هو فعلًا زمن آخر، وكأنه أصبح بعيدًا، وقد مضى إلى غير رجعة. عصر كان فيه الكتّاب يفردون مساحة ووقتًا فعليًا من حياتهم، ليتكاتبوا ويكملوا نقاشات تتسم – لن أقول بالعمق فقط– بل بهذه اللحظة الإنسانوية التي تجعلهم يقضون ساعات، وشهورًا وسنينًا، ليدبجوا كلامًا وأفكارًا ومحبة واحترامًا تجاه بعضهم البعض، بحثًا عن ضوء مليء بآمال كبيرة. بالتأكيد، لا أريد أن أكتب نوعا من حنين مع بداية هذه الأسطر، بل أرغب في هذه الإشارة إلى عصر نسي معنى الفن التراسلي، أو بالأحرى أدب المراسلات، الذي أجد بأنه لا يقل أهمية، عن كثير من أعمال شهيرة، ليصبح بدوره أدبًا قائمًا بذاته.
لذا أطرح السؤال: هل بعد عقود من اليوم، سنجد أدب مراسلات ينتمي إلى لحظتنا الراهنة؟ لا أجيد التكهن بالغيب طبعًا، ولكن يبدو لي أن عصرنا نسي ذلك، وهو الذي بالكاد يكتب كلمتين كرد على رسائل "الواتساب" السريعة، التي تختفي من على هواتفنا، بسبب ضيق مساحة ذاكرة هذا الهاتف، أو تلك الرسائل الإلكترونية التي قد تندثر من علبة بريدنا، فيما لو نسينا "الباسوورد" (كلمة المرور) ولم نعد نتذكرها، لنشكل عنوانًا بريديًا آخر، لنلغي بذلك، وبشكل نهائي، ذاكرة كانت حاضرة وأحاديث كان يمكن لها أن تقود إلى أعمال قد تضاهي ما نقرأه من رسائل تعود إلى أزمنة ماضية.
فكرة طرأت على بالي وأنا أقرأ مؤخرًا مراسلات هيرمان هيسه وتوماس مان الصادرة بترجمة عربية (عن دار الرافدين)، والتي تأخذنا، ليس فقط إلى هذه العلاقة بين اثنين من كبار كتّاب القرن العشرين، بل أيضًا إلى مسارات تاريخية وثقافية واجتماعية، ترسم لنا، فيما ترسمه، صورة حقيقية عن تلك الروح الإنسانوية التي نفتقدها. هي فعلًا رسائل أشبه بــ "إيكوغرافيا" لروح عصر، كان فيه الأدب يمثل خشبة خلاص لإنسانية تبحث عن معنى وجودها. هي أيضًا، كتابة تغور وتتقصى أرواح كائنات هائمة إزاء مشكلات وأفكار عالية وحروب غيّرت التاريخ والجغرافيا. من هنا، تبدو هذه الرسائل أكثر من مجرد شهادة على حقبة، بل هي محاولة فعلية، لإعادة الاعتبار للإنسان، أولًا وقبل أي شيء آخر.
***
حين بدأت تلك المراسلات بينهما، كان هيرمان هيسّه وتوماس مان لا يزالان شابين بعد، وإن كانت الشُهرة قد أدركتهما بالفعل، لكن كان من الواضح أيضًا أن كلّ واحد منهما كان موعودًا بمستقبل أدبي باهر. حدث ذاك اللقاء للمرة الأولى بينهما في أحد أيام عام 1904، في مدينة ميونيخ الألمانية، حيث التقى توماس مان (1875-1955) وهيرمان هيسه (1877-1962) ببعضهما البعض، إذ كانا قد حلّا ضيفين على ناشرهما إس. فيشر. بعد ذلك اللقاء، بسنوات عديدة، ولدت واحدة من أجمل وأعمق المراسلات التي يمكن لنا أن نقرأها بين أديبين كبيرين، شكل كل واحد، من جهته، عالمًا خاصًا، وجد امتداده في غير قارة ولغة كما عبر هذه المراسلات التي جاءت بينهما، في البداية، بشكل متباعد، لتصبح تباعًا مراسلات أكثر انتظامًا على مرّ السنين، ولم تنقطع إلا مع وفاة توماس مان في عام 1955.
يقدّم لنا الكتاب (الذي ترجمته عن الألمانية د. نجاة عيسى حسن) لأول مرة للقارئ العربي كامل الرسائل المحفوظة بالإضافة إلى عدد من الوثائق في الملحق، والتي، من خلال إلقاء الضوء على الخلفيات التاريخية أو الأيديولوجية أو الشخصية لهذه الرسائل، تسمح لنا بتقدير كلّ هذه القضايا المطروحة بدقة، بين الرجلين الكبيرين، بين هذين العملاقين، الواعيين بأن كلّ واحد منهما يمثل، بطريقته الخاصة، جزءًا كبيرًا مما يمكن أن يكون عليه التقليد الإنساني الألماني الثمين – لذا كيف لا يمكننا أن نستحضر هنا صداقة ومراسلات مشهورة أخرى، مثل تلك التي دارت بين غوته وشيلر (وغيرهما بالتأكيد)؟ – كي نرى الارتباط والتقدير يتعمقان مع ارتفاع المباني الشامخة لأعمالهما الموازية.
بالطبع، ثمة أشياء كثيرة يمكن لنا أن نقع عليها في هذا الكتاب: لنأخذ مثال الحرب (العالمية) التي شنّها جنون القرن ضد هذه القيم الإنسانية، ففيها وجد توماس مان وهيرمان هيسه نفسيهما، وبسرعة، على خط المواجهة، إذ أجبرتهما الأحداث، سواء شاءا أم أبيا، على اتخاذ موقف واضح منها، أي في أن يتخذا موضعًا لهما في هذا المسار الذي كان يرسم نفسه في تاريخ أوروبا والعالم. فما بين هيسه، الذي استقال عام 1930 من قسم الأدب في الأكاديمية البروسية للفنون، وتوماس مان، الذي حثه عام 1931 على أن يترشح مجدّدًا لكي يعاد انتخابه هناك، بين من كان يرفض في تعنّت مستمر الانحياز إلى معسكر واحد وبين والآخر الذي أظهر أخيرًا، في عام 1936، وبدون مماطلة، تضامنًا غير متحفظ مع الهجرة الألمانية؛ أمام هذين الأمرين، نجدنا في الواقع أمام مفهومين لدور الكاتب، أمام مهمة المثقف الذي غالبًا ما يتعارض مع بعضهما البعض، ولكنهما يجتمعان أيضًا في بعض الأحيان، من حيث الحكم القاسي الذي فرضه كلاهما على ألمانيا الغربية بعد عام 1945. من دون شك، إن قراءة هذا الجانب من الحوار، عبر الرسائل المتبادلة بين هيرمان هيسه وتوماس مان، سوف يجذب انتباه قارئ اليوم، على الأقل بكونه يقدّم لنا توضيحات عميقة ومهمة حول تلك الأفكار التي كانت تعمل في قلب كل واحد منهما.
كان هذان الكاتبان، اللذان حازا جائزة نوبل للآداب، يكنّان إعجابًا حقيقيًا ببعضهما البعض، بسبب الخيارات والمسارات التي كانت قربتهما أكثر فأكثر، الواحد تجاه الآخر. صحيح أن هيسه سبق مان في القطيعة مع بلده الأم، ألمانيا، إلا أن هذا الأخير عاد لاحقًا وقطع حبل السرة(*) الذي كان يربطه ببلده بسبب وصول هتلر إلى السلطة. بهذا المعنى، تتيح لنا هذه الرسائل بأن نرى ونفهم مسارات رحلاتهما المتباعدة – المتقاربة في الوقت عينه، من دون أن يندمجا في طريق واحد؛ هي مسارات لم تتوقف أبدًا عن المشاركة في تأكيد النزعة الإنسانية التي دانت جميع أشكال الهمجية، ولا سيما تلك التي اعتمدها النازيون. لقد جسّد كل واحد منهما، وعلى طريقته الخاصة، التقاليد والثقافة الجرمانية، الأمر الذي جعلهما يتألقان، على الرغم من الظلام الذي أغرق فيه الرايخ الثالث هتلر ألمانيا ثم أوروبا في الفترة من عام 1933 إلى عام 1945.
تكشف لنا هذه المراسلات أيضًا عن التقدير الكبير الذي يكنّه كل كاتب لعمل الآخر – الأدبي بالطبع – كما للشخص، بشكل متوال، على الرغم من وقوعنا على بعض المقاطع (وهي عديدة بمعنى ما) التي ينخرطان فيها في تبادل المجاملات، والتي يتم الاتفاق عليها أحيانًا، إلا أنهما يناقشان بشكل أساسي اهتماماتهما الخاصة ويتعرّفان على التقدّم المحرز في عملهما الأدبي ومقالاتهما. كانا يضعان نفسيهما على القمة ويعتبران أنهما، من دون أدنى شك، الممثلان العظيمان لهذه الثقافة الإنسانية الألمانية، حتى لو تبادرت إلى ذهننا أسماء أخرى كانت تحيا وتعمل وتكتب في تلك الفترة.
ما يجذبنا أيضًا في هذه المراسلات، جمال أسلوبهما وبراعته، كما لو أننا نستشف من خلال الكتابة بأن هناك قرابة معينة تجمع بينهما، على الرغم من تمكننا، أيضًا، التمييز بين السمات الخاصة لكل كاتب على انفراد. لا بدّ أن شيئًا آخر جمعهما معًا، وهو خيارهما البقاء في سويسرا، ومواصلة الانغماس في عالم ومكان يستمعان فيها إلى لغتهما الأم: اللغة الألمانية؛ لقد أمضى هيسه سنواته الأخيرة في كانتون تيتشينو، أما مان فقد بقي على ضفاف بحيرة زيوريخ، بعد أن عاد من الولايات المتحدة التي رحل إليها في الفترة النازية. أي بمعنى آخر، لقد اختارا أن ينهيا ما تبقى لهما من حياة في هذا "الاتحاد السويسري".
***
حين بدأت هذه المراسلات، لم يكن الكاتبان على صداقة حميمة، إلا أن ما جمعهما بعمق هذا الاحترام المتبادل. أضف إلى ذلك تلك اللحظة التاريخية القاسية: لقد جعلتهما الحرب العالمية الثانية أقرب إلى بعضهما البعض. لذا تبدو رسائلهما، أولًا وقبل أي شيء آخر، هي رحلة هذه الصداقة التي نشأت بين اثنين من الكتّاب الإنسانيين. رحلة بدأت من فترة الشباب، لتنتهي مع التقدم في السن. لذلك، لا معنى هنا لنبحث فقط عن البلد واللغة والثقافة، بل عن هذه اللحظة الإنسانية التي جعلت منهما اثنين من أعظم كتّاب القرن العشرين.
وكأن ثمة "مواجهة" أيضًا في هذه الرسائل: لا يتوقف هيرمان هيسه عن الحديث عن عزلته وابتعاده، وكأنه وجد في ذلك أنه ذهب إلى الخيار الصائب (برغم أن بقاءه في سويسرا لم يكن مجانيًا، إذ اعتنى بالمهاجرين وقد أكسبته نزعته "السياسية" كراهية الناشطين من جميع الأطراف، كما فعلت نزعته السلمية في عام 1914)؛ بينما يبدو توماس مان رجلًا عامًا أكثر، انخرط في لحظته التاريخية، لدرجة أنه وبخ زميله لبعض الوقت، لأنه لم يتدخل بشكل أكبر في مجرى الأحداث، على الرغم من أنه عاد واعترف في إحدى رسائله بأن هيسه ربما كان محقًا في ذلك لأنه "رأى الأمور بشكل أفضل".
لقد ارتبط هيسه ومان بفهم أدبي هائل. ابتهج مان بالتقارب الذي ما بين "لعبة الكريات الزجاجية" (رواية هيسه) وبين روايته "الدكتور فاوستس" (كذلك يستشهد بــ "ذئب السهوب" في جوزيف وإخوته). لقد كتبا بسعادة عن بعضهما البعض في الصحافة عندما كانت تحين فرصة ما. لقد كتب مان، بمناسبة الذكرى السبعين لميلاد هيسه قائلًا: "إن مساراتنا نفسها بالتأكيد متميزة للغاية، فنحن نتقدم على مسافة جيدة من بعضنا البعض على أراضي الروح، ومع ذلك[...]، فنحن نسافر بطريقة معينة كرفاق وإخوة – ومن الأفضل أن أقول زملاء، حتى لا أشير إلى الكثير من الألفة". لم تكن الألفة إذًا نقطة قوتهما، وحتى أيامهما الأخيرة، إلا في استثناءات نادرة، لذلك بقيت رسائلهما تبدأ: "عزيزي السيد هيسه"، "عزيزي السيد توماس مان". لكن في العمق، ثمة أخوة جمعت بينهما وتطورت وبخاصة "عندما تراكم الموتى" من حولهما. لقد أتى الزمن الذي أصيبا فيه بالشيخوخة. ربما في هذه اللحظة، تبدأ علاقتهما الحميمة الأعظم بينهما. يقول هيسه في رسالة تعود إلى عام 1949، بعد انتحار كلاوس مان، ابن توماس: "اعتدنا، نحن كبار السن، على رؤية الأصدقاء ورفاق السفر يختفون من حولنا، ولكن فقدان أحد أحبائنا في الجيل الذي كان سيحل محلنا بعد رحيلنا، الذي كان سيغطي ظهورنا من الصمت الأبدي المتجمّد، فيه شيء مخيف يصعب علينا الاعتراف به". وفي رسالة أخرى تعود إلى عام 1950، بعد وفاة هاينريتش مان، شقيق توماس: "بينما يختفي الجميع بهذه الطريقة، شيئًا فشيئًا، وينتهي بنا الأمر بأن يكون لدينا العديد من الأقارب والمقرّبين هناك أكثر من هنا، نحن أنفسنا نصبح فضوليين بشكل غير محسوس بشأن ذلك الــ "هناك" وننسى الخوف الذي يشعر به أولئك الذين ما زالوا محاطين بجدران صلبة". ربما في ذلك كان هيسه يستحضر "أنانيته" التي تجعله يتمنى أن يعيش مان لفترة طويلة: "يقويني أن أعرف أنك لا تزال هناك، ويمكن الوصول إليك". في عيد ميلاد مان الخامس والسبعين، كتب هيسه مرة أخرى: "ابق معنا لفترة طويلة، عزيزي توماس مان! أحييكم وأشكركم، ليس كممثل لأمة، بل كرجل واحد، وطنه الحقيقي، مثل وطنكم، بدأ للتو في الولادة". ويجيب توماس مان، في رسالة تعود إلى عام 1950: "كيف حالك يا عزيزي السيد هيسه؟ هل ثبت أن هواء القمم مفيد فيما بعد؟ كثيرًا ما نتحدث عنك، وعن رسائلك، وعن موقفك المثالي وسط ارتباك عالم اليوم، وفي وسط كل هذا الضيق، يريحني الاعتقاد بأنني معاصر لك".
ثمة ثراء فعلي في قراءة هذه المراسلات التي نكتشفها. لذا هل ستشعر الأجيال المقبلة بندم ما، لأن الكتّاب توقفوا عن التعبير عن هذه العواطف الإنسانية، حين توقفوا عن التراسل فيما بينهم؟ قلت قبل قليل "لا يمكن لأحد أن يتكهن بالغيب".
(*) يمكن العودة إلى الرسالة التي كتبها توماس مان إلى عميد كلية الفلسفة في جامعة بون والتي قمت بترجمتها ونُشرت في "ضفة ثالثة" يوم 3 تشرين الأول/ أكتوبر من العام الحالي، حيث حملت عنوان "فكرة الاستعداد للحرب تتسبّب بالتضحية بالحرية والعدالة والسعادة الإنسانية".