية: "الديمقراطية هي الحل".




عدد من كبار المثقفين يسلك "طريقه الديمقراطي" بتبوء مناصب في مؤسسات الدولة الثقافية. وهي متوفّرة: مجالس الترجمة، والأعلى للثقافة (ذو الجوائز المختلفة)، والأعلى للجامعات، وللبحوث الاجتماعية والجنائية، ناهيك عن عمادة الكليات، مركز البحوث والدراسات السياسية في جامعة القاهرة.
أبرزهم، "أنجحهم"، اثنان: علي الدين هلال، أستاذ العلوم السياسية في جامعة القاهرة. بعد تولّيه رئاسة وإدارة أكثر من عشر هيئات ثقافية حكومية، ينضم هلال، في عهد حسني مبارك، إلى قيادة "الحزب الوطني" الحاكم، ويكلّف بأمانة "التدريب والتثقيف السياسي" في هذا الحزب. ويبلغ أعلى درجاته بتعيينه وزيرًا للشباب في العهد نفسه. الثاني جابر عصفور، أستاذ النقد الأدبي في جامعة القاهرة، ومدير عشرات أخرى من الهيئات، وأمين عام المجلس الأعلى للثقافة. وهذا الأخير، المجلس، مصدر سلطة هائلة، معنوية وعملية. بعد رحيلي من القاهرة، لم أفاجأ بتعيينه مرتين وزيرًا للثقافة: مرة أثناء الثورة المصرية، خلفًا لفاروق حسني، أي في نهاية عهد حسني مبارك. ومرة أخرى في عهد عبد الفتاح السيسي. وفي المرتين لمُدَد قصيرة. والاثنان، هلال وعصفور، يمتدحان الديمقراطية في كل مناسبة.
مصدر ديناميكية أخرى: قادم من الجامعة الأميركية، يدخل "سلك" الليبرالية، ينكب على المجتمع المدني، يدخل السجن أحيانًا، ويخرج منه قويًا صاحب منبر يناقش أزمة الأقليات التي لم تهضمها الحكومة. هذه هي حال سعد الدين إبراهيم، أستاذ علم الاجتماع في الجامعة الأميركية بالقاهرة، ومحرّر الكتاب الموصوف بـ"الموسوعي": "المجتمع والدولة في العالم العربي"، والذي يعده بعضهم مؤسسًا للحركة المصرية الحديثة للمجتمع المدني. حكم عليه بالسجن مرتين، والمرة الأخيرة لسبع سنوات، ثم لخمس وعشرين سنة. التهمة كانت "تلقي أموال من الخارج من دون إذن الحكومة، الإساءة إلى صورة مصر، والتجسس لصالح الولايات المتحدة الأميركية". جرت محاكمته بوجود مراقبين من السفارة الأميركية. ثم برأته المحكمة وخرج من السجن. ونشط على الأثر في مركز كان أسسه في الثمانينيات، وسماه "مركز ابن خلدون للدراسات الإنمائية"، يقع في جبل المقطم. دعيت إلى هذا المركز مرات، وسعد الدين إبراهيم كان يتألق فيه بدعابته وحيويته، بحيث كانت ندواته أقل الندوات إثارة للضجر، ونبرته عالية تجاه قضايا الأقليات، الأقباط خصوصًا. وهو موضوع لا تحب الحكومة الاستطالة فيه، ولا تسمية الأقباط بـ"الأقليات".
غير هذه الساحات الأربع، جامعة القاهرة، الجامعة الأميركية في القاهرة، صحيفة "الأهرام" القومية الحكومية، معها مجلات أخرى (أدبية، فنية، سياسية)، ومركز "الأهرام" البحثي، وتنظيم "الإخوان المسلمين"... غير هذه الساحات، إذًا، ثمة تجمعات، أو كيانات مختلفة، عملت أحيانًا في الجامعات والبحث والإخوان، ولكنها لم تكن في صميمها. وهي تقيم معها نوعًا من العلاقة الرخوة الغائمة، التي يحيلها القادم الجديد إلى ضباب النيل الموسمي، فيما هي بالواقع علاقة مفيدة متينة، يهنأ متوسّلها بالاعتراف والجوائز، أو الكتابة في الصحف والمجلات القومية، أو الوظيفة، أو التكليف، أو الدعوة لمؤتمر في الداخل، كما في الخارج...
هذه الأشياء جديدة علي، وقديمة أيضًا، تشبه ما في لبنان ولا تشبهه. ومن تلقاء نفسها، تُطرح عليّ المقارنة مع لبنان: بين المسارات الشخصية للكتاب والمثقفين المصريين واللبنانيين في مجالهم المهني. فماذا أجد؟
يبدأ المسار في جامعة القاهرة، ينتهي بها في "الأهرام"، مع مركزها البحثي. وإذا كان بدأ في الجامعة الأميركية في القاهرة، فينتهي بها أيضًا، ولكن مع رقابة تمارسها الدولة على موادها. هذا بالإجمال طبعًا. والاستثناءات ليست قليلة. ولكن معظمها يعود فينضوي تحت لواء الدولة، من دون المسّ بمضامين كتابته. مثلًا: عدد من الكتاب، تنويريين، يساريين، نقديين، ناصريين، صدّاميين، يذهبون بعيدًا في تعاطفهم مع أسامة بن لادن بعد عمليته الإرهابية في 11 سبتمبر/ أيلول على برجي التجارة العالميين في نيويورك، من دون أن يسجلوا هذا التأييد كتابةً.  يقابلهم كتاب أقل عددًا، مثل علي سالم، صاحب كتاب "رحلة إلى إسرائيل"، والمؤيد للسلام مع إسرائيل. ولكن الاثنين، المؤيد للسلام، أو لبن لادن، ينضويان تحت القانون. يسلكان طريقيهما المؤطَّرين بسياج الدولة، الخفية منها والمعلنة. وهذه الأخيرة تبدو كالأب المتسامح لشقاوة أبنائه، الذين يعرفون كيف يلزمون الحدود، وكيف يتجنبون المحرمات. ولإنجاح طريقهم، عليهم بالصعلكة. أن يتهندموا ويتكلموا ويتصرفوا وكأنهم بوهيميون فوضويون، شعراء "لا يفهمون"، لا يلاحظون ولا يحسبون. فيما هم في الواقع يلتهمون الفهم، بحكم العادة، أو المحيط، أو التقليد، أو بحكم المسعى نفسه لبلوغ موارد الدولة. وهذه الموارد، تبدأ بمنصب الوزارة، إلى رئاسة الجامعة، أو مجلة، أو قسم، أو مركز بحثي، ولا تنتهي بالترويج الإعلامي، والجوائز مختلفة الأسماء والدرجات، والحماية أو القبول بالوجود على قيد الوجاهة. التنافس يحصل ضمن هذه الحدود. وهذه الأخيرة توحي بالقدم والرسوخ، أي بنوع من الاستقرار، الذي يسمح بتشكل التقاليد.
الاستقرار هو السمة المصرية الأبرز، منذ انتهاء حروب مصر مع إسرائيل. وهذه الحروب لم تكن في الأصل مديدة. ومن بين الحروب الخمس التي خاضتها مصر، كانت الحرب العربية الإسرائيلية لعام 1948 هي الأطول. دامت سنة وبضعة أشهر. وأقصرها كانت حرب يونيو/ حزيران عام 1967، التي دامت ستة أيام. ومعهما حروب السويس، والاستنزاف، وحرب أكتوبر. وإذا جمعت كل أيام الحروب هذه تكون مصر قد حاربت لمدة سنتين وواحد وعشرين يومًا. ثم إنه ما عدا الغارات السريعة على العاصمة، والتي لم تأت بدمار، جزئي أو شامل، باستثناء بورسعيد، كانت كل الحروب تخاض بعيدًا عن القاهرة، وعن المدن الحضرية، وتقع إما على الحدود، أو في شبه جزيرة سيناء. ما يعني أن المصريين ينعمون بسلام تام منذ عام 1979، أي منذ ما يقارب نصف القرن. والدولة المصرية هي صاحبة القرار بالحرب أو السلم، كما هي صاحبة القرار في الميادين الأخرى، أي أنها "موجودة"، رغم كل ما يعتريها من شوائب.
أما لبنان، فبالعكس. يعيش حروبًا متوالية. كبيرة وصغيرة، باردة وساخنة، متقطعة ومتواصلة، أخوية، أهلية، شعبية... وطغيان للطوائف وانهيار الدولة، وقوانين عشوائية، وخطر دائم، وفوضى عارمة، وهروب وقنابل ورصاص وطرق مقطوعة واغتيالات وملاجىء وقطائع متواصلة، مع مكان، أو أهل، أو مهنة، أو رأي، أو ماضِ، أو وشيجة، أو صداقة، أو مؤسسة، أو محيط.
الذين ولدوا عشية الحرب الأهلية لم يعرفوا دولة، ولا سلامًا، ولا قانونًا. نصف قرن وهم يتعلمون معنى "الفينيق" اللبناني، الذي يولد من الرماد، وينهض وينتصر على النوائب. ومن أجل ذلك، عليهم أن "يتكيَّفوا"، أي أن يخترعوا ما يمكنهم من الطرق لمواصلة العيش، أن يتعلموا مواجهة المخاطر مختلفة الأشكال، أن لا يتكلوا إلا على أنفسهم، وإلا فعلى زعيم طائفتهم، الذي يطلب منهم في المقابل الولاء كاملًا، أي أنه ليعيش، عليه أن يدعم النظام الذي يقتل عيشه هذا. عليه أن يتعلم الجغرافيا جيدًا، ليس فقط لأن ثلاثة أرباع أهله المقربين موزعون في أنحاء الأرض، إنما أيضًا لأنه عليه في لحظة من اللحظات أن "يختار" القارة التي سوف يهرب إليها عندما تستنزف كل قدراته على "التكيف"، حتى لو كان من زبائنية الزعيم.

(يتبع...)

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.