}

عاشَتْ العربية في غرْبتها (26)

دلال البزري دلال البزري 10 مارس 2024
استعادات عاشَتْ العربية في غرْبتها (26)
دلال البزري
تعريف:
عنوان هذا الكتاب، الذي ننشره على حلقات أسبوعية كل يوم أحد، تفصّله ثلاثة خيوط مختلفة:
ــ في الخيط الأول، يتكلم بصيغة الغائب المفرد، أي أنني أصف فيه محطات من حياة شخص، هو أنا: في إبحاري بالعربية، عبر أحداث سياسية ـ ثقافية.
ــ الخيط الثاني: أن العربية الراهنة ما زالت عائشة، ما زالت تقاوم من أجل البقاء، رغم تعثر أبنائها وإهمالهم لها. ويدعي هذا الكتاب بأنه ذرَّة في رمال إرادتها بالحياة.
ــ الخيط الأخير حماسي، يشبه صرخات التمنّي بالبقاء، مثل "يحيا الملك!"، أو "يعيش الزعيم"! أقول "عاشت العربية!"، بمعنى أنني أتمنى لها البقاء، وتجاوز وحْشتها.

الوقائع المروية في هذا الكتاب كلها حقيقية، غير متخيّلة. وهي ناقصة بالتعريف. وأنا مسؤولة فقط عن صدقها.

العودة إلى بيروت (2009 ـ 2020)

العمل، العمل مرة أخرى...
أول كتاب أؤلفه بعد عودتي من مصر هو "مصر التي في خاطري". فما إن استقريت في بيروت حتى أخذت مصر تلحّ عليّ، متقطعة. كأنها تنتظر ابتعادي عنها لكي تنتصب، هكذا، على امتداد الأيام. على دفتر سميته "الملاحظات"، صرت أسجل صوتها، صورتها، وجوهها وضوؤها... كأن حمى أصابتني. "أسجل" العشرات منها كل لحظة من النهار. وبعد تراكمها، وفرزها وضبطها تحت عناوين فرعية. تحولت إلى مادة لكتاب أخذت بتأليفه وأنا منشرحة. وعندما انتهيتُ من كتابته، وأعدت قراءته مرتين أو ثلاث، وجدت نفسي أفضله على كتبي السابقة.
لماذا أحب هذا الكتاب؟
لأنه ساعدني على فهم نفسي، على فهم تلك الحالات المبهمة التي كانت تصيبني كلما احتككتُ بما أرى أنه ينقصني. كتبته بعفوية، أحيانًا من دون العودة إلى دفتر "الملاحظات"، وبشهرين ونصف الشهر، أو ثلاث. وكنت مدفوعة بتجربتي المباشرة، بما رأيت وسمعت وخمّنت وشعرت، بمن تأثرت وأعجبت. صفتي كـ"عالمة اجتماع" كانت غائبة تمامًا عني، أو أنها لم تحضر كما يجب مع عالم الاجتماع، الذي يمَفْهم وينظّر ويؤشكل (من إشكالية)، يضع الفرضيات، يستشهد بكذا وكيت من "الكبار"، قليلًا أو كثيرًا أو بعِيار.
"حادثتان" عادتا إلى ذاكرتي وقتها بقوة، كأنهما كانتا محجوزتين في اللاوعي، والكتاب أخرجهما إلى الوعي، ومن دون أن تكونا على صلة مباشرة بالكتاب الجديد. الاثنتان حصلتا أثناء وجودي في باريس عام 1984، من أجل الدكتوراة.
الأولى مع كاتبة فرنسية اسمها ماري كريستين أولاس، ألّفت كتبا عن مصر ولبنان، تعرفت عليها عندما زارت بيروت، وأنا أعدّ الدكتوراة ميدانيًا. عدتُ والتقيتُ بها إذًا في باريس، وراحت تدعوني إلى هنا وهناك من المسارح والسينمات الباريسية. شاهدنا أعمالًا راقية، مثل "كارمن"، و"سيرانو دي برجراك"، و"اللذة الطيبة".... وعند نهاية العرض وخروجنا، نجلس كل مرة في المقهى، ونتكلم عن العمل، وتكون ناقدة قاسية له. أما أنا، فكنت معجبة بهذه الأعمال. نتحدث، وأسألها. فتجيب بكلام أفهمه لغويًا، من دون أن أستوعب تمامًا مغزاه. تذكر التجارب الفنية الماضية تبدو مشْبعة بدهر من الرواد والأعمال والنظريات، تتعامل معهم كلهم كبديهيات. وكل ما تعلمه وتفهمه، ليس فقط من كونها مثقفة، أو كاتبة متخصصة، إنما لأن يومياتها العادية مفعمة بالفلاسفة والشعراء والروائيين والتماثيل الفنية والمباني التاريخية والمسارح والمتاحف واللوحات التشكيلية.
وفي يوم، اتفقنا على حضور مسرحية من تأليف نوال السعداوي "امرأة تحت درجة الصفر". كنت وقتها معجبة بأعمال السعداوي، وشعرت بفخر خاص أن صديقتي مهتمة بعمل عربي سوف نشاهده سويًا. وبعد انتهاء العرض، كنت خائبة، وهي مزهوة به. نتحدث، أقول لها بأن المسرحية فيها كيت وكيت من العيوب "البدائية"، فيما هي تدافع عن قيمتها الفنية... نأخذ وقتنا في التفاصيل. ثم نسكت، فتنتهي جلستنا، بإعلان لماري كرستين، من النوع الذي لا يُنسى:
ــ تعلمين... بالنسبة لامرأة عربية... هذا عمل ممتاز...
ــ تعني أنك تنقدين أعمال كتابكم بمعايير "علمية صارمة"، وتشفقين على المؤلفين العرب، تلاطفينهم فتتساهلين معهم في المعايير ...؟!
ــ أنا فقط أشجع الكتاب والكاتبات العرب. ولا أستطيع أن "أحاكمهم"... لا يملكون ما نملك من أدوات... وبالنسبة لنوال السعداوي، كما قلت لك... كامرأة عربية عملها ممتاز.
الحادثة الثانية، حصلت بعد أشهر، أثناء مناقشتي لأطروحتي. وكان رئيس اللجنة التي تدير هذه المناقشة هو محمد أركون. أعجب أركون بالجانب الميداني من الأطروحة، ولكنه عاب عليها خلوها من المفاهيم والنظريات. كان قاسيًا في مداخلاته، وقلت في نفسي أنني لن أنال الدكتوراة. وبعد انتهاء المناقشة، ونيلي الدرجة، فاجأني أركون، يطلب مني بلطف أن نلتقي في مكتبه في الجامعة. وكنت أنا على شيء من الفضول لمعرفته. فكان اللقاء، ومديح أهل منطقتنا، وتعاطفه معهم، وإعجابه بأهل لبنان... والفينيق اللبناني... ثم عرضه عليّ أن أكون "مساعِدة" له، "أسيستانْت"، وأنا في لبنان. وبعد عودتي، تراسلنا، وأخذت أقرأ كتبه لأكون على مستوى هذه "المساعِدة". ولكن المشكلة أن هذه الكتابات صعبة ومعقدة. ليست اللغة هي الصعبة، إنما الإحالات. تزخر كتبه بالكلمات والمفاهيم والعبارات وأشياء... لكي تدركها، لا يكفي أن "تفهم" معناها، إنما عليك أن تعرف "تاريخيتها"، أصلها ومسارها وتطورها.... وجاءت ظروف الحرب الأهلية، واختطاف ابني، لتقطع المراسلة بيني وبين أركون، فأنساه وأنسى كتبه.
لكن الحصيلة مع أركون مربوطة بالقول المأثور لماري كريستين أولاس، هي سؤال جديد عليّ: من أنهم، في جامعة السوربون، منحوني الدكتوراة مسايرة، مجاراة، لوضعي كـ"امرأة عربية"... وآتية من منطقة حرب، تستحق الكرم.




هذه بداية تكوّن انطباعي عن نفسي، في خضم الكتابة والبحث. انطباع أستحي منه، يشعرني بالدونية. ولكن الوقت يتيح لي الاعتراف لنفسي بأنني في ما يخص النظريات والمفاهيم، مهما قرأت، مهما راقبت، لن يكون في مقدوري أن أتعامل معها بالألفة، أو الفهم اللازمَين.... طالما أنني لم استوعبها بما يمكّنني من التنظير. وقد يسري ذلك على "ماركسيتي" السابقة. هل استوعبتها فعلًا؟
كل هذا كان مختزنًا، خافتًا، مقنّعًا، قبل أن أقرأ للمرة الثانية، أو الثالثة، كتابي "مصر التي في خاطري".
ومن الحالات "المقنّعة" خلال المرحلة الماضية، وأنا أستاذة في الجامعة، عندما أشرفت على رسائل التخرج لطلاب كلية العلوم الاجتماعية، كان موقفي حازمًا بأن تتكون الرسالة من قسم "ميداني" وحسب، من دون القسم "النظري" الذي يسبقه عادة في الأطروحات. فالقليل من "النظري" الذي كنت أدرسه لهم، أو "أترجمه" لهم من الفرنسي إلى العربي، أو من العربي الفصيح إلى العربي العامي.... يعني مثلًا، كتب ابن خلدون، أو ألبرت حوارني، أو نصوص لدروكهايم، أو ماكس فيبر، أو مرسيل موس... هذا القليل يشعرني بأنهم يحتاجون، في الأصل، إلى من يعلمهم القراءة، بالعربي طبعًا، قبل الفرنسي. لا يعرفون كيف يقرأون كتابًا، كيف يفكرون. فما بالك بقسم "نظري" لم يستوعبوه، مجبرون عليه في الأعراف الأكاديمية للجامعة؟ وقد صار "ديكورًا" سهلًا، قصّ ولَصق، تتزين به الرسالة؟ كنت أقول لهم بأن ما يحتاجون إلى إثباته في القسم "الميداني"، هو مدى استيعابهم لبعض التعريفات والمفاهيم الضرورية البسيطة من المادة النظرية، التي خُصِّصتْ لها أصلًا علامات. فينجحون بذلك في عمل ميداني محترم، وفي امتحان تلك المادة "النظرية". وهكذا تتبين العلاقة التي يقيمونها بين "النظري" وبين "الميداني"، أؤكد لهم، عبر أمثلة عن مشروع الرسالة الخاصة بكل واحد منهم، تشجيعًا على التفكير.
وهؤلاء الطلاب يشبهونني ببعض المناحي. هم مثلي من العالم التابع، المتأخر، المختصِر، المنفصل عن حياته وثقافته، وحتى تدرجه المدرسي. مثلي انتقلوا من مدرسة إلى أخرى، من جامعة إلى أخرى، وهربوا وتهجروا وانقلبت حياتهم في لحظات، وتعلموا تحت القصف، أو الانفجار، والتعطيل... مثلي، لم ينالوا التعليم المنهجي منذ الصغر، ولا كانت حياتهم التعليمية مشوارًا هادئًا طويلًا. الفرق بيني وبينهم هو النسبة. وفي نقطة كبيرة صغيرة، هي كوني فرانكوفونية. أي أن الفرنسية هي بمثابة لغتي الأم. كبرت ونشأت عليها. أقرأ بها، أكتب بها، أفكر بها. لكنها فرانكوفونية، غير فرنسية. لم أنشأ، لم أكبر في ربوع فلاسفة فرنسا ومبدعيها، ولا تشبّعت عيني بتماثيلها ومبانيها ومتاحفها، ولا أجدادي حمَّلوني ذاكرتها، وحكايات عظمتهم ونكباتهم، ولا تشرّبتُ ثقافتها الشفاهية التي تختلط فيها مأثورات الأدب والفلسفة، بلغة خاصة اخترعها شارعها... فرانكوفونية، نعم، ولكن لستُ فرنسية. يمكن لي أن أخطو خطوة متقدمة نحو الثقافة الغربية السائدة وحدها الآن، ولكن ليس أبعد من فهم التعريفات والمفاهيم، بخطوطها العريضة، وبعض تفرعاتها.
هذا نوع من الوعي للفعل الكتابي كان في طور التبلور قليلًا في كتابي "السياسة أقوى من الحداثة". كان يفترض به أن يكون بحثًا عن الحداثة، بالشكل الهيكلي الذي ترتديه هذه الكتابات. ولكنني، أخذت حريتي قليلًا، بعد مقدمة "مفاهيمية"، وارتأيت بأن يكون بحثي على شكل قصص حياة لأفراد بعينهم، كما سبق وذكرت.
أعتقد بأنه عندما شرعتُ في كتابة "مصر التي في خاطري" هذا، كان ميلي قد نضج. أحدّق بالصور التي يمتلىء بها دفتري، فأكتب، بصفتي شاهدة عيان، أمتلك موردًا لغويًا وثقافيًا، هو خليط ما حصدته من مجالَي حياتي السياسية والخاصة، ونشاطي المعرفي. أحب "مصر التي في خاطري"، لأنه حررني من دون قصد من التزامات أكاديمية لم أكن بمستواها. وعندما أُلحِقُ كتابتي بواحدة من هذه الالتزامات، أشعر دائمًا أنها ناقصة، أو ربما في غير مكانها، أو أنني لم أفهمها كما يجب. ما وضعني أمام مسؤوليتي. فأخذت على عاتقي قصوري في فهمها واستيعابها. ما حررني من ادعاء المعرفة الأكاديمية. وكل فرع منها، أكان علم اجتماع، أو فلسفة، أو تاريخ... يدّعي شمولًا لا أفهم حيثياته.
بانتقالي إلى بيروت، أتوظف في مجلة "نوافذ"، كما ذكرت. كانت "واسطتي" السيدة بهية الحريري، شقيقة رفيق الحريري. قبل تفكيري بالعودة إلى بيروت، وأنا ما زلت في القاهرة، اتصلت بي السيدة بهية، ودعتني إلى زيارتها في منزلها. قالت إنها معجبة بما أكتب في صحيفة "الحياة" عن شقيقها بعد اغتياله، وعن مجمل الاغتيالات التي تلته. كان لقائي معها وديًا، عبّرت فيه عن رغبتها القوية بمعرفة ما يدور حولها. فكانت بيننا تلك العلاقة، الجديدة عليّ، كأن تحضر حفل توقيع كتابي "مصر ضد مصر".
وعندما شرعتُ بالعودة إلى لبنان، اتصلتُ بها، طالبة منها التدخل لإلحاقي بمجلة "نوافذ". فهذه الأخيرة تصدر عن "تيار المستقبل"، الذي بات يتزعّمه سعد الحريري، نجل رفيق الحريري.
وما سهّل انضمامي إلى المجلة هو غياب الشاعر بسام حجار. فكان حسن داوود، رئيس التحرير، صاحب الفضل الثاني في توظيفي، بطلبه من الإدارة أن أحلّ مكان بسام في هيئة التحرير.

(يتبع...).

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.