}

بهاء الدين الطود روائيًا

نبيل سليمان 15 فبراير 2024
استعادات بهاء الدين الطود روائيًا
بهاء الدين الطود (1946 ـ 2023)

"جميلةً كانت تلك الأيام"...
كتب بهاء في درّته الروائية "البعيدون". وفي "البعيدون" كتب أيضًا: "كنا نحسّ أن لنا أجنحةً نرتفع فيها إلى ما فوق السحاب".
هكذا كنا كلما جمعتنا القاهرة، بهاء ورجاء، جابر عصفور، وهالة فؤاد، ونعمت خالد، ومن أيضًا؟
غاب جابر، وغاب بهاء، ونأت الدروب بالآخرين والأخريات، ولم يبق إلا أطياف النيل والسماء المرصعة والقاعات التي تشعّ بالصداقات والأبحاث والشهادات والحوارات والضحكات، وبالنميمة أيضًا.
الآن أراهما وأسمعهما من غيابهما: صوت جابر النديّ يبادر بهاء في ذلك الصباح، وقد قرأ مخطوطة "البعيدون" ليلًا: أنتَ كتبت رواية لم يكتب المغاربة مثلها.
كان ذلك عشية صدور الرواية عام 1990. وقد قيل: هذا حكم الصداقة، لا النقد. وقيل: بل هو حكم النقد فيما كانت عليه الرواية المغربية في تلك الأيام. ومهما يكن، أراهما الآن في غيابهما: بهاء يكنز اعتزازه بشهادة جابر، ويعدّ ما ناف على الأربعين من السنين قبل أن يكتب "البعيدون"، ويقلّب النظر والوجد بين الصحافة والقانون والجامعة واللغة الإسبانية واللغة الفرنسية ومكتب المحاماة وحلبات المحاكم والأسفار والحب والغناء والموسيقى... ومثل من فتنتهم "البعيدون" انتظرت عشرين سنة قبل أن يرمي بهاء الطود بمفاجأته الثانية: "أبو حيان التوحيدي في طنجة".
بين المفاجأتين عشرون سنة، لماذا؟ لأنها الرواية المحككة، لأنه تحكيكُ الرواية، وبهاء الدين الطود يستشهد بأرنست همنغواي الذي كتب روايته "وداعًا للسلاح" تسعًا وثلاثين مرة. بهاء يذكرنا بقولة للحطيئة: "خير الشعر الحوليّ المحكك"، وبقولة للجاحظ أن من الشعراء ـ لماذا لا نضيف: من الكتّاب؟ ـ من يميثون (يلينون) مهمات الأمور في صدورهم، "فإذا قومّها الثقاف، وأدخل الكير، وقام على الخلاص، أبرزوه محككًا منقحًا ومصفى من الأدناس مهذبًا". وإذا كان ثمة من يرى ذلك تكلّفًا ـ ابن قتيبة مثلًا ـ فمن المحككين الشعراء والكتّاب من له أيضًا نعماء المطبوعين، وأحسب أن الروائي بهاء الطود هو من أولاء. وها هو بهاء الطود يفيض دفئًا وثقافة وأنسًا في بيت جابر عصفور، أو في غرفته، أو في غرفتي في شيراتون الجزيرة، على مشهد من النيل، ومن رواية "البعيدون" يحدو لسهرنا صوت: "كل ليلة لا تكتمل إلا بطريقة مختلفة عما سبقها". أليس هذا هو شأننا بعد غياب بهاء، ومتى؟ بعد عشرة أيام من طوفان الأقصى؟
ولكن لماذا جاء بهاء بذلك الورّاق الذي تلقّب بنوع من التمر هو (التوحيدي)، والذي يذكّرنا بالجاحظ الوراق، وسهيل إدريس الناشر، و... إلى زمننا بعدما طوى القرون فارًّا مما جرّ عليه كتابه "مثالب الوزيرين"؟
أبو حيان التوحيدي الذي وصفه ابن الجوزي بالضلال والزندقة، ووصفه الذهبي الدمشقي بالضال الملحد، ووصفه ابن حجر العسقلاني بأنه صاحب زندقة وانحلال، في رواية بهاء الطود الثانية "أبو حيان التوحيدي في طنجة" يُبعث الرجل حيًا بعد قرون، وهو الذي ولد في بغداد سنة 923م، وتوفي في شيراز سنة 1023م، ولُقِب بأديب الفلاسفة وفيلسوف الأدباء، وأورثنا "الإمتاع والمؤانسة"، و"المقابسات"، و"البصائر والذخائر"، و"الصداقة والصديق"، و"الإشارات الإلهية"، و"تقريظ الجاحظ"، و"مثالب الوزيرين"، مثلما أورثنا الفجيعة على ما حرق هو نفسه من كتبه.





حالمًا بلقاء حبيبته نهاوند، خرج أبو حيان من كهف الألف سنة قاصدًا الأندلس التي كانت عربيةً إسلاميةً في آخر عهده بها. وأُلقي القبض عليه في العدوة الأندلسية، وتم تسليمه إلى شرطة الباخرة التي هالته عملقتها. وراعه أن كل شيء قد تبدل من عصره إلى عصرنا، فلا الناس هم الناس، ولا الأماكن هي الأماكن، ولا الروائح ولا الكلمات ولا الإشارات: "وكلّ ما ألفته حواسي اختفى واندثر وحل مكانه الهلام".
ها هم الرجال قد قصوا شعر رؤوسهم، وحلقوا اللحى والشوارب. وها هنّ النساء قد كشفن عن مفاتنهنّ، والرجل الغريب المشدوه المقبوض عليه تضطرم دخيلته ويأكله الرعب. ولن يجديه أن يقول للمحقق أنه مهاجر ينشد المعرفة والحكمة، فالهجرة السرية تقضّ المضاجع الأوروبية بعامة. ولذلك قبضت السلطات الأمنية الإسبانية على التوحيدي المسكون بأخيلة تجمعه مع الحبيبة نهاوند، وأين؟ في حدائق العريف في غرناطة!
تسلم السلطات الأمنية الإسبانية هذا المشبوه إلى السلطات المغربية، فنراه في فندق فخم على شاطئ طنجة، مدينة ابن بطوطة، وتينيسى وليامز، وبول بولز، وصموئيل بيكيت، وألبرتو مورافيا، وجان جينيه، وأفواج الفنانين. إنها المدينة الكوسمبوليتية بامتياز، مدينة الروائي المغربي الشهير محمد شكري، الذي تستدعيه الشرطة، ويلتقي التوحيدي، فيحرضه على الهرب من فخامة الفندق إلى مقاهي المثقفين. وكان وزير العدل قد التقى التوحيدي، فجسد حوارهما الاستقطاب المزمن بين المثقف والسلطة.
تتمحور الرواية في شطرها الثاني على الحوارات المسهبة بين المثقفين في مختلف القضايا الراهنة، ابتداءً بالحوار الثري والعميق بين محمد شكري والتوحيدي. ويتضح بقوة كيف جاء هذا الشطر من الرواية نهزةً للروائي كي يرسل آراءه. وإذا كان ذلك يبدو مُبهظًا للرواية، فالأهم هو ما اتقد فيها من التخييل، كمعرفة الكاتب بما حرق التوحيدي، ومثل مداورة سورة الكهف، ويقظة الميت بعد زمن طويل، وأطول من موته.
لقد جعل التخييل في هذه الرواية وسمًا جديدًا للرواية التاريخية، عندما تستحضر شخصية من عصر إلى عصر، وبالضبط: إلى عصرنا. وتحضرني هنا الرواية البالغة التميز في هذا اللعب الروائي: رواية اليمني حبيب عبد الرب سروري "تقرير الهدهد"، حيث جاء بأبي العلاء المعري إلينا: الآن وهنا.
بالعودة إلى باكورة بهاء الدين الطود "البعيدون" التي كرسته روائيًا ذا شأن، أحسب أن ذلك كان بفضل ما توفّر لها من المقومات الفنية، من التخييل الذاتي الآسر، إلى التفاعل السردي التشكيلي والموسيقي، إلى رسوم الفضاءات المترامية بين مدريد ولندن، بأحيائها وساحاتها ومكتباتها وحدائقها ومتاحفها، وأولًا وأخيرًا: بشرها، حيث يتحقق لإشكالية وعي الذات والآخر ـ بالأحرى: وعي الذات والعالم ـ لبوس فني مميز.
تحمل الشخصية المحورية في الرواية ظلال الكاتب، مما يحمّلها ظلالًا سيرية. فالراوي طالب يدرس في مدريد، ولا تسمّيه الرواية. وفي فاتحتها في مطعم للينكو يحضر مع صديقه إدريس الذي سيغادر إلى لندن بعد الافتراق عن الحبيبة بيلار. وستنطوي ثلاثون سنة قبل أن يلتقي الصديقان ثانية، إذ ينقل خوصي عباد ـ الصديق المشترك للراوي وإدريس ـ أن المختفي يعمل في مجلة "فواصل" الشهرية في لندن، فيلحق به الراوي الذي يسلمه إدريس مذكراته الشخصية. وفي قراءة الراوي للمخطوط تقوم اللعبة الروائية التي ذكّرت كثيرين بلعبة طه حسين في روايته "أديب".
تنقل المذكرات ما عاناه صاحبها من العنصرية والجوع والتشرد والاعتداء والاستغلال في لندن، إلى أن عمل في المجلة التي تغرد للصهيونية، فصاحبها جاكوب كورت يهودي صهيوني. وإدريس يتعلق بإيستر ابنة أخت جاكوب، ويتزوجان، ويرزقان ببنت سيحرم أبوها منها. وترسم الرواية بحذق تطور شخصية إدريس الذي لم يكن نهمه الجنسيّ ليشبع إلى أن استقر مع إيستر. وهنا يكون لعلاقته بالهولندية المتخصصة بالأدب الإنكليزي كريستيان أهميتها.
من عهد إدريس والراوي كان لقاؤهما بلوليتا الغجرية المغنية التي تبدع في الموال الأندلسي، وستكون لها قصتها الفرعية، وتعترف فيها أنها ابنة غير شرعية لمغربي خدم في جيش فرانكو، وحملت أمها منه، ورفض أن يبدل دينه ويعتنق المسيحية...
وإذ تمضي الرواية إلى ختامها، تنتقل فجأة إلى مقهى غرناطة في مسقط رأس بهاء الدين الطود، ومسقط رأس الراوي: القصر الكبير، ويظهر إدريس في حالة مزرية. وبينما تفوح من مقهى بلاتا رائحة مثل رائحة البخور في حجرة ميت، ستفوح هذه الرائحة من حجرة في ضريح، حيث إدريس مسجى على حصير، وكان قد عُثر عليه ميتًا بين مخلفات مياه باب الواد.
تتألق الرواية في تصوير هذه النهاية الفاجعة لإدريس، كما تتألق في تصوير إحساس الكاتب بالغربة، وفي تفعيل الموسيقى في الرواية، حيث الراوي مسكون بالطرب الأندلسي، كما سيصير مسكونًا بالموسيقى الكلاسيكية الأوروبية، وبالأسئلة الكاوية عن وعي الذات والعالم. ولأن بهاء رحل في اليوم العاشر لطوفان الأقصى، أراني أعانق هذه الرواية، مثلما أعانق "أبو حيان التوحيدي في طنجة". فحين يرحل كاتب مميز، عدا عن أنه صديق، ليس لنا سوى مثل هذا العناق لأثمن ما ترك: كتبه.

مقالات اخرى للكاتب

استعادات
15 أبريل 2024
يوميات
31 مارس 2024
آراء
15 مارس 2024
آراء
1 مارس 2024

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.