}

عصام ترشحاني: ثابر على الوفاء للشعر

راسم المدهون 8 فبراير 2024
استعادات عصام ترشحاني: ثابر على الوفاء للشعر
عصام ترشحاني


استعادة سيرة الشاعر الفلسطيني عصام ترشحاني الذي رحل أخيرًا، تذهب بك إلى ترشيحا في فلسطين حيث ولادته هناك عام 1944 فيما تأخذك معرفتك المباشرة به إلى سورية وهو الذي عاش حياته كلها في حلب "عاصمة الثقافة الإسلامية" في أحد وجوهها وعاصمة الفن والغناء والموسيقى وعبقرية التنوع في الأطعمة والمأكولات الذي يقنعك حقا أن الطعام وجه أساس في حضارات الأمم والشعوب.

هناك قول شائع ولو أنه غير حقيقي يقول إن حلب أخذت براعتها في إعداد مأكولاتها من جارتها الشمالية تركيا، فيما الحقيقة تؤكد أن العكس هو الصحيح، حيث حلب الشهباء هي من علَمت الجارة الشمالية ليس الأطعمة وفنون الطبخ وحسب ولكن أيضًا الموسيقى والغناء. لمَ لا وهي حلب، أم القدود، التي قيل إنها بدأت في "حمص العدية" وانتشرت شمالًا في حلب.

في تلك المدينة الشاهقة في التاريخ وفي الوعي معًا عاش الراحل عصام ترشحاني مناخات الثقافة والأدب والشعر بالذات. عرفته منذ أوائل السبعينيات واحدًا ممن كنا نسميهم "شعراء فلسطينيين حلبيين" ومنهم محمود علي السعيد وعادل أديب أغا ويوسف طافش ونظيم أبو حسان وهم في الذاكرة "نفر من الأصدقاء الألداء" كما كنا نمازحهم، إذ وضعهم "المكان الواحد" في حيّز محدد جعلهم في كثير من أوقاتهم في حالة نقاش دائم لا يخلو أحيانًا كثيرة من "منافسات أهل الكار". مع ذلك كان عصام ترشحاني أقلهم "توترًا" فقد حرص طيلة حياته على الاتكاء على قصيدته، أو بالأدق على ولعه بالشعر على نحو جعله ليس الأكثر غزارة وحسب، ولكن – وهذا هو الأهم – أكثر فرادة في لغته الشعرية والأقرب إلى حضور الشعر في حياته كقيمة أساسية تشير إليه كشخص ظل طيلة الوقت يبحث عن حلمه الشعري ويؤثثه بما في الجمال من رونق وبما في الأناقة من تناغم مع الحلم الذي يأتي ويذهب ولكنه يظل حاضرًا.

قرأت عصام ترشحاني الشاعر منذ أواسط السبعينيات وتوقفت طويلًا، ولم أزل أفعل، أمام مجموعته الشعرية الأهم في تقديري "وكان ذاهبًا في العذوبة" (1982) حيث توحدت بساطة اللغة ووضوحها الذي يراوغ المباشرة ولا يركن لها أو يستسلم لسهولتها، إذ ذهبت قصائدها إلى المخيلة الجامحة، وإن تكن المضمخة بصور الحياة اليومية في تجلياتها الأجمل حيث الفكرة ترتبط ارتباطًا وطيدًا بالصورة وتذهبان معا إلى تأسيس مشهد أقول إنه ظل دائمًا هو روح ترشحاني الشعرية و"سلاحه" الفني الذي يواجه به العالم والحياة. هو بهذا المعنى أقرب لشعراء قصيدة النشيد الهامس، التي تلوب في جمالياتها ولا تتخلى عن قوام الجمال والتجدد.

سنوات طويلة مرت منذ رأيته آخر مرة، فقد حالت الأحداث الدامية في سورية دون لقائنا هو المقيم في حلب شمالًا وأنا الذي أعيش في أقصى الجنوب السوري في درعا، وأتذكر أن آخر لقاء بيننا كان في "فندق السياحة" في حلب وهو اللقاء الذي جمعني بـ"شعراء حلب الفلسطينيين" ومعهم الكاتب الحلبي نهاد سيريس الذي دعانا إلى عشاء في "مطعم العندليب" في المساء ذاته والتي تعود ذكراها اليوم مع خبر رحيل عصام ترشحاني.

ذائقة عصام ترشحاني الشعرية قادته إلى خيارات تبحر في العاطفة الإنسانية التي تقف بين حدّي الوطن والمرأة، فهي لا تذهب إلى التماهي بين مفردة الوطن والمرأة، ولكنها لا تبتعد "تمامًا". وأعني هنا أنه في سياقات الشعرية كلها ظل مشدودًا إلى عشق مفتوح على الغامض الذي يعرفه القارئ، والواضح الذي يتكلل وضوحه بما يخفي الرمز ويشير إليه، وفي هذه الرؤية الشعرية بالذات سافر شعره طويلًا وكثيرًا في الأقانيم كلها فاستحضر من فضاءاتها جمال العثور على دفء الحياة وعلى آمال كبرى لها صلاتها العميقة بالفلسطيني الفرد، المغترب والباحث طيلة العمر عن وجوده وكيانيته وعن الديار الأولى بالذات. حضور فلسطين في تجربة عصام ترشحاني الشعرية أقرب إلى حضور إرث جمالي شخصي يمتلكه الشاعر، ولكنه بقليل من التأمل يمتلك الشاعر ويوجه بصره وبصيرته معًا نحو تلك البلاد التي غادرها أهلها بالحديد والنار، ولم تزل أقدامهم وأحلامهم تغذ الخطى في اتجاهها رغم كل الصعاب والإحباط، وترشحاني خلال ذلك شاعر يطلق صوته الفردي في اتجاه الوطن فنراه يتنكب عن ضجيج "الخطاب الشعري" ومنبريته ويلوذ بما ينحاز للروح وكأنه يرى الوطن ذاته في تلك الصورة الشفيفة والمضمخة بكل الإرث العاطفي والإنساني، الفردي والمفتوح على وجع الروح كما على تأملاتها وأحلامها وبالذات على استعصائها على اليأس والذبول.

غياب الشاعر عصام ترشحاني خسارة كبرى للشعر الفلسطيني وللحياة الثقافية الفلسطينية وبالذات في هذه المرحلة الصعبة. هو الذي ظل العمر كله أحد المثابرين على الوفاء للشعر وقيمة ما يحمله من فنيات وجمال، فارتفع به ومعه وتجنّب المألوف السائد وانخرط في كتابة قصيدة تذهب "نحو العذوبة"، كما اختار أن يطلق على إحدى أهم مجموعاته الشعرية فحقق حضوره الجميل، وظل حاضرًا وقد غاب آخرون.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.